اجتمع المفاوضون في قاعات وأروقة “لو بورجيه” لمدة اثني عشر يوما، يناقشون أجندات مليئة بالتحديات، وكانت النتيجة مسودة أولية مليئة بالأقواس والخيارات المتناقضة أحيانا والطموحة أحيانا ثانية، ليدخل المفاوضون بعدها في مخاض استيلاد مسودة ثانية، تأجلت مرتين بهدف إقرارها ليصار إلى تأجيلها إلى صباح اليوم السبت في 12 كانون الأول (ديسمبر) الساعة 9 صباحا، إلا أن ثمة تكهنات بتأجيل لاحق لحلحلة العقبات، ومن المقرر أن ينضم بان كي مون إلى الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند في القمة التاريخية الساعة 11:30 بتوقيت باريس، حيث من المتوقع الإعلان عن النص المنتظر واعتماده رسميا في فترة ما بعد الظهر.
وفي إحدى التسريبات من أحد المفاوضين، وبعد ليلة طويلة من النقاشات أن مجموعة من الدول المنتجة للنفط مكونة من السعودية، روسيا، فنزويلا تعاونت مع مسؤولين عن انبعاثات كبيرة هي الصين وماليزيا والهند في محاولة لمنع أي إشارة إلى الدرجة والنصف المتفق عليها، إلا أن جهود بلدان ذات إقتصادات نامية، مثل البرازيل وجنوب أفريقيا ونيجيريا كان لافتا للانتباه، وحظي بتنويه المفاوضين لدور وتصميم هذه البلدان على عدم إغفال هذا النص ومحاولة الوصول الى اتفاق بشأنه.
وقال الامين العام للامم المتحدة بان كي مون أن “محادثات المناخ الدولية التي تتجه نحو الختام في باريس هي من المفاوضات الأكثر تعقيدا وصعوبة”.
إلا أن مفاجأة المؤتمر كانت ظهور ما سمي بــ”تحالف الطموح العالي” high ambition coalition، وهو تحالف سري نشأ منذ 6 أشهر ويجمع أكثر من مئة حكومة، بحيث تدفع المفاوضات من أجل التوصل إلى اتفاق عالمي وطموح ملزم قانونا بشأن تغير المناخ.
وكان وزير خارجية جزر المارشال طوني دو بروم Tony de Brum العقل المدبر وراء تأسيس هذا التحالف.
والـ”ائتلاف عالي الطموح” يتحدث عن الأغلبية من الدول الـ 195 دولة المشاركة في مؤتمر باريس، ويتألف من 79 دولة من دول أفريقيا، فضلا عن دول الكاريبي والمحيط الهادئ والولايات المتحدة وجميع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، وانضمت البرازيل إليه خلال الساعات الأخيرة من يوم الجمعة. لكن الاستثناءات البارزة تشمل الدول النامية الكبرى مثل الصين والهند.
وقد يكون هذا الإئتلاف وراء تحسن فرص الإشارة الاستراتيجية للهدف 1،5 درجة في نص الاتفاق المناخي الجديد بشكل كبير.
أما الرد الأول على ائتلاف الطموح فجاء على لسان نائب وزير الخارجية الصيني ليو زنمن، وقال في مؤتمر صحافي: “سمعنا عما يسمى بائتلاف الطموح منذ بضعة أيام، وساهم الإعلام في تضخيم إنجازاته، إلا أننا لم نجد أنهم توجهوا نحو التزامات انبعاثات طموحة”! وتابع “من الخطأ القول أن الصين تعرقل مفهوم “الحياد المناخي” climate neutrality، لكننا أعربنا عن قلقنا من كونه مفهوما جديدا، وليس ثمة تعريف له، ونحن لا نرى كيف يمكن وضع مفهوم دون تعريف في اتفاق ملزم قانونيا”.
العقبات
بالإجمال فالإتفاق (إن تم كما يأمل معظم ممثلو البلاد في التفاوض)، يواجه صعوبات في ستة أوجه رئيسة.
فالعقبة الأولى تتمثل الوصول إلى درجة حرارة أقل من مستوى ما قبل الثورة الصناعية، وقد كان مقترحا أن تصل إلى 2 درجة مئوية، إلا أن الإئتلاف عالي الطموح يحاول الوصول إلى درجة 1،5، بدعم البلاد المنضوية تحت لوائه. ويقول عالم المناخ في “جامعة أكسفورد” مايلز ألين “الاحتباس الحراري بفعل الإنسان هو قريب فعليا من درجة مئوية، وبهدف الحد من ارتفاع درجات الحرارة إلى درجتين مئويتين، يجب أن تنخفض انبعاثات الكربون CO2، فلكل عشر درجة من الاحترار من الآن فصاعدا على الإنبعاثات أن تنخفض بنسبة 10 بالمئة في اليوم بالمتوسط، أما للحد من ارتفاع درجات الحرارة للوصول الى 1،5 درجة فعلى انبعاثات CO2 أن تنخفض، بنسبة 20 بالمئة في المتوسط، لكل عشر درجة، إنما بمعدل الاحترار في الوقت الراهن، فعشر الدرجة المأمول يحتاج ما بين خمس إلى عشر سنوات، لذلك ستكون 1،5 درجة صعبة للغاية”.
أما العقبة الثانية فتتمثل بالوصول إلى صافي الصفر من الإنبعاثات بحلول النصف الثاني من هذا القرن، أي بمعنى أن الانبعاثات من الممكن أن تستمر ولكن يجب أن يتم موازنتها من خلال جهود الانبعاثات السلبية، مثل زرع الأشجار أو تقنيات امتصاص الانبعاثات من الجو، وهنا يأتي الخيار الثاني المتمثل بالدعوة إلى التزام الدول بهدف مبهم وهو الحياد المناخي، على مدار القرن، مع عدم وجود أهداف أو مواعيد محددة.
أما العقبة الثالثة فتتمثل في التمويل، وتحتاج البلدان النامية إلى التمويل للحد من انبعاثات غازات الدفيئة، وبناء البنية التحتية بحيث تساعد على حماية شعوبها من سوء الاحوال الجوية والتأثيرات المناخية الأخرى. وتشير أفضل التقديرات أن هذا التحول الإقتصادي العالمي سيكلف تريليونات من الدولارات، وتعهدت الدول الغنية بدفع 100 مليار دولار سنويا من مصادر خاصة وعامة بحلول عام 2020، وتشير أفضل التقديرات أن “الوعاء” حاليا ممتلئ بثلثي هذا المبلغ. وبادرت الولايات المتحدة بمضاعفة مساهمتها إلى 860 مليون دولار أميركي يوم الأربعاء الماضي.
أما العقبة الرابعة فهي الخسائر والأضرار، فالبلدان المنخفضة والمتأثرة بشكل كبير بتغير المناخ تواجه أضرارا دائمة ولا رجعة فيها بسبب التغير المناخي. فتلك الدول تريد الاتفاق على الإعتراف بتلك الأخطار، وتقديم قدر من الحماية. لكن الولايات المتحدة تعارض بشدة أي لغة في الاتفاق حول المسؤولية أو التعويض التي يمكن أن تعرض الشركات الاميركية لخطر الدعاوى القضائية عن التسبب في تغير المناخ.
وتتمثل العقبة الخامسة في المتابعات والتحسينات المستقبلية على الإتفاق، فبينما تطالب الدول الصناعية بـ “جردة” ابتداء من العام 2018 يمكن أن تعرض “المتقاعسين” للإذلال العام والدولي، تحاول الدول النامية تأجيل هذا الأمر إلى 2024، ويتبع كل هذا نوع من “التصعيد” في المواقف مع نوايا للدول المتقدمة لدفع الإتفاق نحو وضع خطط أكثر صرامة للإنبعاثات خلال خمس سنوات، وذلك للاستفادة من التقدم في تكنولوجيا الطاقة النظيفة، وتحسين فرص الحصول على صفر من الانبعاثات في منتصف القرن. أما الهند وغيرها من البلدان النامية فترغب في تأجيل تلك الاجتماعات التصعيدية لمرة واحدة في العقد أو نحو ذلك.
أما العقبة السادسة وهي العقبة الأكبر فهي التمايز بين الدول النامية والدول المتقدمة، أو differentiation، وتبقى هذه المسألة في التمييز متجذرة في تاريخ الإتفاقات الدولية في هذا المجال، فمن ينبغي أن يتحمل المسؤولية “أكثر” عن تغير المناخ؟ هل هي الدول الصناعية الأولى والمسؤولة تاريخيا عن الانبعاثات، أو البلدان النامية مثل الصين، وتعتبر حاليا أكبر مصدر للإنبعاثات في العالم؟ وتؤكد الدول النامية عدم القيام بشيء يذكر للتسبب في تغير المناخ ولكن يطلب منها أن “تقلم” نموها للحد من الانبعاثات. وتصر الولايات المتحدة على الهيكل الحالي للاتفاق، المعتمد على التعهدات الطوعية المطروحة من قبل كل بلد، والإقرار بهذه الاختلافات في التاريخ الاقتصادي. ويؤكد براكاش جافاديكار Javadekar Prakash وزير البيئة الهندي على هذا المنحى قائلا “الإنبعاثات التاريخية هي المسؤولة، فالعالم يشهد ويعاني اليوم من ارتفاع درجة حرارة 0،8 درجة مئوية بسبب الانبعاثات التاريخية من 150 عاما بحيث لا يمكن التخلص من تبعاتها بمجرد التمني”.
خارج باحات المؤتمر فقطع الجليد المستقدمة من القطب آخذة في الذوبان، مع طلائع المسيرات السلمية المقررة من نشطاء المناخ في باريس وجماعات المجتمع المدني، وسيتم توزيع الآلاف من زهور التوليب الحمراء لتمثيل الخطوط الحمراء التي لا ينبغي تجاوزها، بالتوازي مع تنظيم مسيرة تحت “برج ايفل” إن أو عندما يتم التوصل إلى اتفاق.