لم يتمكن أي مسؤول أممي حتى الآن من أن يحدِّدَ، في رؤية هادئة وعميقة، ما نواجه من تحديات في رصد ظاهرتي الفقر والمناخ، وأن يشخص بدقة أسباب هاتين المشكلتين اللتين تؤرقان العالم، فضلا عن الإرهاب الذي يكبل الآن بلدانا في أوروبا، إذ غالباً ما يتناول من هم في مواقع المسؤولية والقرار النتائج بعيدا من الأسباب، فيعالجون ظاهر المرض ويغفلون مسبباته.

لقد أطل بالأمس مدير عام منظمة الـ “فاو” جوزيه غرازيانو دا سيلفا، قبيل ساعات من انطلاق مؤتمر باريس للمناخ COP21، وأعلن جملة من المواقف الجريئة حيال الارهاب والجوع والمناخ، وما قد نواجه من كوارث محققة في ما لو تجاهلنا الأسباب الحقيقية لهذا الثالوث الذي يحاصر الإنسان في مطلع الألفية الثالثة.

ورأى داسيلفا في مؤتمر في باريس في نهاية الشهر الجاري “لا سيما في أعقاب جرائم الإرهاب البربرية الأخيرة، فرصةً فريدة للمجتمع الدولي من أجل التئام الشمل والتدليل على الالتزام بأهداف جدول أعمال محو الجوع بحلول عام 2030، وبأهداف التنمية المستدامة (SDGs)”، كأنسب طريقة للترويج لعالمٍ أكثر إنصافاً وأمناً وشمولية لكل الأطراف، دون أن يُهمَل أحدٌ أو يتخلّف عن الركب. وقد أصاب حين اعتبر أن “لا سلام ممكن بلا تنمية مستدامة”، وأنه “لن تتحقق التنمية المستدامة ما دام ثمة مَن يشعرون بأنهم مستبعدون، وإذ ما زال هناك مَن يعاني الفقر المدقع والجوع المزمن”.

وهنا، يتبدى بوضوح ما رمى إليه دا سيلفا، إذ أن الإرهاب غالبا ما يجد بيئة حاضنة في المجتمعات الفقيرة، مع استثناءات تطل من رحم الحضارة الغربية، ما يفسر انضواء أوروبيين في منظمات تكفيرية، هؤلاء الذين يعيشون في مجتمعات تشهد حدا أدنى من استقرار اجتماعي ومادي، إلا أنهم يعبرون عن رفضهم لـ “ثقافة” قطعت ارتباط الإنسان بإنسانيته، وحولته مجرد آلة وأداة استهلاك، لا بل أبعد من ذلك، فهي جمعت التناقضات في الإنسان بين عالمه الروحي (الثقافة، الفكر والمعرفة) والمادي (العمل والمال)، بحيث نشهد مفارقات صارخة، خصوصا في قضية المرأة، فهي تسنمت مواقع مهمة في الحياة السياسية، وفي الوقت عينه ما تزال أسيرة “التسليع”، وتوظيف جسدها في ثقافة الاستهلاك والتسويق والتجارة.

لا يمكن اجتثاث الإرهاب في عالم يعاني فيه أكثر من 750 مليون إنسان الجوع، ونحو 167 مليون إنسان يعانون نقص التغذية، وما عاد بالإمكان مواجهة الجوع من خلال توزيع عادل للثروة فحسب، وإنما عبر مواجهة تداعيات التغير المناخي، وهذه إشكالية إنسانية تفرض نفسها للمرة الأولى في التاريخ، ما يؤكد أن ثمة ترابطا بين ثالوث الارهاب والفقر والمناخ.

وكان دا سيلفا واضحا حين أكد أنه “أصبح من المتعين على البلدان التي ستلتقي في محفل المؤتمر العالمي للمناخ بباريس، أن تضع في اعتبارها جيداً أن من غير الممكن للعالم التخلّص من لعنة الجوع بمعزل عن صدّ الآثار الضارة للتغير المناخي، وخاصةً بقدر ما يتعلق الأمر بالأمن الغذائي والتغذوي”، وهو رأى أنه بعد أن كان هذا الأمر حلماً يراود البعض، “أضحى هدف اجتثاث الجوع العالمي إمكانية في متناول أيدينا، فنحن ننتج ما يكفي من الغذاء، ونمتلك التكنولوجيا، وندرك ماهية السياسات والإجراءات التي تغل أفضل النتائج عملياً”.

وكما بات معلوما، فإن ارتفاع درجات حرارة الكوكب يؤثر على إنتاج الغذاء، ما يفسر تناقص غلة المحاصيل الغذائية الأساسية باستمرار، وبحلول عام 2050 من المرجح أن انخفاضات بمعدل يتراوح بين 10-25 بالمئة ستصبح أمراً واسع الانتشار.

وأشار دا سيلفا إلى أن هدف الـ “فاو” الأسمى هو ضمان الأمن الغذائي الشامل للمجموع العام ولمختلف الأفراد، وترسيخ هذا المفهوم كمحور للنقاش حول تغير المناخ، وبينما يتعين على البلدان أن تتمكن من تنفيذ الحلول وتوسيع نطاق إجراءات التكيُّف والتخفيف إزاء التغير المناخي، فإن تحقيق هذه الغاية يقتضي من مؤتمر باريس أن يتبنّى إطاراً يتسع في آن واحد لدعم عمليات نقل التكنولوجيا، وتنمية القدرات، وتعبئة التمويلات.

فهل سيتمكن مؤتمر باريس من مواجهة هذا الثالوث الرابض فوق الكوكب الأزرق؟ الإجابة عن هذا السؤال، تفترض – بالتأكيد – فسحة أوسع للنقاش، وربما تحتاج لأكثر من مؤتمر!

الناشر: الشركة اللبنانية للاعلام والدراسات.
رئيس التحرير: حسن مقلد


استشاريون:
لبنان : د.زينب مقلد نور الدين، د. ناجي قديح
سوريا :جوزف الحلو | اسعد الخير | مازن القدسي
مصر : أحمد الدروبي
مدير التحرير: بسام القنطار

مدير اداري: ريان مقلد
العنوان : بيروت - بدارو - سامي الصلح - بناية الصنوبرة - ص.ب.: 6517/113 | تلفاكس: 01392444 - 01392555 – 01381664 | email: [email protected]

Pin It on Pinterest

Share This