| تشكل مسألة الإدارة السليمة بيئيا للنفايات واحدة من كبريات المسائل البيئية في بلداننا العربية في المشرق والمغرب. وتشكل هذه المسألة تحديا كبيرا، لما لها من تأثير كبير على الصحة والبيئة والاقتصاد والمجتمع. نشأت في العام 2009 شبكة إقليمية لتبادل المعلومات والخبرات بين دول المشرق والمغرب، بمبادرة ودعم حكومة جمهورية ألمانيا الفدرالية، من خلال الوكالة الألمانية للتعاون الدولي GIZ، وضمت لبنان، والأردن، وفلسطين، وسوريا، واليمن، ومصر، وتونس، والجزائر، والمغرب، وموريتانيا. تنشد هذه الشبكة لأن تتحول إلى منظمة إقليمية، وسيتم ذلك بعد تصديق الحكومة التونسية، بعد اليمن، لتصبح منظمة إقليمية تحمل إسم “سويب-نت”، تؤمن التواصل والديمومة، باعتبارها شخصية قانونية لتبادل المعلومات والخبرات في مجال إدارة النفايات. مركز أمانتها العامة العاصمة التونسية تونس.
عقدت شبكة “سويب-نت” SWEEP-NET المنتدى الإقليمي الخامس حول إدارة المخلفات، تحت عنوان “الحلول الاقتصادية والاجتماعية لإدارة مستدامة للبيئة” بين 14 و16 نيسان –إبريل 2015، في مدينة تونس. وناقشت، على مدى الأيام الثلاثة، برنامجا غنيا ومكثفا من القضايا النظرية والتطبيقية والاستراتيجية، المتعلقة بإدارة النفايات، وحماية البيئة بكل أوساطها من التلوث، وحماية الصحة البشرية، ورفاه الإنسان. وكانت عالية التنظيم، حيث نظمت جلسات متوازية في العديد من المواضيع، شارك فيها ممثلون عن السلطات والأطراف المعنية بالنفايات، من القطاع الخاص، والأكاديميا، والمنظمات الدولية والإقليمية، والمنظمات غير الحكومية والخبراء، وممثلي المجتمع المدني والإعلام البيئي، في كل بلدان الشبكة من المشرق والمغرب، والعديد من دول العالم، من أوروبا والبنك الدولي وغيره من المنظمات، ولا سيما الوكالة الألمانية للتعاون الدولي.
ولأول مرة في تاريخ هذه الشبكة، والمؤتمرات المماثلة، تم تنظيم مبادرة استثنائية، من حيث فكرتها وريادتها وحسن تنظيمها، ووقعها على كل المشاركين، على تنوعهم واختلاف رؤاهم ومواقفهم، تمثلت بتنظيم “مناظرة” مباشرة، بين وجهتي نظر متناقضتين، بشأن اعتماد الحرق، كواحد من الخيارات في معالجة النفايات الصلبة المنزلية. من هم مع اعتماد هذه التقنية، ومن هم ضدها. حيث أتيح للفريقين بعرض براهينهم وتعليلاتهم العلمية والتقنية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية والصحية، آخذين كمثال، الحالة اللبنانية، لما يشهده لبنان من صراع واسع وساخن، بين الخيارات والسياسات، التي تتبناها وزارة البيئة من جهة، وتلك، التي تتبناها الحركة البيئية اللبنانية، والجمعيات والتجمعات والتحالفات البيئية الأخرى والعديد من الخبراء في لبنان. فالسياسة الرسمية، والتي تحظى بتأييد بعض الخبراء والمستشارين، وبعض الأوساط الأخرى، التي لها مصالح تجارية، أو تسويقية، أو مصالح أخرى، تتبنى اعتماد المحارق، تحت تسميات مختلفة، غالبا ما تهدف إلى التمويه على “الحرق” كتقنية مرفوضة بقوة من قبل كل الحريصين على حماية البيئة والصحة والعامة ورفاه الإنسان. فالخطة تنوي السير بإقامة 4 محارق في مختلف المناطق اللبنانية، تسميها حينا “تقنية التفكك الحراري” وحينا آخر “تقنية استرداد الطاقة من النفايات” وغيرها، بغية التهرب من استخدام مصطلح “المحارق”، الذي يستفز أكثرية ساحقة من أوساط المجتمع، ولا سيما حماة البيئة والصحة العامة.
تم تنظيم المناظرة تحت عنوان “الحرق كحل للمشكل؟ التجربة اللبنانية”. وتم تقديم المناظرة، “باعتبار حرق النفايات، أو ما يسمى بـ”المعالجة الحرارية” أو “التحويل من النفايات إلى طاقة” يمثل الحل، الذي يختاره العديد من الدول. تحول عملية الحرق المواد غير المرادة إلى رماد وغاز مداخن وطاقة. ولكن هل أن الحرق هو الحل الأنسب؟ ما هي الاستثمارات والتكاليف التشغيلية المعنية وما هي العائدات؟ ما هي الإطارات القانونية والتنظيمية المطلوبة؟ ما هي الآثار المترتبة على البيئة وعلى الصحة العامة على المدى الطويل، إذا لم يتم التعامل مع هذا الامر بالشكل الصحيح؟ ستتم مناقشة الإيجابيات والسلبيات بصفة مفصلة مع خبراء تقنيين وممثلين عن الحكومات، بالإضافة إلى ممثلين عن المجتمع المدني بلبنان”. وقام منظمو المنتدى الخامس لـ”سويب-نت” بدعوة إثنان من مؤيدي الحرق وهما : المهندس مروان رزق الله، ممثلا لوزارة البيئة اللبنانية، والدكتور المهندس عصام جراجرة، أستاذ مبرز بمعهد المصدر، الإمارات العربية المتحدة. وإثنان من رافضي الحرق وهما: الاستاذ بول أبي راشد، رئيس جمعية “تير” لبنان، ورئيس الحركة البيئية اللبنانية، والدكتور المهندس ناجي قديح، خبير بيئي أول، من منظمة :إندي آكت” لبنان، والحركة البيئية اللبنانية، والإثنان مستشاران لدى موقع www.greenarea.info المتخصص بالبيئة.
قدم الفريق المؤيد للحرق خلفياته وبراهينه ومرتكزات رؤيته، التي تركزت حول ثلاثة محاور أساسية: • اعتراضات السكان على المطامر بعد تجربة مطمر الناعمة عين درافيل، • اعتبار الحلول التي تطرحها الحركة البيئية والمجتمع المدني البيئي في لبنان، المرتكزة على الفرز من المصدر، واعادة التدوير، وتسبيخ المكونات العضوية للنفايات، غير ممكنة، وصعبة التحقيق، • اعتبار أن المحارق هي الحل الأفضل، خاصة وأن المحارق موجودة في فيينا وباريس وهولندا الخ… مع إمكانية استرداد الطاقة من النفايات. جهد الفريق المؤيد للمحارق بالتركيز على سلبية تجربة الطمر في لبنان، وعلى أن ضيق مساحة لبنان وكثافته السكانية لا تسمح بالمطامر، خاصة وأن هناك اعتراض كبير من الأهالي على ذلك. وكذلك تم تركيز هذا الفريق على أن التقنيات المقبولة في البلدان المتقدمة يمكن أن تشكل الحل الأفضل للبنان. وتوسع هذا الفريق في التأكيد على فشل كل محاولات الفرز والتدوير والتسبيخ، التي تمت في لبنان.
أما الفريق المعارض للمحارق فتركز بحثه في ثلاثة محاور: • محور سياسي بيئي، يظهر أهمية دور البلديات والإدارة اللامركزية للنفايات، وضرورة رفع اليد عن أموال الصندوق البلدي المستقل، والبناء على التجارب الناجحة لبعض البلديات والجمعيات البيئية في مختلف مناطق لبنان، المتعلقة بالفرز واعادة التدوير والتسبيخ. وأن تجارب الجمعيات قد نجحت رغم قلة الامكانيات والقدرات المالية، فكيف إذا ما تحولت هذه الرؤية إلى سياسة للدولة وإلى خطة وطنية تجند لها قدرات الدولة المالية والتنظيمية والمؤسسية، إلى جانب البلديات ومنظمات المجتمع المدني والحركات البيئية والمؤسسات التربوية. وتم التأكيد على أن فشل سياسة الطمر، وهي بالأساس كانت خيار وزارة البيئة والدولة في العام 1997، ولا تعبر أبدا عن رؤية المجتمع المدني للإدارة السليمة بيئيا للنفايات، لا يمكن أن يكون مبررا مقبولا للانتقال إلى خيار أكثر خطرا على البيئة والصحة العامة، وبالتالي أكثر فشلا. ويرفض البيئيون ابتزاز المجتمع اللبناني وحصر البحث في خيارين، الطمر أو الحرق وكلاهما مرفوض، لما يشكله ذلك من مصادرة للإدارة اللامركزية لهذا الملف، ومصادرة لأموال الصندوق البلدي المستقل، لصالح سياسات مركزية، تعتمد خيارات غير مستدامة، ومدمرة للبيئة وملوثة لها، ومهددة للصحة العامة ورفاه الإنسان. • تفنيد مقولة استرداد الطاقة من النفايات الصلبة المنزلية في لبنان. وهنا تم إظهار ضعف مصداقية القول باسترداد الطاقة، إذ انطلاقا من تركيب نفاياتنا، التي تحتوي على أكثر من 50% مكونات عضوية، ويمكن لهذه النسبة أن تصل لـ55 -60% في فصلي الربيع والصيف، وذلك بسبب عادات اللبنانيين والعرب الغذائية، التي تتميز باستهلاك كبير للخضار والفواكه، لا يمكن البحث اصلا في هذا الخيار. ومن المعروف أن هذه المكونات العضوية تحتوي على أكثر من 50% من وزنها رطوبة، أي ماء، وهذا ما يرتب استهلاكا لكمية كبيرة من الطاقة، ضرورية لتبخير الماء وتجفيف المادة العضوية. أما المكونات الأخرى، المحتوية على كمية معقولة من الطاقة، مثل البلاستيك والورق والكرتون، لا تزيد نسبتها عن 30%، يصلح معظمها لإعادة التدوير، حيث تستقبلها مصانع الورق والبلاستيك اللبنانية.
يبذل استشاري وزارة البيئة ومجلس الإنماء والإعمار Romboll، الذي أعد دراسات النفايات في لبنان، جهودا مضنية، في تضخيم الأرقام، حول كمية النفايات المنتجة في لبنان، إذ يتحدث عن ما يزيد عن 7 آلاف طن يوميا، محتسبا النازحين السوريين، الموجودين في لبنان بصورة مؤقتة، بسبب ظروف بلدهم الحالية، في دراسة استراتيجية لنفايات لبنان، وهذا بالطبع مخالف للموضوعية العلمية. ونحن نطالب بوضع خطة خاصة للتعامل مع النفايات، المتولدة عن مراكز وجود النازحين السوريين في لبنان. ومن جهة أخرى، يجهد هذا الاستشاري في القص واللصق، وتكييف الأرقام بشأن كميات النفايات، بطريقة اعتباطية، لكي تلبي الشرط الأساسي المطلوب، لمجرد البحث باسترداد الطاقة من النفايات، ألا وهو: أن تفوق القيمة الحرارية الدنيا للنفايات حد الـ MJ/kg7. فنراه يقترح سحب 20% من المواد العضوية للتسبيخ، وذلك للتخفيف من كمية الرطوبة في مجمل النفايات، ويشترط من جهة أخرى، أن يصار إلى المحافظة على مجمل كميات الورق والكرتون والبلاستيك في النفايات، أي منع جمعها والذهاب بها إلى إعادة التدوير، أو معالجتها بهدف تصنيع وقود، يتوافق مع مواصفات دولية مقبولة، لاستعماله في الصناعية. ونحن نرى أن هذه القيمة الحرارية، التي يتحدث عنها Romboll قد جرى تضخيمها، حيث هي لا تتجاوز الـ 4.5 –5 MJ/Kg، حسب دراسات وأبحاث أكاديمية في الجامعات اللبنانية. وفي لقاءاتنا مع الخبراء الأجانب، على هامش منتدى سويب-نت في تونس، عرفنا بأن Romboll ما هو إلا مؤيد ومروج عالمي للحرق والمحارق، في إطار منظمة ISWA الأوروبية.
• شرح تفصيلي لتقنية حرق النفايات، وما يتولد عنها من منتجات، بمعظمها تصنف انبعاثات ونفايات خطرة، تتطلب أن يتم التعامل معها وفق شروط خاصة، لمعالجتها والتخلص منها. إن حرق النفايات، وهي خليط واسع من المركبات والمواد الكيميائية، يتم على درجات حرارة عالية تفوق الـ 1000 درجة مئوية، فتتفكك، وتتفاعل فيما بينها، لتولد مركبات جديدة، لم تكن موجودة أصلا في المواد الداخلة، وهذه العملية تسمى تقنيا “كراكاج” Craquage، ينتج عنها تولد مجموعة كبيرة من المركبات الكيميائية السامة، الخطرة على البيئة والصحة العامة. هذه المركبات تنبعث في الهواء الجوي، ويمكن أيضا التقاطها بالادمصاص Adsorption على سطح الجسيمات الصغيرة ومتناهية الصغر Fine & ultra-fine particulate maters، لتصبح مع ذلك ملوثا عالي الخطورة على الصحة البشرية، إذ تنتقل مع الجزيئات الصغيرة ومتناهية الصغر إلى الحويصلات الهوائية في الرئتين، مما يسهل دخولها الفوري إلى الدورة الدموية، وانطلاق تأثيراتها السامة.
تتحول المواد عند حرقها إلى غازات، ورماد. فالغازات، كلها ملوثات للهواء الجوي، ومعظمها كبير الأثر الضار، وبعضها عالي السمية على الصحة البشرية، وملوث خطير للبيئة. والرماد نوعان، الخفيف المتطاير، وهو ينطلق مع الغازات باتجاه المدخنة إلى الهواء الجوي، والثقيل الصلب، الذي يرقد في أسفل غرفة الاحتراق. وحسب التصنيفات العالمية للنفايات الخطرة، التي تنص عليها اتفاقية بازل بشأن النفايات الخطرة، يصنف الرماد الخفيف المتطاير، نفاية خطرة، يجب التعامل معها على أساس هذا التصنيف، وان تتم معالجتها والتخلص منها بطرق خاصة، وفي مواقع خاصة لاستقبالها. أما الرماد الثقيل فيصنف نفاية تحتاج إلى “عناية خاصة”، إذا ما احتوت على مكونات خطرة بتراكيز تتجاوز حدا معينا، تصنف نفاية خطرة، ويجب أن تعالج وتصرف في مواقع خاصة باستقبال النفايات الخطرة.
ولا بد من وضع تجهيزات مراقبة وأجهزة للتحكم بالتلوث، تابعة للمحرقة. فيتم وضع المصافي، لالتقاط الجزيئات الصغيرة، ووضع أبراج الغسيل، لغسل الغازات ومعالجتها كيميائية بالأحماض والقلويات، بهدف التخفيف من انبعاثاتها. وبالتالي يتولد عندنا نفايات سائلة تحتوي على مواد كيميائية، تصنف خطرة، وهي بحاجة لمعالجة قبل رميها في البيئة، يابسة، أو نهر أو بحر. وهكذا، فإن الرماد المتطاير، والجزيئات الملتقطة في المصافي من كل نوع، الأكياس، أو الكهربائية، علينا معالجتها، والتخلص منها في مواقع خاصة باستقبال النفايات الخطرة. وبالتالي، أصبحت المحرقة، منشأة من الضروري أن يتم إلحاقها بمنشأة مطمر هندسي خاص باستقبال النفايات الخطرة (الرماد المتطاير، الأغبرة والجزيئات الملتقطة في المصافي، والرماد الثقيل). وكذلك، يجب إلحاقها بمحطة لمعالجة النفايات السائلة الخطرة الآتية من أبراج غسيل الغازات. إذن المحرقة هي منشأة مركبة، عالية كلفة الإنشاء والتشغيل، وهي “مصنعا” مثاليا لتحويل النفايات غير الخطرة إلى نفايات خطرة بكلفة إنشاء وتشغيل خيالية. وإذا ما عرفنا، وفق أحدث تقارير صادرة عن معاهد أبحاث أوروبية، أن نسبة كبيرة من الجزيئات متناهية الصغر، تنبعث في الهواء الجوي، ويستحيل على أحدث وأدق المصافي، التقاطها. وكذلك هناك نسبة هامة من الغازات الضارة، تتجاوز أبراج الغسيل وتنطلق في الهواء الجوي لتلوثه، وهي كلها ملوثات عالية السمية والخطورة على الصحة العامة، ومسببة لأمراض خطيرة ومميتة ومزمنة.
وإذا أضفنا، الكلفة الصحية للتلوث الناتج عن السموم المتولدة عن المحارق، غازات وجزيئات، والتي تقاس بعشرات، بل ومئات ملايين الدولارات، إلى مئات ملايين الدولارات الضرورية لإنشاء وتشغيل المحارق، نكون قد بلغنا أرقاما قياسية، يتحملها المكلف اللبناني، الذي ينوء أصلا تحت عبء الديون وغلاء المعيشة، وذلك في عملية عبثية، وخيار منافي للعقل والعقلانية، في مسألة النفايات، التي هي في الأساس موارد لها قيمة، علينا تشغيل العقل والعلم والأخلاق، لاستردادها بطرق سليمة بيئيا، وآمنة صحيا، وبما يساعد على التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وهذا ما تؤمنه الخطة، التي يتبناها البيئيون في الفرز واعادة التدوير والتسبيخ، وما يتبقى يمكن تصنيعه وفق مواصفات دولية لوقود صناعي، ويتم التخلص من العوادم الخاملة بطرق لا تؤثر على البيئة والصحة العامة ورفاه الإنسان.
لهذه الأسباب والبراهين والأدلة العقلية والعلمية والمنطقية، نحن نعارض خيار الحرق بشدة، وسوف نواجهه بكل الوسائل المتاحة والممكنة.