لم يعد مطلب الحد من السفر الجوي لتقليل الانبعاثات حكراً على نشطاء المناخ، بل تبناه أيضاً جزء من قطاع الطيران الذي يجد مع ذلك صعوبة في تغيير النموذج السائد منذ عقود شهدت نمواً قوياً.
أدت جائحة كوفيد-19 إلى تراجع بنسبة الثلثين في أعداد المسافرين سنة 2020 مقارنة مع أرقام العام السابق. بيد أن شركات الطيران والمطارات تعوّل على عودة الحركة بوتيرة شبيهة بتلك المسجلة ما قبل الأزمة الصحية العالمية ليصل عدد المسافرين الجويين في العالم إلى عشرة بلايين في منتصف القرن الحالي مقابل 4,5 بليون في 2019.
ويتمثل التحدي الذي يواجهه القطاع بتحييد أثره المناخي بحلول سنة 2050، تماشياً مع التعهدات التي قطعها ولهذه الغاية، يعوّل قطاع النقل الجوي على محروقات مستدامة وابتكارات أخرى بينها الطائرات العاملة على الهيدروجين وتحسين المراقبة الجوية.
غير أن هذا الرهان دونه محاذير وفق البعض. فقد حذرت منظمة “غرينبيس” البيئية بفرعها الفرنسي من أن “المراهنة بالكامل على خيارات الطيران الصديقة والابتكارات التقنية أمر غير مسؤول”، داعية المسؤولين إلى “الانكباب على المراقبة اللازمة لحركة الملاحة الجوية”.
وقد لقيت هذه الدعوة تأييداً من متخصصين في قطاع الطيران اجتمعوا أخيراً مع ناشطين وفعاليات في منطقة تولوز الفرنسية ضمن مجموعة “Pensons l’aeronautique pour demain” (“فلنفكر بقطاع طيران المستقبل”).
خفض مستوى الملاحة الجوية
وكتب أعضاء المجموعة في تقرير نُشر في آب (أغسطس) 2021 “بما أن قطاع الطيران يجب أن يقلّص مستوى انبعاثاته من الكربون بدرجة كبيرة بحلول 2035، ولا توجد أية وسيلة تكنولوجية تتيح التخفيض ضمن النسب المطلوبة، نخلص إلى أن من الضروري خفض مستوى الملاحة الجوية العالمية”.
وفي مطلع آذار (مارس)، دعت منظمة “ترانسبورت أند إنفايرومنت” غير الحكومية أيضاً إلى الحد من التنقلات، خصوصاً رحلات الأعمال، من خلال زيادة الضرائب على القطاع وإدراج الرحلات الجوية إلى خارج القارة الأوروبية ضمن حصص الانبعاثات الأوروبية.
ويقول رئيس اتحاد “Aero Decarbo”، أوليفييه ديل بوكيا، إن هذه الانبعاثات للرحلات الطويلة لا تُدرج في حسابات أي من البلدان. ويكافح الاتحاد المؤلف من مهندسي طيران من أجل إقامة “ميزانية كربونية” عالمية يتعين على قطاع الطيران العالمي عدم تخطيها، بشكل متناسب مع مساهمته في انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون والتي بلغت 2,56 في المئة سنة 2018.
ويوضح أن “درجة الحرارة سنة 2050 لن تعتمد على انبعاثات ذلك العام، بل على تلك الصادرة منذ الآن وحتى 2050”.
وأقام اتحاد “Aero Decarbo” سيناريوهات عدة مع منظمة “ذي شيفت بروجكت” غير الحكومية، تبعاً لسرعة تنفيذ الحلول التكنولوجية الرامية إلى تقليص الانبعاثات. وحتى في السيناريو الأكثر تفاؤلاً، مع الاستعانة بدرجة كبيرة بمصادر محروقات بديلة، فإن هذه “الميزانية الكربونية” للقطاع الجوي ستُستنفد قبل 2050، وفق حساباتهم.
ويقول رئيس الاتحاد إنه “من غير المنطقي التجاهل الكامل لخيارات الترشيد”، رغم صعوبة تقبل ذلك من القائمين على القطاع الذين اعتادوا تحقيق نمو كبير على مدى عقود.
الموازنة بين البيئة ومطالب المستهلك
ويوضح رئيس شركة “ايربالتيك” اللاتفية للرحلات المنخفضة التكلفة، مارتن غاوس، لوكالة فرانس برس “نعرف أننا سنحصل على تكنولوجيا “(الطائرة الهيدروجينية) عام 2035 على أقرب تقدير، لكن في الوقت عينه، علينا تحقيق نمو للحفاظ على نشاطنا وقدرتنا التنافسية”.
وإذ يدافع عن القطاع الذي “يستثمر البلايين لبلوغ مستوى الانبعاثات المعدومة”، يحذّر غاوس من “نقاش شديد التعقيد” يلوح في الأفق في حال “تعيّن على السياسيين أن يشرحوا لناخبيهم من سيحق له الطيران ومن سيُحرم هذا الحق”.
ويلفت الأستاذ المساعد في الاستراتيجيات والتسويق في كلية التجارة في مدينة مونبيلييه الفرنسية، بول تشامباريتو، إلى حصول “تغيير في النظرة إلى الأمور منذ سنتين أو ثلاث سنوات” لدى بعض المهنيين العاملين في القطاع.
ويقول “ثمة مزيد من شركات الطيران التي تصرح بأن هدفها ليس بالضرورة زيادة عدد الركاب، بل تحسين ظروف تسيير الرحلات” من خلال التركيز على الخطوط التي لا يتوافر أي بديل لها.
لكن الأمر منوط أيضاً بتقبل المسافرين لهذه المساعي خصوصاً في ظل الازدياد المتوقع في أسعار تذاكر الطيران لتمويل “الثورة الخضراء” في القطاع.
ويؤكد تشامباريتو أن “السؤال الأكبر المطروح والذي ليس له جواب في فرنسا أو أوروبا حتى اللحظة، يتعلق بالموازنة بين رفاه المستهلكين والإشكاليات البيئية”. (عن “أ ف ب”