مسودة نص الاتفاقية من 51 صفحة فقط، مع كل ما يتضمنه من صيغ وصيغ بديلة في معظم مواده ونقاطه. وهذا يعني أن النص الذي سوف يستقر عليه رأي المتفاوضين في “باريس” سوف يقارب الـ30-40 صفحة فقط، في حين تجاوزت مسودة نص الاتفاقية، التي عمل عليها مؤتمر “كوبنهاغن” الـ 250 صفحة.
هل هذا الاختلاف هو شكلي فقط؟ أم أن في الأمر ما هو أعمق من ذلك بكثير؟ وهل هو نظرة جديدة كل الجدة للعالم ما بعد اتفاقية المناخ في باريس؟
إن في اختصار النص ميل إلى تسهيل تطبيق الاتفاقية بعد إقرارها، أي أن تطبيق إجراءات الحد من تفاقم التغير المناخي يأخذ أبعادا عالية الجدية هذه المرة، وبإلحاح من كبريات الدول، التي كانت حتى الأمس القريب تعيق وتعرقل وتماطل في وصولها إلى مرحلة الإتمام والإقرار.
في تشرين الأول (أوكتوبر) 2015، في بون – ألمانيا، تم وضع نص متوازن وكامل، تحتضنه كل الدول بلا استثناء. نص قابل للإدارة في مؤتمر باريس، ويشكل قاعدة ممتازة للتفاوض بغية الوصول إلى اتفاق يحظى بموافقة كل دول العالم، المتقدمة صناعيا، وتلك التي في طور النمو.
يتضمن النص على تعهدات بقطع عميق لانبعاثات غازات الدفيئة، ورفع القدرة على التكيف مع آثار تغير المناخ، واتخاذ الإجراءات المناسبة للاستجابة لهذه الآثار والتكيف معها والتخفيف من الخسائر التي تترتب عليها.
يرتكز هذا النص على مبادىء المساواة والعلم، بالعلاقة مع مبادىء المساواة والمسؤولية المشتركة ولكن المتباينة، حسب القدرات والظروف الوطنية لكل بلد، وتأمين تكامل المنظومات البيئية الطبيعية ووحدتها ومرونتها على مستوى الكرة الأرضية.
ويشمل النص التزامات بتخفيض الانبعاثات عن طريق تخفيف سريع لاعتماد اقتصادات الدول على الوقود الاحفوري في انتاج الطاقة، أي الانتقال السريع والفعال إلى الاعتماد على الطاقة المتجددة. ويتضمن النص أيضا التزامات ببناء وتعزيز القدرة على التكيف وتوفير المرونة وتخفيف الهشاشة حيال تغير المناخ.
من النقاط الأساسية في النص، آلية دولية للاهتمام بتخفيف الخسائر الناتجة عن تغير المناخ لدعم وضع وتطبيق مقاربات مناسبة، وتوفير مصادر مالية تلبي الحاجة لمواجهة مخاطر تغير المناخ والتخفيف من الخسائر التي يسببها.
شكل قرار دول مجموعة الـG7 في 8 حزيران (يونيو) 2015، الدول الصناعية المتقدمة، بالموافقة على خفض الانبعاثات المسببة للاحتباس الحراري والتغير المناخي من خلال التخلص التدريجي من استخدام الوقود الاحفوري بحلول نهاية هذا القرن، واعتبار القرن الـ 21 هو نهاية الاعتماد على الوقود الأحفوري في توليد الطاقة، قرارا تاريخيا، سوف يرخي بكل ثقله على مفاوضات باريس، وعلى روح اتفاقية المناخ المتوقع الاتفاق عليها.
يشكل التخلي الكامل عن الوقود الأحفوري في الاقتصاد العالمي، والانتقال إلى الاعتماد على الطاقة المتجددة بنسبة 100 بالمئة مع نهاية هذا القرن، تغيرا جوهريا في البنية الاقتصادية العالمية، ويشكل انتقالا لمرحلة جديدة مع عالم جديد كليا.
لا يبدو أن آخر هذا القرن موعد بعيد جدا، إذ أن التقليص التدريجي للاعتماد على الوقود الأحفوري، والتزايد التدريجي للاعتماد على الطاقة المتجددة قد بدأ من الآن، وبقوة دفع كبيرة جدا من الدول الصناعية المتقدمة وفي طليعتها ألمانيا، التي تشكل اليوم نسبة الطاقة المتجددة من مجمل حاجاتها للطاقة 27 بالمئة، وهي تنخرط في مشاريع ضخمة وبتمويل هائل لتطوير الطاقة المتجددة.
أما الهند، وما تمثل اقتصاد ناشىء ومتطور بوتائر سريعة، فقد التزمت بالتحول إلى 40 بالمئة طاقة متجددة بحلول العام 2030، أي بعد 15 عاما فقط.
هذا المنحى الجدي هذه المرة، يتوقع أن يترك بصماته الواضحة على الاقتصاد العالمي وعلى خطط التنمية للأعوام القادمة، وسوف يترافق بمتغيرات يصعب توقعها منذ الآن، واستشراف ملامحها. فعلى سبيل المثال، أقفلت “شل”، وهي من كبريات الشركات العالمية للصناعة البترولية استثماراتها العالمية في التنقيب عن النفط. وتتوالى التقارير العالمية في هذا المجال، وآخرها من أفريقيا، ومن بينها التقرير البحثي الثاني، عن سحب الاستثمارات في الوقود الأحفوري في أفريقيا وغيرها من مناطق العالم، وهذه المسألة ليست بيئية فحسب، بل هي مسألة سياسية واقتصادية وأخلاقية عميقة.
ونشهد حركة سحب الاستثمارات العالمية في الوقود الأحفوري، وهي تكبر يوما بعد يوم. أكثر من 450 مؤسسة وصندوق تقاعد وجامعة ومنظمات دينية، بما فيها مجلس الكنائس العالمي، أعلنوا الالتزام بذلك.
ترتبط دوافع حركة تصفية الوقود الاحفوري بالواجب الأخلاقي بالعمل على مناهضة أولئك الذين يستفيدون من الاستغلال والدمار المجتمعي، ومن أجل العدالة المناخية وحشد المناضلين في العالم لاتخاذ إجراءات فردية وجماعية.
أزمة تغير المناخ هي واحدة من أكبر التحديات في عصرنا. تحصل الفياضانات المدمرة بشكل متزايد، وكذلك الجفاف وارتفاع درجات الحرارة، ونقص المياه وارتفاع أسعار المواد الغذائية وزيادة أعداد مهاجري المناخ، وهذا واقع ظاهر في أفريقيا وبلدان العالم العربي.
إنها دعوة لعدم تمويل مشاريع تتعلق بالوقود الأحفوري، بل توجيه كل الدعم المالي للطاقات المتجددة، فمستقبلنا هو في مصادر نظيفة ومتجددة للطاقة.
هذا ما تؤكده مؤشرات التغير في الإدارة السياسية لمفاوضات المناخ. فهذه هي الولايات المتحدة الأميركية، بعد ممانعاتها السابقة في السنوات الخمس الأخيرة، تتعهد لـ”لصندوق الأخضر” لتغير المناخ بـ 3 مليار دولار سنويا. وهذه هي الصين أيضا، تتعهد بـ 3.10 مليار دولار سنويا. ما يعكس جدية لا تقبل التشكيك بتغير السياسات حيال تغير المناخ وحيال اتفاقية دولية فعالة للتحكم به.
حجر الزاوية في الاتفاقية الموعودة هو الأهداف البعيدة المدى هذه، المتعلقة بنقل الاقتصاد العالمي إلى اقتصاد خال من الكربون. وجدية الاتفاقية أنها وضعت آليات لمراجعة الأهداف المرحلية، ووضع أهداف جديدة في حركة حلزونية، تؤدي إلى سير متقدم بثبات وثقة نحو تحقيق الهدف الكبير. إن التقدم إلى الأمام هو ملزم قانونا وفق أحكام الاتفاقية الجديدة.

الناشر: الشركة اللبنانية للاعلام والدراسات.
رئيس التحرير: حسن مقلد


استشاريون:
لبنان : د.زينب مقلد نور الدين، د. ناجي قديح
سوريا :جوزف الحلو | اسعد الخير | مازن القدسي
مصر : أحمد الدروبي
مدير التحرير: بسام القنطار

مدير اداري: ريان مقلد
العنوان : بيروت - بدارو - سامي الصلح - بناية الصنوبرة - ص.ب.: 6517/113 | تلفاكس: 01392444 - 01392555 – 01381664 | email: [email protected]

Pin It on Pinterest

Share This