منذ سنوات طويلة فقد لبنان وإدارته السياسية العمل بمفاهيم التفكير والتخطيط الاستراتيجي الحقيقي. وربما يعود ذلك لتاريخ إلغاء وزارة التصميم والتخطيط، بعد أن شغلها آخر وزير للتصميم والتخطيط الأستاذ موريس الجميل في آخر حكومة في عهد الرئيس الراحل شارل حلو. ولم يكن من قبيل الصدفة أن يترافق موعد إلغاء هذه الوزارة من تركيبة حقائب الحكومات اللبنانية المتعاقبة، مع إنشاء مجلس الإنماء والإعمار، كمجلس تنفيذي تابع لرئاسة مجلس الوزراء، ليحل محل مجلس تنفيذ المشاريع الإنشائية ومجلس تنفيذ المشاريع الكبرى لمدينة بيروت.

يمكننا اليوم أن نقول بضمير مرتاح وبيقين أكيد، أن لحظة إلغاء وزارة التصميم والتخطيط كانت لحظة اختيار الفوضى في إدارة التنمية في البلد، وإخضاعها لقواعد المحاصصة في اقتسام خيرات البلد بين مكونات الطبقة السياسية، المتداولة أو المتشاركة على السلطة في لبنان، منذ بداية عصر الانحطاط هذا وحتى اليوم.

مجلس الإنماء والإعمار، على عكس ما هو سائد في اعتقاد البعض، هو ليس بديلا عن وزارة التصميم والتخطيط، إذ أنه مجلس تنفيذي للمشاريع في كل مراحلها، وهو ليس بأي معنى من المعاني جهازا للتخطيط الاستراتيجي لمشاريع التنمية.

من يخطط في لبنان إذن مع غياب وزارة التصميم والتخطيط؟ ومن ينسق بين مختلف الوزارات والإدارات ذات العلاقة بمستويات مختلفة مع قضايا التنمية بكل أبعادها في لبنان؟

بكل بساطة، يمكن الإجابة بأن لا أحد يقوم بهذه المهمة في لبنان، خصوصا وأن كل ما تم إنشاؤه من مجالس – كان يمكن لها أن تلعب دورا تنسيقيا معينا – معطلة بالكامل، ومنذ تاريخ إنشائها. وربما هذا التغييب المقصود لسلطة تعنى بالتصميم والتخطيط والتنسيق بين الوزارات والإدارات، هو غاية بحد ذاتها، تتيح المجال واسعا، وبدون قيود أو تدخلات، لبعض أوساط السلطة، ولمراكز القوى فيها، منذ وجود الرئيس الشهيد رفيق الحريري على رأس الحكومات اللبنانية، التي تعاقبت خلال ما سمي بمرحلة إعادة البناء والإعمار، والمستمرة حتى يومنا هذا.

لو كان في البلد وزارة للتخطيط والتصميم لما سمحت أن يتحول قلب العاصمة ومركزها وأسواقها إلى مبان بلا روح، وروح المدينة روادها. ولا كانت وافقت على تمرير مدخل العاصمة الجنوبي في نفقين مظلمين، ضيقين، يزرعان الاكتئاب في نفوس العابرين، ويتسببان بأزمة مرور خانقة مع كل حدث صغير أو كبير. فإن تعطلت عجلة إحدى السيارات، امتدت أزمة الاختناق لساعات في هذا الممر الكئيب، وكأنه مضيق يلزم الناس بالدخول إلى عاصمتهم من خلاله. وإذا أمطرت فأغزرت غرق مدخل العاصمة في بحيرة تعيق المرور لساعات وأحيانا ليوم كامل. وإذا حاولت الهروب من ضيق الأنفاق إلى رحاب طريق الاوزاعي البديل، فهناك يلاقيك سقم آخر، من نوع حجب منظر البحر عن رؤياك، وأنت تسير بمحاذاته على بعد أمتار قليلة. من هو هذا المعماري الفذ، والمخطط العبقري، الذي صمم مداخل بيروت الجنوبية؟ ومن هي تلك السلطة، التي أصمت آذانها عن اعتراضات نقابة المهندسين وكبار معماريي البلد حينها على هذه المنشآت، التي سميت زورا تنمية وإعادة إعمار.

لو كان في البلد وزارة تصميم وتخطيط، لما كان الوزراء، ولا أقول الوزارات، لأن كل وزير يأتي يمسح ما قام به سلفه، ليمرر ما في رأسه، أو بالأحرى ما في رؤوس مستشاريه من مخططات ومشاريع اعتباطية، وارتجالية وغير مدروسة بالعمق. أو في حالات أخرى، توضع لها دراسات شكلية لتلعب دور بطاقة عبور للانتقال إلى تنفيذها. والدافع الرئيس لكل هذا المسار، كسب العمولات، وتمرير المصالح الذاتية والفئوية على حساب موارد البلد الطبيعية والثروة الوطنية.

لو ان في البلد وزارة للتصميم والتخطيط، ما كنا لنرى مشاريع سدود تبدأ بحركة بهلوانية بالاتجاهات المعاكسة في كل المعايير. يقررون بناء سد في مكان ما، بدون إنجاز الدراسات الجيولوجية والهيدروجيولوجية، ودرس طبقات الأرض إن كانت ملائمة أو غير ملائمة. وبدون درس جدي ومعمق للآثار البيئية والاقتصادية والاجتماعية للمشروع، والنظر إلى دراسات تقييم الأثر البيئي نظرة شكلية، على اعتبار أنها بطاقة مرور للمشروع، وإفقاد هذه الفلسفة روحها، التي تهدف إلى تحقيق حد مقبول من مفهوم التنمية المستدامة، ونحن ننفذ مشاريعا كبرى، وذات أثر عميق وكبير ومستمر وبعيد المدى على البيئة والمحيط بكل عناصره ومكوناته وأبعاده. وإن أظهرت الدراسات في موقع ما، عدم كفاءته الجيولوجية، يستمرون في الإصرار على مشروعهم، وفي الحقيقة يكون هذا الإصرار على ما يتوقعون منه من عمولات، ليصبح منطقهم أشبه بمقولة “عنزة ولو طارت”. فتراهم يقترحون سد تشققات الصخور بمواد عازلة، غير معروف مدى صلاحيتها ومدى فعاليتها، ومدى تأثيرها على مجمل المشروع، والأهداف المتوخاة منه.

فمنذ أن أدخل البنك الدولي مفهوم “تقييم الاثر البيئي للمشاريع” إلى لبنان، في أواخر التسعينيات من القرن الماضي، وفرضت الجهات الممولة الأجنبية القيام بإعداد دراسات تقييم الأثر البيئي للمشاريع، التي تنفذها، بقيت كبريات المشاريع، التي تنفذها وزارات الدولة وقوى السلطة، دون مراعاة هذه المسألة، أو القفز عنها أو التعامل معها بخفة عارية عن الحد الأدنى من الجدية المطلوبة. وليس صدفة، أن عانى مرسوم تقييم الأثر البيئي من مواجهة عنيدة لسنوات طويلة من قوى السلطة، حيث تم الأمتناع عن إقراره لأكثر من عشر سنوات، إذ أن مسوداته الأولى كانت قد وضعت مع بدايات الألفية الثانية، وأصبح إقرار المرسوم حاجة ملحة بعد صدور القانون الإطاري لحماية البيئة رقم 444 في العام 2002. وعلى الرغم من موافقة هيئة الاستشارات القانونية منذ تلك الفترة، لم يتم إقرار هذا المرسوم إلا خلال العام 2012. وهذه المماطلة التي امتدت لأكثر من عقد من الزمن، تستمر من خلال التعاطي غير الجدي مع تطبيق هذا المرسوم نصا وروحا.

ومن المفارقات المضحكة – المبكية، أن وزارة البيئة، المنوط بها تطبيق قانون حماية البيئة وكل المراسيم والقوانين المتعلقة بالبيئة، هي نفسها تتآمر على تنفيذ هذه التشريعات، وترتضي تجاهلها من قبل كل الوزارات الأخرى، وبالطبع أيضا من جهات غير حكومية في القطاع الخاص. بل أكثر من ذلك، نشهد مهزلة رضا وقبول وزارة البيئة لأن يقال أن رأيها استشاري وغير ملزم. فمن أين يأتي هؤلاء بهذه الفتوى المتناقضة مع الدستور أولا، ومع القوانين، التي تحكم إنشاء وتنظيم وعمل وصلاحيات وزارة البيئة، ومع قانون حماية البيئة ومع كل التشريعات الأخرى؟ من أين تأتي هذه التفسيرات الخبيثة للقوانين، خدمة لتمرير هذا المشروع المخالف أو ذاك، أو لفرض تمرير مشاريع غير مدروسة على الإطلاق تنفيذا، ليس لرغبات فلان أو فلان من القوى النافذة في السلطة، بل لمصالح هذا أو ذاك، أو بعمولات هذه الجهة أو تلك، التي ستستفيد من تنفيذ المشاريع، ولو على حساب كل شيء في لبنان، اليوم وغدا وبعد غد.

نقول، إرعووا من عِبَرِ الآخرين، فتجفيف بحيرة الأورال كان في حينه، من كبريات المشاريع التنموية، التي نفذت من قبل الاتحاد السوفياتي، وظهر أنها سلسلة من الكوارث البيئية والاجتماعية، لا تزال آثارها المدمرة مستمرة حتى الآن. وما بناء السد العالي في مصر، الذي سمي في حينه أنه أكبر مشروع تنموي في العالم، وتبين بعد سنين أن آثاره البيئية تصبح يوما بعد يوم أكبر سلبية من كل إيجابياته الموعودة. وما تجفيف سهل الغاب في سوريا، وقد اعتبر مشروعا تنمويا استثنائيا في حينه، إلا دليلا جديا على ضرورة عدم الارتجال في اتخاذ قرارات من هذا القبيل دون إشباعها بالدرس الجدي والمعمق، لا الشكلي، ودرس آثارها القريبة والبعيدة. ولنا في لبنان أيضا في سد شبروح درسا يستحق التعمق في أمثولاته، فلا كميات المياه، التي يجمعها تطابق ما كان متوقعا، ولا فوائده التنموية المرتجاة قد تحققت أو أنها قابلة للتحقق.

أيها اللبنانيون، كفوا عن السكوت على هدر ثروات بلدكم على يد سلطة جاهلة، متآمرة، لا تعرف إلا مصالح فئاتها على حساب طبيعة لبنان وثروته، التي تستنزف دون حسيب أو رقيب، ويريدوننا أن نصدق أن عبثهم هذا إسمه تنمية. التنمية الحقة هي أن تكون تنمية مستدامة أو لا تكون.

الناشر: الشركة اللبنانية للاعلام والدراسات.
رئيس التحرير: حسن مقلد


استشاريون:
لبنان : د.زينب مقلد نور الدين، د. ناجي قديح
سوريا :جوزف الحلو | اسعد الخير | مازن القدسي
مصر : أحمد الدروبي
مدير التحرير: بسام القنطار

مدير اداري: ريان مقلد
العنوان : بيروت - بدارو - سامي الصلح - بناية الصنوبرة - ص.ب.: 6517/113 | تلفاكس: 01392444 - 01392555 – 01381664 | email: [email protected]

Pin It on Pinterest

Share This