د. ناجي قديح |
يتابع العلماء والباحثون العمل الجاد لتراكم المعرفة العلمية حول أسباب مرض السرطان، وتطوره وعلاجاته. ويتجند لتحقيق هذا الهدف اعداد متزايدة من العلماء ومراكز الأبحاث المتخصصة، وهناك آليات متقدمة لتبادل المعلومات على المستوى العالمي لنتائج وخلاصات هذه الأبحاث.
يتفق الجميع على أن التعرض لبعض المواد الكيميائية، في مختلف الظروف، المهنية، والبيئية، والغذائية، هو واحد من الأسباب المتعددة لنشوء وتطور الأمراض السرطانية. وصنف الباحثون المتخصصون في مجال علوم الكيمياء السمية، المركبات الكيميائية المسرطنة، إلى فئات متفاوتة القوة intensity- potential ، والإحتمالية probability والاستهداف selectivity.
تصنف التشريعات الأوروبية العوامل والمركبات المسرطنة في أربع مجموعات ، وذلك حسب مؤشر مستوى الخطر. تضم المجموعة الأولى المواد الكيميائية المسرطنة عند الإنسان، التي تتمتع بمؤشرات كافية ومؤكدة، وعددها 114 مادة (بتاريخ 23 تشرين الأول – أوكتوبر 2014). وتقسم المجموعة الثانية إلى فئتين: مجموعة 2 أ (group 2A) وتضم المواد، التي تتمتع بمؤشرات محدودة عند الإنسان وكافية عند الحيوان، وعددها 69 مادة. والمجموعة 2 ب (group 2B) وتضم موادا يمكن لها أن تكون مسرطنة عند الإنسان. وتشمل هذه المجموعة المواد، التي تتمتع بمؤشرات محدودة عند الإنسان وغير كافية عند الحيوان، أو مؤشرات محدودة عند الإنسان وكافية عند الحيوان، وعددها 283 مادة. والمجموعة الثالثة تضم موادا غير مصنفة فيما يتعلق بتسببها للسرطان عند الإنسان، وهي مرتكزة على مؤشرات غير كافية عند الإنسان ومؤشرات غير كافية أو محدودة عند الحيوان، يستثنى منها المواد، التي تتمتع بمؤشرات غير كافية عند الإنسان وبوجود قرائن قوية بأن آليات نشاطها المسرطن عند الحيوان غير فاعلة عند الإنسان (أي لاختلاف مسارات أيضها داخل الجسم). وتضم هذه المجموعة 504 مواد. والمجموعة الرابعة، تضم المواد غير المحتمل أن يكون لها نشاط مسرطن عند الإنسان، وتتمتع بمؤشرات تدل على غياب نشاطها المسرطن عند الإنسان والحيوانات المخبرية. وعدد هذه المجموعة مادة واحدة فقط، وهي الكابرولاكتام caprolactam، مادة عضوية مخلقة، تدخل في صناعة النايلون والبلاستيك والجلد الصناعي وغيره.
من الواضح أن هناك عددا كبيرا من المواد الكيميائية غير مصنف في لوائح المواد المسرطنة. وهذه المواد، وإن تكن تتمتع بتأثيرات سامة متفاوتة القوة والاستهداف، حسب تركيبها وخصائصها ودرجة وظروف التعرض لها، ومهما كان نوع تأثيرها السمي، ولكنها بالحقيقة ليست داخلة في لوائح المواد ذات النشاط المسرطن، أي أنها غير مسرطنة.
يتحدد عادة طبيعة النشاط السمي للمادة الكيميائية من خلال تجارب وأبحاث ودراسات تتناول درس المادة بعينها، وفي حالات قليلة يتم درس النشاط السمي لمادتين أو أكثر في سياق منهجية بحثية واحدة. ولذلك، يسود الإطمئنان حيال لائحة طويلة نسبيا من المواد الكيميائية، التي تعرف بأنها غير مسرطنة، أو أنها ليست مسرطنة محتملة، لا من قريب أو بعيد.
هذا الاعتقاد، وهذا الاطمئنان، بددته نتائج دراسة نشرت في 23 حزيران – يونيو 2015. قام بها فريق كبير جدا من الباحثين، شاركت فيها جامعة برونيل Brunel University في لندن، ونشرتها مجلة جامعة أكسفورد Oxford Journals في أوراق أبحاث السرطان التكاملية.
تقول هذه الدراسة أن موادا معروفة بأنها غير مسرطنة حين التعرض لكل منها على حدة، تطلق السرطان في حال التعرض لها مجتمعة، ولو بجرعات صغيرة جدا. واحدا من خمسة أنواع من السرطان يعود سببه للتعرض لخليط من هذا النوع.
فريق عمل عالمي مكون من 174 باحث من كبريات مراكز الأبحاث العلمية العالمية في 28 دولة، درسوا العلاقة بين خلائط من مواد كيميائية يكثر أن نصادفها وبين تطور السرطان. اختارت الدراسة 85 مادة لا تعتبر موادا مسرطنة عند الإنسان، ووجدت أن هناك 50 من هذه المواد تتمتع بآلية مرتبطة بنشوء السرطان، تظهر مع خلائط من المواد بتراكيز ومستويات نتعرض لها بيئيا في أيامنا هذه.
إن الكيماويات، التي تبدو لنا آمنة للبشر، قد تشكل مزيجا قاتلا داخل الجسم وتؤدي إلى التسبب بالسرطان. نتائج هذه الدراسة تدعم الفكرة القائلة أن المواد الكيميائية يمكن لها أن تتصرف بتآزر كبير، بل وبشكل منسق، بحيث الواحدة منها تعظم تأثير الأخرى، وتتناسق لكي يصبح تأثيرها المشترك خطيرا لدرجة إطلاق السرطان وتطوره.
إن التعرض البيئي لعدد غير محدود من الملوثات الكيميائية، ولو بتراكيز متفاوتة، وبعضها ضعيف جدا، في الهواء والمياه والمواد الغذائية، يمكن له أن يترافق بمخاطر كبيرة على الصحة العامة، يصعب توقعها. وهذا بالطبع يمكن اعتباره واحدا من العوامل البارزة، التي تفسر هذا الارتفاع المقلق لنسبة انتشار الأمراض السرطانية، وعند كل شرائح العمر، وفي مختلف الأوساط والفئات الاجتماعية، مما يرجح هذا الاحتمال بقوة.
سياسة وطنية شاملة وجادة لمكافحة التلوث البيئي في كل الأوساط ومن كل المصادر، أصبحت اليوم ضرورة ملحة وضاغطة على الوضع الصحي العام، على مستوى بلدنا وبلدان العالم أجمع.
Oxford Journals, Carcinogenesis – Integrative cancer research
“Assessing the carcinogenic potential of low-dose exposures to chemical mixtures in the environment: the challenge ahead”.
Volume 36, Suppl. 1 June 2015, s184-s202