د. ناجي قديح |

هل فكرنا يوما كم ساعة عمل يتطلب إنتاج المواد، التي تتكون منها وجبة غذاء عادية، لإنسان عادي، بوزن عادي، وعادات غذائية عادية؟ هل فكرنا للحظة واحدة في عرق المزارعين في حقول وبساتين ومساحات إنتاج الحبوب والفواكه والخضار، أو في تعب عمال مزارعي تربية المواشي والدواجن، وصيادي الأسماك وثمار البحر؟ أو في جهود العمال المنخرطين في معامل ومصانع إنتاج مختلف أنواع المواد الغذائية؟ وهل خطر على بالنا كم يتطلب من عمل وتنظيم بناء ومتابعة تلك الشبكة المتراتبة من نظام التجارة والتوزيع، كي تصل هذه المنتجات إلى صحوننا؟ وهل نتذكر واحدا من دروس القراءة في الصفوف الابتدائية عن قدسية رغيف الخبر، لما يختزن من تعب وجهد وساعات عمل، منذ بذر حبة القمح، حتى خروج الرغيف من الفرن، وانتقاله عبر المسافات، في ساعات الصباح الأولى، كي يصل شهيا إلى طاولة غذائنا؟ لو كنا نفكر في كل هذه الأسئلة لما كنا نسمح لأنفسنا برمي غرام واحد من الغذاء في سلة المهملات.

والمسألة تصبح أكثر تعقيدا وإلحاحا، إذا ما ربطناها بما يعاني عالمنا المعاصر من قضايا، تستحيل مشاكل صعبة الحل، ومكلفة المعالجات. من الناحية الصحية-الاجتماعية، هناك مرض العصر، السمنة وما يرتبط معها من مسائل صحية، وآثار على وضع الإنسان الجسدي والنفسي. وهناك أيضا، مشكلة العصر، الجوع، ونقص التغذية، وتزايد أعداد الملايين من البشر، الذين يأوون إلى فراشهم ومعدهم خاوية، أو هم يعيشون على حافة الجوع بالحد الأدنى، الذي يبقيهم على قيد الحياة، أو هم يعانون من أمراض مرتبطة بنقص التغذية المنتظمة والكافية. وبالطبع، ارتفاع نسبة وفيات الأطفال بسبب سوء التغذية.

مرت عقود من السنين على برامج ونشاطات الأمم المتحدة ومنظماتها المختلفة في مجال مكافحة الفقر، ومواجهة مخاطر الجوع، التي تهدد ملايين البشر في مختلف القارات، ولا سيما في إفريقيا وبعض بلدان آسيا وأميركا اللاتنية. ونرى اليوم أن النتائج الحقيقية، على مستوى سياسات الدول وتشريعاتها، لا تزال بعيدا دون المستوى المطلوب، وأن التقدم، باتجاه التحكم بالفقر والجوع، بطيء جدا، ومنجزاته متواضعة ايضا على المستوى العالمي.

لقد أصبح ضروريا وملحا اتخاذ إجراءات جادة على مستوى السياسات والتشريعات لمنع التبذير في استهلاك المنتجات الغذائية، وفي منع رمي منتجات غذائية لا تزال صالحة للاستهلاك الآمن، وفي التساهل بعدم الاحتفاظ بالمواد الغذائية في ظروف تحمي جودتها لأطول مدة ممكنة.

إن الصرخة المدوية في العالم هذه الأيام، ومصدرها فرنسا، والاتحاد الأوروبي، التي تقول “لا لرمي ثلث كمية المواد الغذائية، المنتجة عالميا، في النفايات”، هي صرخة تستحق كل تأييد ودعم لانتشارها وتوسعها. تتفاعل حركة متصاعدة في فرنسا لإقرار قانون يلزم مخازن بيع المواد الغذائية و”السوبرماركات” من إعطاء المواد الغذائية، الصالحة للاستهلاك وغير المباعة، للفقراء والمحتاجين والمشردين. وتنشط حركة تشاور واسعة في الاتحاد الأوروبي، وكذلك في الأمم المتحدة لخفض النفايات الغذائية على مستوى العالم.

إن كميات النفايات الغذائية، التي ترميها مخازن وأسواق المواد الغذائية، هي في زيادة مستمرة. وقد حان الوقت لاتخاذ التدابير الآيلة إلى الحد من هذا السلوك اللاإنساني، وإلزام كل الأطراف بتوزيع ما لا يباع من المواد الغذائية لمحتاجينها، وهم كثر على مستوى العالم.

إن نفايات المواد الغذائية هي ظاهرة ملفتة للانتباه في البلدان العربية، في بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ولا سيما بلدان الخليج العربي. وتتعاظم هذه الظاهرة، مع الأسف الشديد، في شهر رمضان المبارك، شهر الصوم والمغفرة وعمل الخير. وتشير بعض الإحصاءات إلى أن حوالي 45% من الفواكه والخضار تتحول إلى نفايات، وبأن معدل الطعام المرمي في النفايات لكل شخص، على مدار العام، في هذا الجزء من العالم، أي العالم العربي، هو أعلى من المعدل العالمي. وهذا المعدل يتضاعف خلال شهر رمضان المبارك.

انطلقت حملة المشاورات في أوروبا لوضع تشريع مناسب يخفف من تحويل المواد الغذائية الصالحة للاستهلاك إلى نفايات. وهي بدأت في فرنسا، وتشمل اليوم بريطانيا وألمانيا وبلجيكا وأسبانيا، وكذلك أيضا هناك حملة في واشنطن للدفع في هذا الاتجاه.

نحن إذ نؤيد ونحيي هذا التوجه، ندعو مجتمعنا اللبناني، ومجتمعاتنا العربية إلى القيام بجهد رسمي وشعبي، وندعو الإعلام والمجتمع المدني، للعمل على التخفيف من رمي مواد غذائية صالحة للاستهلاك، والتخفيف من التبذير والهدر لهذه النعم، التي تختزن عمل وتعب وعرق الكادحين، من كل الفئات، وتحويلها لمستحقيها ومحتاجيها، كمظهر من مظاهر التضامن الاجتماعي والمسؤولية الانسانية.

الناشر: الشركة اللبنانية للاعلام والدراسات.
رئيس التحرير: حسن مقلد


استشاريون:
لبنان : د.زينب مقلد نور الدين، د. ناجي قديح
سوريا :جوزف الحلو | اسعد الخير | مازن القدسي
مصر : أحمد الدروبي
مدير التحرير: بسام القنطار

مدير اداري: ريان مقلد
العنوان : بيروت - بدارو - سامي الصلح - بناية الصنوبرة - ص.ب.: 6517/113 | تلفاكس: 01392444 - 01392555 – 01381664 | email: [email protected]

Pin It on Pinterest

Share This