د. ناجي قديح

مشهد بعض المسؤولين المنتشين بخطة النفايات، التي بدأوا تطبيقها، يثير الاشمئزاز والسخرية.
فهم لم يهتز لهم جفن لتراكم النفايات في شوارع وأحياء عاصمتهم، ومدنهم وقراهم وفي الساحات وضفاف الأنهر وتحت الجسور، وعلى الهضاب وفي الوديان وفي الأحراج، وعلى مداخل البنايات السكنية والإدارية.
وهم لم يوزعهم وخز ضمير لانبعاث الروائح الكريهة الناتجة عن تعفن النفايات في مواقع تراكمها، ولا انبعاث السُّموم مع غازات الحرق العشوائي في الأزقة والشوارع، وعلى نوافذ غرف نوم الأطفال والمرضى وكبار السن والأمهات الحوامل.
وهم لم يتعاملوا مع الأزمة، لا قبل وقوعها في 17 تموز (يوليو) 2015، ولا خلال توالي أيامها يوما بعد يوم، وشهرا بعد شهر، على أنها حالة استثنائية طارئة تستدعي السرعة بالتصرف، للاجتماع والتقرير ووضع الخطط والخطط البديلة، للخروج اليوم قبل الغد من قرفها ومخاطرها المتصاعدة على البيئة والصحة العامة.
وهم لم يسارعوا إلى اتخاذ إجراءات طوارىء للحد من عمر الأزمة، ولا من أثرها المدمر على البيئة والصحة.
وهم لم يتعاملوا بجدية مع كل القلق الشعبي الذي انطلق مع بدايات الأزمة، ولا هم أصغوا إلى كل ما طرح من خطط للتعامل الطارىء مع النفايات، ولا للحلول المستدامة البيئية المتكاملة والسليمة بيئيا والآمنة صحيا والمعقولة لناحية الكلفة والأثر الاجتماعي الاقتصادي، التي تتالت على امتداد أشهر الأزمة.
ولا هم على استعداد لمغادرة عقلية الصفقة، التي اعتادت على مدى السنين الماضية أن تحلب المنَّ والسلوى من ملف النفايات، وتعتصر مئات ملايين الدولارات منها، حتى ولو كان ذلك على حساب كل عناصر بيئة لبنان، هواءً وأرضا وبحرا ومياها سطحية وجوفية وغطاءً أخضر.
هم انتقلوا من صفقة المطامر في “الأطراف”، التي استفزت الناس وأفشلتها، إلى صفقة “الترحيل” – الفضيحة الموصوفة، التي أظهرت إلى أي مدى “قوى النفايات” مستعدة للتضحية بسمعة لبنان الدولية، إضافة لإهانة كل أهله في الداخل، وتجاهل حقوقهم البيئية والصحية. كل ذلك من أجل تحقيق الصفقة، التي لم يتزحزح الإصرار عليها قيد أنملة، رغم الحضيض الذي وصل إليه البلد بمؤسساته المشلولة وسمعته المهدورة.
لم يشعروا بالخجل، ولا بالمؤاخذة للحظة واحدة، واستمروا في استخدام النفايات المتراكمة وما نتج عنها من ضغط بيئي وصحي لابتزاز الجميع. ولم يتورعوا عن استخدام كل أنواع الضغوط، بما فيها التحريض الطائفي والمذهبي والمناطقي. مستخدمين كل هذا الضغط المتراكم والمتصاعد والمتسع طولا وعرضا وعمقا لابتزاز عموم الشعب، وكذلك لابتزاز شركاءهم في الحكومة، لتذليل اعتراضاتهم وتحفظاتهم، مهما كانت هزيلة وخجولة، ولإيصالهم إلى حالة الإستسلام لصفقاتهم.
في اليوم الثاني من الشهر التاسع من عمر الأزمة والضغوط المتصاعدة، إستسلمت كل قوى السلطة، في الحكومة وخارجها، ومارست جهدا لتليين مواقف البعض، وما تبقى من اعتراضات شكلية ولفظية خجولة عند هذا وذاك من رجال الطبقة السياسية المتحكمة بالبلد، ومُرِّرَت الصفقة المركَّبة، صفقة المطامر المترافقة بصفقة ردم البحر، الموعودة بأن تكون ملحوقة بالصفقة الكبرى، صفقة المحارق عالية الكلفة والخطورة على الصحة العامة والبيئة.
الطمر هو بحد ذاته صفقة كبرى لم تغادر عقل وذهن وخيارات القوى المتحكِّمة بملف النفايات، مبتزَّة كل أطراف الحكومة. فالطمر يتطلب أراضٍ عالية الثمن، ومنشآت عالية الكلفة، وعقود تشغيل طويلة الأمد وعالية الكلفة، وعقودا لإدارة ما بعد الإقفال طويلة المدى وعالية الكلفة. صفقة توفِّر عقودا لمُدَدٍ تتجاوز الخمسة أو الستة عقود، بكلفات تصل إلى مليارات الدولارات، على حساب تلويث البيئة البحرية، وتخريب الحياة فيها وتسميمها بالعصارة غير المعالجة، التي سوف تستمر بالتسرب بكميات كبيرة لعشرات السنين.
والردم هو بحد ذاته أيضا صفقة كبرى، إستساغوا طعمها في “ضبيه” وفي “النورماندي” ومؤخرا في “صيدا”. وهي بالفعل صفقة مغرية، يتم خلالها ردم البحر بالنفايات والردميات والصخور زهيدة الكلفة والثمن. ينتج عن ذلك أراضٍ جديدة، بمساحات تصل إلى مئات آلاف الأمتار المربعة، وربما الملايين منها، على الواجهة البحرية غالية الثمن. من أجل إنشاء “المارينا”، والمشاريع الاستثمارية لأصحاب الملايين والمليارات، على حساب حقوق اللبنانيين في الأملاك العامة البحرية لهذا الجيل والأجيال القادمة، وتخريب المنظومات البيئية البحرية على شواطئنا.
صفقة مركَّبة، يتقاطع فيها الطمر بردم البحر واستحداث أراضٍ جديدة. يقولون أنها لأربع سنوات، وهي الفترة الضرورية لبناء منشآت المحارق، التي ستحرق أنفاس اللبنانيين وتلوِّث هواءهم، وبيئتهم، بانبعاثاتها الجزيئية والغازية ومركباتها الكيميائية السامة، إضافة للرماد الخطير الذي سيتكون عن عمليات محارق النفايات. مما يهدد أمانهم الصحي بأكبر المخاطر المديدة بالزمن، والواسعة برقعة انتشارها.
المحارق منشآت عالية ثمن الإنشاء، وعالية كلفة التشغيل، حيث يتطلب تشغيلها فريقا عالي التأهيل التقني. بالإضافة إلى كلفة الوقود الضروري لإطلاق واستمرار عملية الاحتراق، والمحافظة على درجات الحرارة التشغيلية. بالاضافة إلى كلفة الصيانة العالية وقطع الغيار والتبديل، خصوصا لأجهزة التحكم بتلوِّث الانبعاثات الجزيئية والغازية والمركَّبات الكيميائية السَّامة. بالإضافة إلى معالجة سليمة للرماد بنوعيه، الرماد المتطاير ورماد القاع، والتخلص منه وفق الطرق البيئية السليمة في مطامر مجهزة لاستقبال النفايات الخطرة، وليس في مطامر النفايات المنزلية العادية غير خطرة.
يقولون أن أكثر البلدان تطورا وتقدما يستعمل المحارق الحديثة، فنقول لهم، أين أنتم من تلك البلدان؟ تلك البلدان التي تتمتع بمؤسسات عاملة وكاملة التكوُّن البنيوي والوظيفي للمتابعة والمراقبة والمتابعة والتدقيق والمحاسبة. في حين أن مؤسساتكم مغرقة في تخلفها البنيوي والوظيفي وبشغورها وتعطيلها.
ونقول أن تلك البلدان تتمتع بمنظومة تشريعات متكاملة، يتم تحديثها دوريا لتواكب كل جديد في مجال التكنولوجيا والعلوم البيئية والبيئية – الصحية. أين منها تشريعاتكم البالية والمتهالكة؟ أما التشريعات الحديثة منها فمهملة ومغيَّبة عن التطبيق. وأنتم قبل غيركم من تلتفُّون عليها، وتخرقونها، وتسحقونها بأقدامكم لتمرير الصفقات والمشاريع ذات الأثر البيئي والصحي والاجتماعي الكبير. أين أنتم من تطبيق القانون 444 الإطاري لحماية البيئة؟ أين أنتم من وضع المراسيم التطبيقية له ولغيره من التشريعات البيئية التي أقرت في العشرين سنة الأخيرة؟ أين أنتم من التطبيق السليم لمرسوم تقييم الأثر البيئي للمشروعات؟ أين أنتم من تطبيق واحترام مستلزمات الاتفاقيات الدولية التي وقَّعها وأبرمها لبنان؟ أين أنتم من وضع قانون حديث لإدارة النفايات، يصنِّفها إلى أنواعها، الخطرة منها وغير الخطرة، ويحدد استراتيجية وطنية بيئية سليمة لمعالجة كل أصنافها والتخلص منها؟ أين أنتم من كل هذا وغيره الكثير الكثير؟
تتمع تلك البلدان بمؤسسات وأجهزة للرقابة التقنية والبيئية والقانونية، أين أنتم من أجهزة الرقابة، التي تمعنون في تعطيلها وتهميشها والدَّوس على هيبتها؟
تتمتع تلك الدول بقدرات تقنية متقدمة، وهي تتطور باستمرار، للتحكم بشروط تشغيل المحارق الحديثة، وبمراقبة مؤشراتها التقنية، وكذلك المراقبة المستمرة للمؤشرات البيئية، الأساسية منها، والخاصة بالملوِّثات عالية السُمِّية والثَّبات والتراكم الحيوي. أين أنتم من هذه القدرات وحسن ودقة وسلامة تشغيلها؟
على الرغم من كل تلك القدرات المتقدمة مؤسَّسيا وتشريعيا ورقابيا وبيئيا وصحيا التي تتمتع بها تلك البلدان، لا تزال تتوالى التقارير، الصادرة عن معاهد ومؤسسات علمية ومراكز بحثية، تتحدث عن المخاطر الكبيرة التي تشكلها محارق النفايات على الصحة البيئية. ولا تزال تتوالى الدراسات الوبائية المعمقة عن الآثار الخطيرة وطويلة المدى على الصحة العامة المتأتية عن محارق النفايات، المترافقة جنبا إلى جنب مع كل إجراءات الحماية والرقابة المعمول بها، وعلى الرغم من التشريعات البيئية والصحية القاسية، النافذة في تلك البلدان.
ماذا سيحلُّ بنا، نحن البلد الفاقد للجهوزية المؤسسية والتشريعية والرقابية، التقنية والإدارية، إذا ما مُرِّرَت صفقة المحارق في لبنان بعد تمرير صفقة المطامر وردم البحر؟
ماذا سيحل بالأمان الصحي والبيئي لعموم الشعب اللبناني اليوم، ولمن سيولد من شعبنا في السنوات القادمة؟
بئسا لكم ولصفقاتكم، ولما تَعِدُون به اللبنانيين من انحدار وتدهور ومخاطر، تضاف إلى كل ما يواجهه بلدنا من تهديدات لأمنه واستقراره وتقدمه ونموِّه المستدام.

ينشر بالتزامن مع مطبوعة الاعمار والاقتصاد

الناشر: الشركة اللبنانية للاعلام والدراسات.
رئيس التحرير: حسن مقلد


استشاريون:
لبنان : د.زينب مقلد نور الدين، د. ناجي قديح
سوريا :جوزف الحلو | اسعد الخير | مازن القدسي
مصر : أحمد الدروبي
مدير التحرير: بسام القنطار

مدير اداري: ريان مقلد
العنوان : بيروت - بدارو - سامي الصلح - بناية الصنوبرة - ص.ب.: 6517/113 | تلفاكس: 01392444 - 01392555 – 01381664 | email: [email protected]

Pin It on Pinterest

Share This