لا الفضائح المدوية، ولا الفشل الذريع يكفي لتتحرر الحكومة، ومعظم الكتل السياسية المكوِّنة لها، من منطق “الصفقة” المهيمن على عقلها، والمصَادِر للحكمة والعقلنة في خياراتها.
لا تزال الحكومة تنزلق بوعي، وعند بعض مكوناتها أحيانا بدونه، إلى اعتماد الحلول التي ترتكز على الكلمة الواحدة: مطامر… محارق… ترحيل. وكأن العقل المحكوم بالصفقة لا يستطيع تركيب جملة مفيدة، أو الأصح، يتهرب من اعتمادها حتى وإن تكررت مئات آلاف المرات على مسمعه: “الإدارة المتكاملة للنفايات السليمة بيئيا والآمنة صحيا والمعقولة لناحية الكلفة والمطبقة لا مركزيا على مستوى اتحادات البلديات والمناطق”.
عند الحديث عن الطمر، علينا الإجابة عن سؤالين أساسيين: الأول، ماذا سنطمر؟ والثاني: ما هي مواصفات موقع المطمر؟ أين سيقام؟ وما بعده؟ وما طبيعة الأرض التي سيقام عليها؟
فإذا كان الحديث عن طمر كل النفايات بما تحتويه من قيمة قابلة للاسترجاع، فيكون ذلك منطق صفقة، تتجاهل هذه القيمة وتهدرها، بل أكثر من ذلك تدفع على طمر النفايات كلفات عالية جدا خلال تشغيل المطمر وإدارته بعد إقفاله، بالإضافة إلى الكلفة العالية لإنشائه. حيث أن طمر كل النفايات سيختزل عمر استخدام المطمر إلى حوالي العُشر، بالمقارنة مع ما إذا كان الطمر حلقة أخيرة من حلقات الإدارة المتكاملة للنفايات، أي بعد عمليات الفرز والتدوير والتسبيخ والمعالجة والتصنيع، وأخيرا طمر المتبقيات الخاملة، التي لا تزيد عن 5-10 بالمئة من النفايات.
أما بالنسبة للمحارق، فالحرق الكلي للنفايات لا يختلف بالجوهر عن الطمر الكلي، فهنا أيضا نرى هدرا للقيمة الموجودة في النفايات، يضاف إليها كلفة عالية جدا لإنشاء وتشغيل المحرقة. أي ندفع أموالا طائلة لحرق نفاياتنا. فإذا كنا نتحدث عن محارق متكورة كبيرة، إذ أننا نرفض كليا أي حديث عن استخدام المحارق الصغيرة الملوِّثة، فهذا يعني ضرورة أن تتجهز المحرقة بالشروط التالية:
1-درجة حرارة حرق تزيد عن 1000 درجة مئوية، وهذا لن يتأمن لنفايات لبنان التي تحتوي على 50 بالمئة مواد عضوية، وهي بدورها تحتوي على 60 بالمئة ماء، إلا إذا اضفنا لغرفة الإحتراق وقودا بكميات كبيرة لإطلاق وتأمين استمرار عملية الحرق، والوصول إلى درجة الحرارة المطلوبة.
2-أن تكون المحرقة المتطورة مجهزة بنظام من الفلاتر لالتقاط الرماد المتطاير، المكوَّن من جزيئات متناهية الصغر، وهي ملوِّث خطير جدا على الصحة العامة. ومعالجة هذه الجزيئات الملتقطة في الفلاتر، والتخلص منها، بعد تصليبها، في مطامر خاصة باستقبال النفايات الخطرة.
3-أن تكون مجهزة بأبراج لغسيل الغازات وتعديلها الكيميائي الحمضي والقلوي، وبالتالي إلحاق محطة لمعالجة السوائل الملوَّثة كيميائيا المتولدة عن أبراج الغسيل هذه.
4-معالجة رماد القاع الذي يبقى في قاع غرقة الاحتراق والتخلص منه بطرق بيئية سليمة.
5-تجهيز المحرقة المتطورة بنظام لاسترداد الطاقة من خلال استخدام حرارة الغازات الناتجة عن احتراق الوقود المضاف والنفايات، من خلال نقلها إلى نظام من السخانات لتسخين المياه وتوليد البخار، الذي بدوره يشغل توربينات لتوليد الكهرباء، أو لتوزيع المياه الساخنة إلى سكان المنطقة.
إن كمية الرماد المتطاير ورماد القاع تصل إلى حوالي 20-25 بالمئة بالوزن، من كمية النفايات التي يتم حرقها.
إن تنفيذ كل هذه الشروط الخمسة يجعل من المحارق المتطورة عالية الكلفة الإنشائية والتشغيلية والصيانة. ويتطلب خيار المحارق إنشاء محطات لمعالجة السوائل الملوثة كيميائيا، ومطمر خاص باستقبال النفايات الخطرة ليستقبل الرماد المتطاير ورماد القاع بعد معالجته وتصليبه. وهذا بالطبع ما يجعل الكلفة تتضاعف عشرات المرات. كل ذلك يستلزم جهازا متطورا للرقابة والرصد والمتابعة. ويفترض تشغيل كادر فني عالي التخصص.
إن أي نقص في تلبية هذه الشروط يجعل من المحرقة “المتطورة” مصدرا مرعبا للملوثات عالية الخطورة، المنبعثة في الهواء الجوي من جزيئات وغازات تشكل خطرا كبيرا وتهديدا كارثيا على الأمان الصحي للسكان، اليوم وإلى المدى البعيد في المستقبل، على جيلنا والأجيال القادمة.
الجملة المفيدة، التي لن نَمَلَّ من تكرارها، على أمل أن تصبح سياسة عامة تتبناها الحكومة، وتسير بها كل الجهات المعنية المدعوة إلى المشاركة، من إدارات حكومية وبلديات ومجتمع مدني وقطاع خاص هي: الإدارة المتكاملة المرتكزة على تطوير وتعميم معامل الفرز والتدوير والتسبيخ والمعالجة، مما يسمح باسترداد القيمة الموجودة في النفايات، لتعويض جزء مهم من الكلفة الإجمالية لهذه الإدارة المتكاملة، التي هي بالأصل كلفة محدودة.
ما يتبقى بعد كل هذه العمليات، أي حوالي 5-10 بالمئة من كمية النفايات، يصار للبحث عن التخلص السليم بيئيا منها، وهنا يمكن أن يكون الطمر الصحي لهذه الكمية المتبقية واحدا من الخيارات المعقولة. هذا ما يؤمن استخدام المطمر الصحي لمدة أطول بما يقارب الـ 10 أضعاف عما إذا كانت كل كمية النفايات ستطمر فيه.
على مسافات قريبة من معامل الفرز والمعالجة، تقام مطامر صحية في مواقع تتوافر فيها المعايير والمواصفات البيئية، لجهة حماية مصادر المياه السطحية والجوفية والبحر، ولجهة اتجاه الريح السائد حيال المناطق الآهلة بالسكان.
د. ناجي قديح