سوزان أبو سعيد ضو |
غالباً ما نواجه تعديات على مجاري الأنهر الشتوية، وسط ما نشهد من فوضى وفساد، لكن أن يتحول مجرى مياه إلى طريق للشاحنات! فهذه سابقة نضعها برسم وزارة البيئة، وتاليا وزارة الطاقة والمياه، كونها جريمة موصوفة لم نعرف مثيلا لها من قبل، فما نحتته الطبيعة على مدى ملايين السنين تم تخريبه في أشهر قليلة، أما من هم في مواقع السلطة فينظِّرون ويلقون دروسا عن الاستدامة وحماية البيئة في مكاتبهم.
فضيحة طاولت بقعة خضراء بين بلدتي جدّايل وحصرايل في قضاء جبيل، امتدت إليها يد العبث والجهل، وغُيِّبت عن بعض وسائل الإعلام بقوة النافذين ممن يملكون مصانع وكسارات وبعضهم غير بعيد عن من كانوا ومن هم في مواقع السلطة.
في الطريق من حصرايل بدا واضحا حجم التخريب فيما كنا نسلك مجرى النهر الشتوي باتجاه جدّايل وقد تحول طريقا للشاحنات، تم ردمه ورصفه بالصخور وتغطيته بحصى ناعم، أما المفاجأة فتمثلت في تعبيد جزء من “الطريق” بالزفت، فضلا عن جذوع أشجار معمرة اجتثتها الجرارات، فيما الغبار يغطي أشجارا سيكون مصيرها اليباس، خصوصا وأن الغبار يعطل عملية التمثيل الضوئي Photosynthesis للأشجار والنباتات ويؤدي إلى هلاكها.
وقد رصد green area ما هو قائم في جولة ميدانية أظهرت حجم الأضرار وعدم مراعاة الشروط الدنيا للبيئة والصحة، وأقرب توصيف لما شاهدناه بأم العين هو تخريب وتلويث للمياه والهواء والتربة، وفضيحة قانونية بكل المقاييس، ذلك أن القانون يمنع التعدي على حرم الأنهر فكيف بالحري إن طاول التعدي الأنهر وتعبيد قسم منها؟
جبالات وكسارات وشاحنات
سمعان يوسف العيسي من حصرايل، أشار لـ green area إلى أنه أول من بنى منزلا في هذه المنطقة عام 1961، وقال: “المنزل يتكون من ثلاث طبقات وأقطن هنا مع اولادي واحفادي وزوجتي المريضة، والغبار سيقضي علينا، الأطفال يعانون من أمراض حساسية، لا أستطيع فتح باب لا صيفا ولا شتاء نتيجة للغبار المتصاعد من هذه المعامل، كل يوم اشتري نقلة مياه بمبلغ 40 الف ليرة لأنثر الماء على طريق حصرايل لتبديد الغبار، ورئيس البلدية يعرف ذلك، منذ سبع سنوات وأنا أعاني، خصوصا عندما يكون الهواء شماليا، فلا أستطيع ان أقف أمام بيتي”.
وتساءل: “ما هو القانون الذي يسمح بمرور الشاحنات في مجرى وحرم نهر شتوي صغير؟”، ولفت العيسي إلى أن “الشاحنات لا تتوقف ليلا نهارا”، وقال: “أنا موظف ولا أستطيع النوم بسبب ضجيج الشاحنات ولا عائلتي أيضا، وكل هذا الغبار والضجيج يؤثر على صحتي وعملي، وقد حولوا حصرايل الى منطقة صناعية حرفية، جبالات وكسارات وشاحنات”.
وأشار إلى أن “ما يهمني، إن كان هناك دولة تحترم شعبها، هو التخلص من الكسارة في الوادي ويمنعوا مرور الشاحنات نهائيا”.
وقال العيسي: “أتكلم ولست خائفا من أحد، صوتي وإسمي على رأس السطح، ومن لديه علي أي شيء ليحاسبني، ومرة طلب مني ان أكون على التلفزيون، قلت لهم “بطلع عظهر الجحش كمان”، بكل جرأة ولا أخاف من أحد. أنا من ألمي أتكلم، أنا متضرر، في بيتي متضرر. لا أملك مالا لشراء أرض أو لأبني بيتا آخر، ولا أحد يشتري بيتي بهذا الوضع، نحن هنا أكثر من ثلاثين شخصا متضررين. ليأتِ وزير أو نائب، ليسكن مكاني، في هذا البيت، هل يتحمل هذا الوضع؟”.
من يحاسب؟
وقال الناشط البيئي نبيل بولس: “أملك وأشقائي وعمومتي تركة جدي التي تقدر بحوالي سبعين ألف متر مربع، ولدينا واجهة على امتداد مجرى النهر وتصل الى قرية جدّايل قضاء جبيل، من ضمنها أراضٍ تتنوع فيها المزروعات من زيتون وخرنوب وصبار ولوز وخصوصا التين الذي تشتهر فيه منطقتنا وهناك أشجار معمرة”.
وأضاف: “في مقابل القرية، منطقة مصنفة درجة ثالثة ورابعة، يعني يجب أن يؤخذ بعين الإعتبار ان هناك منطقة جدايل السكنية، والريحانة (بلدة) وحصرايل تم تصنيفها معا. فلا احد يستطيع اخذ تصنيف لمجبل باطون درجة ثانية في حصرايل كون التصنيف يمنع هذا الأمر، فكيف تصنفهم وزارة الصناعة وكيف تصنفهم وزارة البيئة؟ وكيف يحصلون على التراخيص غير القانونية؟ ولا يتبعون لا الشروط القانونية او البيئية؟ وكيف يسمح القانون بهذا التصرف الأرعن بحق البيئة والقانون والتصنيف الرسمي؟ أين التفتيش المركزي للموظف الذي أعطى هذا الترخيص ولم لا يحاسبه؟ والدولة لماذا لا تحاسبه؟”.
وبحسب بولس “تتأثر كل أراضينا الزراعية نتيجة لهذه المادة التي تسد مساماتها وتحرمها من الضوء والرطوبة التي تحتاجها للعمليات الحيوية، وتأثرت منتجاتها من حيث الكمية والنوعية. فالمجرى لنهر شتوي، استغل كطريق للشاحنات التي تنقل المواد من الكسارات المنتشرة، وبالتالي كون الطريق تجف في الصيف فزوبعة من الغبار تملأ الأجواء وتحول بيوتنا ورئاتنا وأشجارنا الى مصيدة لهذا الغبار الذي لا يتوقف طوال 24 ساعة. وهذا الغبار يشبه (بودرة) دقيقة جدا، ومجرى النهر الذي هو رئة طبيعية للطبيعة تحول الى بؤرة للردميات والنفايات ولهذه الـ (بودرة) المؤذية”.
حتى الأشجار المعمرة لم تسلم
وقال: “هناك تعديات على مجرى النهر، فكل بناء يجب أن يبتعد 12 مترا على الأقل عن المجرى، وتمت محاسبة أصحاب بناء مخالف، وتمت إزالة التعدي إلا أن البناء لا يزال في حرم النهر ولم يبتعد المسافة المطلوبة. وحتى الأشجار المعمرة لم تسلم من تعدياتهم وتم قطعها وتحويلها الى فحم، هذا عدا عن الردميات، والنفايات التي يتم تجميعها ليأخذها مجرى النهر معه شتاء باتجاه البحر، عدا عن مجاري الصرف الصحي في حرم النهر الجاف، وكون لا يوجد مياه لتحويلها الى البحر نعاني من الروائح التي تتسرب الى بيوتنا. وتم قطع شجرة خرنوب منذ فترة يتجاوز عمرها المئة عام واشتكينا للدرك ولم نستطع عمل اي شيء! لدينا ذكريات على مجرى النهر وأرض موروثة من الأجداد لا نستطيع ان نستفيد من انتاجها بسبب تصرفاتهم المسيئة لكل ما هو حي. نحن نورث ابناءنا الغبار فبيوتنا بيوت صلاة، حولها الجشعون الى مغارة لصوص. وهم يستعملون النفوذ والسلطة، ونحن معنا الرب الذي نتكل عليه والحق والقانون. الخلاصة ان مجرى النهر لا يسمح بالتعدي عليه”.
وختم بولس “كل ذلك ولم نتمكن من إيقاف التعديات، وأبعد من ذلك لم يتورع العابثون عن غسل جبالات الاسمنت في مياه النهر، ولكم أن تتصوروا ما نواجه من تبعات تدمير بيئتنا الطبيعية”.
عمل تخريبي
أما مختار جدّايل عفيف الحاج فقال، “هو مجرى وادٍ تحول إلى طريق وتم إنشاء كسارات وزريبة مواشٍ ومعامل، وكلها مخالفة للقوانين، كون الدولة ضعيفة وغير متواجدة خلال الحرب، ما يؤدي الى تلوث بيئي وغبار وضجيج وتشويه بيئي فاضح، فقد اشتروا الأرض في أعالي حصرايل، و”قصوا” الجبل طوليا بعلو 50-60 متر حتى وصلوا الى مجرى الوادي، والكسارة أطلقوا عليها اسم جاروشة، وهي آلة صغيرة تجرش كمية صغيرة من الصخور، لكن ما نشهده اليوم هو مرور اكثر من ستين شاحنة يوميا لتحميل البحص وكانت الخطة إنشاء معامل احجار باطون، حولوها الى كسارات، والشاحنات أخذت تنقل الصخور من القرى الأخرى ومن كل لبنان إلى الكسارات، والغبار والضجيج ليلا نهارا وخصوصا في فترة فصل الصيف”.
وأضاف: “عدا عن الشجر والتشويه للطبيعة الجميلة التي يمكن رؤيتها في أعالي البلدة والمجرى الطبيعي للنهر الذي تحول بعدها الى طريق (معبدة) بالبودرة المضرة. فهم يعملون بشكل ان يستمروا بتحويل مجرى النهر إلى طريق تصل إلى مساحة أعلى لتتعدى على مجرى النهر من اوله”.
وأشار الحاج إلى “اننا ضد التشويه البيئي، وهذا العمل التخريبي. فأعلى حصرايل وبدلا من أن تكون ديرا، او منشأة سياحية حولوها الى معامل، وحاول أحد المعامل أن يبدأ بحفر طريق نحو مجرى الوادي إلا اننا تمكنا من ايقافه. فــالجهة العليا من حصرايل حيث الأبنية السكنية لا تعاني من الغبار والضجيج مثلنا”.
ولفت إلى أن “التعديات تطاول أيضا مولدات الكهرباء، فقد اتصل بي أحد الأشخاص ليخبرني عن مولد كهرباء يعمل طوال الليل ويمنعه من النوم. وهناك “كارثة” من نوع أضخم وهو أن هناك بحيرة مياه جوفية في أعماق الأرض تحت بلدة حصرايل يغذيها اكثر من 30 نبع ماء تتجمع فيها، وتغذي حصرايل وجدّايل والمنصف وشيخان ومناطق الساحل، وكل هذا التلوث البيئي من المعامل في أعالي حصرايل وعلى مجرى الماء، تلوث هذه البحيرة التي نشرب منها”.
هذا قليل من كثير رصدناه بالأمس، وسنظل إلى جانب المواطنين في معاناتهم، ونضع كـ green area هذه الفضائح والكوارث مجتمعة برسم الجهات المعنية، ونقدمها أيضا كإخطار للنيابة العامة، ونطلب من وزارة البيئة أن تحرك أجهزتها الرقابية وإعداد تقرير علمي عن الأضرار.