أنور عقل ضو |
ردود الفعل المتوقعة على مواقف البابا فرنسيس في الوثيقة البابوية التي كرسها للبيئة والمناخ، ولا سيما الشاجبة منها، تؤكد أن الرسالة وصلت، لا بل أحدثت صدعاً في جدار البناء الاقتصادي الحر المتفلت من ضوابط وقيود، وغير المحكوم في الآن عينه بمعيار أخلاقي، فانتقاد البابا “المجتمع الاستهلاكي وتدمير البيئة وإخضاع السياسة للاقتصاد“، يؤكد أن ما يواجه العالم من مشكلات هي نتاج هذا الاتجاه الاقتصادي الذي وصفه الباحث ديفيد هارفي بـ “التدمير الخلاق” في وصفه لعملية التحول التي قامت عليها الليبرالية الجديدة في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، وهي مثلت الاتجاه الذي سيطر أتباعه على المراكز الحساسة التي تتحكم بالسياسات الاقتصادية في العالم.
بالتوازي، نجد أن البابا فرنسيس أطل برؤية مبسطة على الأخطار المحدقة بالعالم، لكنها طاولت في العمق جوهر الأزمات الماثلة الآن، من السياسة إلى الاقتصاد فالبيئة وسائر النظم الاجتماعية “المعولمة” لصالح اقتصاد السوق، وهنا يتبدى الجانب الأخطر في ما نشهد من تحولات مخيفة في بنية النظام العالمي، تلتقي مع ما ساقه كل من أستاذ علم الاقتصاد الاجتماعي آلان كايي وأستاذ الاجتماع الفرنسي بيير بورديو، حين اعتبرا أن الإنسان كائن اجتماعي وليس كائناً اقتصادياً، وخَلُصا إلى أن تجارب العقد الأول من الألفية تؤكد أن النمو الاقتصادي وحده لن يوصل البشرية إلا لــ “الموت الجماعي“.
وهذا ما أكد عليه ديفيد هارفي من أن الاستهلاك المتزايد للموارد الطبيعية العامة، أي الأرض والمياه والهواء، وتعاظم تدهور المَواطن الطبيعية من خلال سياسات لا تحفز سوى أنماط انتاجية كثيفة الاستهلاك والتمويل، نتج من سياسة تسليعية للطبيعة ككل، وبكل أشكالها.
ولا نستغرب أن تشن صحيفة “نيويورك تايمز” هجوما “بلسان آخرين” على رأس الكنيسة الكاثوليكية، في توصيفها “أن البعض” يشعر بالغضب من تدخل البابا فرنسيس الأول في أمور لا تتعلق بالكنيسة“، وغمزت الصحيفة من قناة المرشحين الجمهوريين وبينهم حاكم فلوريدا السابق جيب بوش الذي رأى أن الكنيسة الكاثوليكية يجب “أن تبتعد عن هذه القضية“.
نعلم أن أقطاب المال في الولايات المتحدة الأميركية وظفوا واستثمروا في الإعلام، ليتمكنوا من مراكمة رأي عام في صالح استثماراتهم، فلم تتوانَ الصحيفة الأعرق في العالم عن التأكيد بأن “بعض الصناعيين والسياسيين والمعارضين يرون أنه ينبغى على البابا أن يلتزم بالدين ويتوقف عن التدخل في أمور لا شأن له بها“، وكأنهم أرادوا القول “لا تتدخل بما لا يعنيك!”، خصوصا وأن البابا حاصر “الملوثين” في نقده لأنماط الانتاج واقتصاد السوق.
يبدو من الآن أن “رسالة الفاتيكان البيئية” ستشعل المفاوضات التمهيدية لمؤتمر المناخ الذي ترعاه الأمم المتحدة في باريس مطلع كانون الأول (ديسمبر) المقبل، ولن يتلهى بعدها المفاوضون بتفاصيل وقشور، وسيكون البابا فرنسيس “حاضرا” المؤتمر في ما حدد من عناوين وأفكار، والأشهر القليلة المتبقية كفيلة بالإجابة عن أسئلة غير مرتبطة بالحد من ظاهرة الاحتباس الحراري فحسب، وإنما بما نشهد من انهيار قيم إنسانية من خاصرة الاقتصاد والمصالح.