أعلن معهد الأبحاث البريطاني الشهير “فرانسيس كريك” (The Francis Crick Institute) إبرام شراكة مع شركة “ديب مايند” (Deep Mind) رائدة برمجيات الذكاء الاصطناعي التي تتبع شركة “غوغل” (Google). ويعد هذا التعاون هو الأول من نوعه -والأوحد حتى الآن- الذي تبرمه شركة “ديب مايند” مع معهد بحثي خارج حدود الشركة.
ووفقا للتقرير الصحفي الذي نشره معهد “فرانسيس كريك” في السادس من يوليو/تموز الجاري، فإن هذا التعاون يهدف إلى تعزيز فهمنا لعلم الأحياء خاصة في مجالي تصميم البروتينات وعلم الجينوم.
وتشمل الشراكة -التي أبرمت لعدة سنوات- إنشاء مختبر أبحاث خاص بشركة ديب مايند داخل معهد فرانسيس كريك، وذلك للجمع بين خبرات علماء المعهد وبين خبرة ديب مايند في الذكاء الاصطناعي من أجل دراسة آليات الصحة والمرض.
وللذكاء الاصطناعي اليوم تأثير مباشر بالفعل على حياتنا.؛ إذ نرى أمثلة له في تقنيات القيادة الذاتية، وفي تعقب سماعات الرأس.
وبدأت فكرة تأسيس معهد فرانسيس كريك عام 2007، استجابة لتقرير مستشار السياسات ديفيد كوكسي، الذي عينته ملكة بريطانيا لرئاسة فريق معني بتطوير العلوم البيولوجية وهيكلة نهج جديد للبحوث الطبية في المملكة المتحدة.
وبحلول صيف 2011، كانت الرؤية العلمية للمشروع -والأسس الفريدة لتصميم مبنى له على أحدث طراز- على وشك الاكتمال. وسمي المشروع فرانسيس كريك، تيمنا باسم العالم البريطاني الذي أسهم في فهم بنية “اللولب المزدوج” (DNA). وافتتحت الملكة المعهد رسميا في نوفمبر/تشرين الثاني 2016، وبدأ العمل بكامل طاقته بحلول ربيع 2017.
ويعمل المعهد -الذي يرأسه بول نيرس الحاصل على جائزة نوبل عام 2001- منذ إنشائه على جذب أفضل العقول العلمية في مجال الطب الحيوي عالميا. وعلى الرغم من حداثته، فإن المعهد حلّ في المركز الرابع عالميا وفقا لتصنيف “مؤشر دورية نيتشر” لمعاهد الأبحاث في مجال العلوم الحيوية عام 2022.
وعلى الجانب الآخر، تأسست شركة ديب مايند بصفتها شركة مستقلة عام 2010 في المملكة المتحدة. وانضمت إلى شركة غوغل عام 2014. وتهدف الشركة إلى تطوير خوارزميات تعلم الآلة بشكل يجعلها تحاكي -أو تتفوق على- الذكاء البشري، ومن هنا عرف هذا المجال باسم الذكاء الاصطناعي.
ففي عام 2016، استطاع أحد برامج الذكاء الاصطناعي -الذي طورته شركة ديب مايند والمعروف باسم “ألفا غو” (Alpha Go)- التغلب على لي سيدول اللاعب الكوري وأحد محترفي لعبة “غو” (Go) القديمة، وهي اللعبة اللوحية الأكثر تعقيدا في العالم.
وفاز برنامج ألفا غو على هذا اللاعب صاحب ثاني أكثر عدد من الانتصارات الدولية في هذه اللعبة. وفاز البرنامج عليه في 4 أشواط مقابل شوط واحد. وهذا شكل صدمة لخبراء الذكاء الاصطناعي بما قد يحققه هذا الذكاء في المستقبل القريب.
الذكاء الاصطناعي في علوم الأحياء
وأدرك ديميس هاسابيس -الرئيس التنفيذي والشريك المؤسس لشركة ديب مايند- أن خوارزميات الذكاء الاصطناعي التي طورتها شركته أصبحت لديها قدرة قد تسهم في حل المشاكل الأساسية. وكانت معرفة بنية البروتينات ثلاثية الأبعاد إحدى هذه المعضلات التي كانت عائقا أمام الباحثين طيلة 50 عاما.
ويستخدم العلماء تقنيات معقدة ومكلفة للغاية لمعرفة الشكل الدقيق لكل بروتين داخل جسم وكيفية عمله ثم تصميم أدوية خاصة بأي خلل قد يصيبه. غير أن اكتشاف الشكل التركيبي لأحد هذه البروتينات يتطلب سنوات من العمل الدؤوب الشاق.
ولذا، قررت ديب مايند التصدي لهذه المشكلة. وعكفت على تصميم خوارزمية “تعلم الآلة” يمكنها التعلم من بنية البروتينات المعروفة الشكل -التي اكتشفها العلماء من قبل- في التنبؤ ببنية البروتينات غير المعروفة.
وبالفعل، نجحت الشركة عامي 2020 و2021 في تصميم برنامج ذكاء اصطناعي يعرف باسم “ألفا فولد 2” (Alpha Fold2) الذي أمكنه التنبؤ بشكل البروتينات ثلاثي الأبعاد بدقة عالية تقارب النتائج العلمية. وكان هذا الأمر هو أعقد ما نجحت فيه شركة ديب مايند على الإطلاق حتى الآن.
شراكة تدفع بحدود العلم
وتعد معرفة الشكل ثلاثي الأبعاد الخاص بالآليات الخلوية -كالبروتينات وغيرها- أساسا لفهم وظيفتها. كما أنها حجر الزاوية في تصميم أدوية جديدة.
وفي واقع الأمر، كان التحول من الألعاب إلى العلوم هو السبب الرئيس الذي دفع هاسابيس إلى تأسيس شركته؛ إذ يحاول علماء الشركة الآن تطوير خوارزميات الذكاء الاصطناعي لفهم المعضلات الأساسية في العلوم.6
غير أن المشكلات التي تواجه عالم الأحياء ما زالت على قدر كبير من التعقيد. وعلى الرغم من نجاح “ألفا فولد 2” في التنبؤ ببنية وحدات البروتينات المفردة، فإنها لم تحقق النجاح ذاته للمعقدات البروتينية التي تتألف من عدد من هذه الوحدات المفردة.
ولذا، فإن تعاون علماء الذكاء الاصطناعي مع علماء المختبرات دخل طورا جديدا من أجل فهم الأسس المعقدة التي تلعب دورا جوهريا في الصحة والمرض.
وهو الأمر الذي أكدته الشراكة الحديثة بين عملاقي البحوث الطبية والذكاء الاصطناعي. مما قد يعد بفتح مجال جديد في البحوث الطبية في السنوات القليلة المقبلة.