أنور عقل ضو

نجحت الحكومة في فرض خياراتها، بعد أن وضعت اللبنانيين أمام خيارين: السيء والاسوأ، وبالتأكيد حققت السيء، حتى وإن روجت لما تفتقت عنه “إبداعاتها” بالحل المستدام، وصورت لنفسها أنها اجترحت المعجزة، فيما هي سوغت خيارات أبعد من أن تصنف على أنها “بيئية”، فالخطة التي تلحظ فتح مطمرين جديدين في برج حمود وعلى شاطئ كوستابرافا لمدة أربع سنوات، تمهيدا لحل مستدام، لن تكون أفضل من نموذج مطمر الناعمة، ولا نفتئت على حكومة وصل بها الأمر إلى تبني خيار ترحيل النفايات! وليس ثمة ما يشيع الثقة بالنظر الى الارتكابات والارباكات التي حكمت عملها ليس طوال الاشهر الثمانية الماضية فحسب، وإنما قبلها بسنين، مع حكومات سابقة متعاقبة، منذ إضرام النار في محرقة العمروسية 1997.
بعيدا من تفاصيل الخطة، وهي ستكون بالتأكيد موضع متابعة من قبل greenarea.info كقضية آنية، إن على مستوى المراقبة، وإن على مستوى نتائجها وآليات التنفيذ، لكن ما يهمنا في هذه العجالة، تقديم قراءة نقدية لما آلت إليه أزمة النفايات بعد ثمانية أشهر:
1-لم يأتِ الحل الأخير، إلا بعد استنفاد كل الوسائل من “مسرحية” المناقصة والتلزيم في الأيام الأولى للأزمة، إلى خطة وزير الزراعة أكرم شهيب وصولا إلى الترحيل، وكلها جانبت العلم ونأت عن الحلول المستدامة، بدليل أن أحدا من الوزراء لم يتبنَّ الإدارة المتكاملة للنفايات، بمعنى المراوحة ضمن دائرة مقفلة عنوانها الطمر والحرق.
2-لقد تأكد أن الطبقة السياسية المستأثرة بمقدرات البلاد، تنسى تناقضاتها وتجتمع على ما يؤمن ديمومة مصالحها، خصوصا وأن خطة الحكومة هي نتاج توافق سياسي بين جميع المكونات الرئيسية، وبالتالي لم تلحظ البعد البيئي كخيار علمي، في مشهد يكاد يكون مشابها لتحالف قوى المعارضة والموالاة يوم اجتمعت وتخطت تناقضاتها، في سبيل اقصاء النقابي حنا الغريب، لانه لا يمثل طائفة أو مذهب.
3-استفادت الحكومة من تفاقم الأزمة، وتمكنت من توظيف وجع المواطن الذي ضاق ذرعا بمشهد النفايات، وخوفه من الاوبئة والامراض التي تجلبها، بدليل أن المواطنين وصلوا إلى مرحلة باتوا فيها وبعد أشهر ثمانية، يقبلون بها بأي حل بعيدا من استيفائه الشروط البيئية والصحية، خصوصا وأن الأمراض طاولتهم، مترافقة مع مشهد يومي للنفايات المتكدسة وانتشار الزواحف والقوارض، فضلا عن الروائح، ولا سيما تلك المنبعثة من المحارق المستحدثة، والتي ظلت تعمل رغم ملاحقة البلديات والجهات المرتكبة.
4-وفر التوافق السياسي الغطاء الأمني لتنفيذ الخطة، وهي انطلقت بمواكبة الجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي، وكانت على استعداد لقمع الرافضين للخطة، كما حصل على الطريق المؤدي الى مطمر الناعمة.
4-لم يتمكن الحراك المدني من الاستمرار بنفس الوتيرة الاعتراضية التي تجلت في 29 آب (أغسطس) الماضي، وعجز بكل مكوناته عن تشكيل رافعة شعبية لأسباب كثيرة، نذكر منها:
أ-توهم القيمون على الحملات المكونة للحراك أنهم قادرون على اجتذاب المواطنين الى الشارع، وأنهم حققوا ثغرة في حركة الاصطفاف بين فريقي 8 و 14 آذار، وفي ذلك مبالغة، ذلك أن الناس تحركوا بدافع من وجع في لحظة لم يحسن منظمو الحراك توظيفها.
ب-التناقضات بين مكونات الحراك، وتفريخ هيئات لا يتعدى عدد أفرادها أصابع اليد الواحدة، ما أضعف الحراك وأفقده الكثير من المصداقية، والخلافات التي وإن بدت متوارية أحيانا، إلا أنها في أحيان كثيرة بدت جلية في المواقف المتناقضة.
د-انقسام هيئات المجتمع المدني، دون تمكنها من بلورة مشروع مطلبي موحد، فضلا عن الاختلاف في الأولويات، والشخصانية، ومحاولة تصدر شاشات التلفزة والبحث عن شهرة، خصوصا وأنه لم تكن ثمة آلية تنظيمية موحدة.
5-اقتصر دور الجمعيات البيئية على طلات إعلامية، وبدا جليا أن ثمة عددا فائضا من هذه الجمعيات لم نرَ واحدة منها طوال فترة الأزمة.
6-غياب الأحزاب الطائفية وجمهورها، وهنا شعرت الحكومة بنوع من الأمان، فيما بدت الاحزاب والقوى العلمانية غير قادرة بدورها على مراكمة رأي عام رافض لسلطة فقدت مصداقيتها، بحيث أظهرت أزمة النفايات البنية الهشة لأحزاب عريقة، وتمظهرت إشكالية تنظيمية وسياسية عبرت عن نفسها في سياق التحركات عينها، وفي عدم القدرة على بلورة مشروع إنقاذي وفرضه على الحكومة.
وثمة أسباب كثيرة، ومنها أيضا، أنه بسبب ما آل إليه التحرك الشبابي والأهلي، لم تتمكن القوى المعترضة على أداء الحكومة في ملف النفايات، من حشد الناس لمواجهة إقامة مطامر جديدة، فيما البيئيون بمعظمهم، ظلوا أسرى الارتجال، ما يطرح إِشكالية جديدة حيال دور الجمعيات البيئية في لبنان، وهذا ما يتطلب الدعوة لتأسيس حركة بيئية جديدة أكثر دينامية، غير مرتبطة بمجموعة ناشطين فحسب، دون التقليل من دورهم في مراحل الأزمة، لكن حجم التحديات كان يفترض مواجهة الدولة بـ “لوبي” بيئي نشط ومرن ويتسم بدينامية يحكمها برنامج أكثر مما يحكمها أفراد.
إن هذا القراءة السريعة، وإن لحظت السلبيات، فهاجسها استعادة زمام المبادرة من قبل جميع القوى الرافضة لواقع الحال، إذ يبقى المطلوب الآن عدم التراخي، وإعادة مد الحراك الشعبي والشبابي بنبض أكبر، وابقاء التحرك قائما كمهمة يومية، وهذا لن يتحقق دون النظر في تجربة شكلت في لحظة ما علامة مضيئة، قبل أن تخمدها ظروف كثيرة، تراوحت بين ما هو موضوعي (قدرة السلطة وإمكانياتها) وما هو ذاتي (الخلافات والاستئثار)، واعتبار أن خطة الحكومة لمعالجة النفايات ليست قدرا، وأن ثمة الكثير من العمل المطلوب في هذه اللحظة!

الناشر: الشركة اللبنانية للاعلام والدراسات.
رئيس التحرير: حسن مقلد


استشاريون:
لبنان : د.زينب مقلد نور الدين، د. ناجي قديح
سوريا :جوزف الحلو | اسعد الخير | مازن القدسي
مصر : أحمد الدروبي
مدير التحرير: بسام القنطار

مدير اداري: ريان مقلد
العنوان : بيروت - بدارو - سامي الصلح - بناية الصنوبرة - ص.ب.: 6517/113 | تلفاكس: 01392444 - 01392555 – 01381664 | email: [email protected]

Pin It on Pinterest

Share This