شاركت 175 دولة يوم الجمعة الماضي (22 نيسان – أبريل) في “احتفالية” برعاية الأمم المتحدة في مقرها في نيويورك، في خطوة طموحة نحو المصادقة على الإتفاقية المبرمة في باريس أواخر العام المنصرم، وبداية تنفيذ المساهمات الوطنية التي التزمت بها دول العالم، وصادف ذلك في “يوم الأرض”، لكن بالمقابل، وفي هذه الأثناء أيضا، فقد كسر الاحترار المناخي حاجز الحماية الأول المقدر بدرجة ونصف درجة مئوية!
وكنا قد تناولنا في مقال سابق بيان “أصدقاء الأرض” والذي أشار إلى “وهم” اتفاق باريس، فضلا عن عدد من العلماء والباحثين.
درس من التاريخ
ونطل في هذا السياق على أمر متصل، ويمكن اعتباره درسا من التاريخ قد يتكرر، فعلى الرغم من أن الدول التي توقع وتصادق على اتفاقية ما، يبقى لديها هامش من حرية التصرف بما تقتضي مصلحتها والانسحاب منها. فعلى سبيل المثال، وقعت كندا “اتفاقية كيوتو” في العام 1997 وصادقت عليها في العام 2002 لتنسحب في العام 2011، وقد يتكرر الشيء نفسه الآن، مع العلم أن “اتفاقية كيوتو” كانت ملزمة قانونا وعلى الرغم من ذلك فالدول لم تلتزم!
وإذ يضع “اتفاق باريس” سقفا طموحا لجهة الوصول إلى ما دون 1،5 درجة مئوية، فهل نفقد الأمل بإمكانية التأثير وإبقاء الإحترار عند مستوى “الأمان المناخي”؟
لكن في المقابل، لا يمكن أن ننسى أن توقيع هذا الإتفاق وبهذا الزخم العالمي، يعد سابقة مع إمكانية أن تصادق بقية الدول على التزاماتها قبل نهاية العام، ولم يحصل مثل هذا الاجماع الدولي إلا مرة واحدة، وذلك في العام 1982، وذلك بتوقيع “اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار” United Nations Convention on the Law of the Sea والتي صادقت عليها 119 دولة.
وسيدخل الاتفاق حيز التنفيذ بعد 30 يوما مع مصادقة ما لا يقل عن 55 من الأطراف في الاتفاقية الإطارية، وهي الدول التي تمثل 55 بالمئة على الأقل من الانبعاثات العالمية.
وقام خمسة عشر بلدا بالمصادقة على الإتفاقية خلال حفل التوقيع، بما في ذلك البلدان النامية الجزرية الصغيرة التي هي في الخطوط الأمامية من التأثيرات المناخية، وشملت جزر المارشال The Marshall Islands، وناورو Nauru، بالاو Palau، الصومال Somalia، دولة فلسطين State of Palestine، بربادوس Barbados، بليز Belize، فيجي Fiji، غرينادا Grenada، وسانت كيتس ونيفيس Saint Kitts & Nevis، ساموا Samoa، توفالو Tuvalu، جزر المالديف Maldives، سانت لوسيا Saint Lucia وموريشيوس Mauritius.
كما أعلنت بلدان عدة خططا للانضمام إلى الاتفاق في العام 2016، بما في ذلك أستراليا، الأرجنتين، الكاميرون، كندا، الصين، فرنسا، مالي، المكسيك، الفلبين والولايات المتحدة، وتعهدت دول أخرى، بما في ذلك البرازيل والاتحاد الأوروبي، والاتحاد الروسي، للعمل على وجه السرعة لاستكمال الخطوات اللازمة للانضمام إلى الاتفاق.
فرنسا وتسعير الكربون
وكان اللافت للانتباه في الإحتفال إعلان الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، ان بلاده ستأخذ زمام المبادرة لتحديد سعر للكربون.
كما شارك قطاع الأعمال بقوة في احتفال التوقيع، ودعت المدير التنفيذي للميثاق العالمي للأمم المتحدة United Nations Global Compact ليز كينغو Lise Kingo الشركات في كافة أنحاء العالم لوضع سعرا داخليا للكربون internal carbon price بما لا يقل عن 100 دولار أميركي للطن المتري الواحد، وقالت أن “اتفاق باريس يرسل إشارة واضحة إلى أنه يجب على رجال الأعمال والمستثمرين وضع المناخ في قلب عملية صنع القرار”، وأضافت “نحن نعتقد أن تحديد سعر داخلي يقدر بـ 100 دولار أميركي على الكربون، هو واحد من أكثر الطرق فعالية لدفع عملية تغير المناخ في عمق استراتيجيات الشركات والاستثمار، في حين أن الشركات الرائدة قد اتخذت خطوات لتسعير الكربون، ونحن بحاجة لرؤية صعود في الطموح وعملية تسعير في كافة المجالات”.
وقالت الأمين التنفيذي لاتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ Executive Secretary of the UN Framework Convention on Climate Change (UNFCCC) كريستيانا فيغيريس Christiana Figueres: “اليوم هو يوم رائع، فقد تم تسجيل رقم قياسي في تاريخ التعاون الدولي بشأن تغير المناخ، ومستقبل مستدام لمليارات من البشر الذين يعيشون اليوم وتلك الأجيال القادمة”، وأضافت أن “الحاجة ملحة الآن لتنفيذ المسارات النظرية في اتفاق باريس بسرعة وعلى نطاق واسع، لتحقيق الخطوات الحاسمة المقبلة، ألا وهي، الإسراع في الحد من الانبعاثات العالمية، والتوصل إلى عالم محايد لجهة المناخ في النصف الثاني من القرن، فضلا عن بناء دول ومجتمعات تتميز بالمرونة لكل رجل وامرأة وطفل”.
الدول الملوّثة الأكبر
في هذا المجال، من المهم الإشارة إلى لائحة الدول “الأكثر تلويثا”، وتساهم بـ 60،39 بالمئة من الإنبعاثات، بالمقابل تساهم الصين والولايات المتحدة معا بنسبة 38 بالمئة، وهذه الدول هي: الصين بنسبة 20،09، الولايات المتحدة الأميركية 17،89، روسيا 7،53، الهند 4،1، اليابان 3،79، ألمانيا 2،56، البرازيل 2،48 وكندا 1،95 بالمئة.
وزيرة البيئة الكندية “لن أخذل أولادي”
وكان رئيس وزراء كندا جوستين ترودو Justin Trudeau قد حضر توقيع الإتفاق مع وزيرة البيئة الكندية كاثرين ماكينا Catherine McKenna وكانت حكومتها قد حضرت مؤتمر باريس بخطط حضرتها حكومة المحافظين السابقة في كندا، وقالت ماكينا في هذا المجال “علينا أولا إعداد خطة المناخ الخاصة بنا قبل التصديق على معاهدة باريس في خريف هذا العام، فنحن في حاجة إلى وجود خطة لتلبية التزاماتنا الدولية، ولدينا ستة أشهر فقط للقيام بذلك، إلا أنني لن أخذل أولادي”.
زرع شجرة
واحتفلت الأمم المتحدة بالغابات عن طريق زرع شجرة في “حدائق الغذاء” UN Food Gardens الخاصة بها، تحقيقا لشعار يوم الأرض للعام 2016، وهو “الأشجار من أجل الأرض” Trees for the Earth، وتولى نائب الأمين العام للأمم المتحدة UN Deputy Secretary-General يان الياسون Jan Eliasson ورئيس الجمعية العامة the President of the General Assembly موغنس ليكيتوفت Mogens Lykketoft ومسؤولون آخرون مهمة حفر حفرة لشجرة مزهرة جديدة على أرض الأمم المتحدة، على أمل أن تلهم كل شخص بزراعة شجرة قرب منزله.
و”حدائق الأمم المتحدة للأغذية” هي مبادرة من الموظفين المتطوعين والدائمين من مختلف كيانات منظومة الأمم المتحدة، وتهدف إلى تحويل الأراضي غير المستغلة في مقر الامم المتحدة إلى حدائق للغذاء المستدام، من خلال إنتاج الأغذية على نطاق صغير، في ترجمة للأولويات العالمية المتعلقة بزيادة التنوع البيولوجي، والعناية بالأرض، والنظم الغذائية المستدامة، وكمثال يحتذى به في مدن صديقة للبيئة حول العالم.
ماذا قدمت إتفاقية باريس حتى الآن؟
رغم تشكيك الكثيرين بما يمكن لاتفاقية باريس تقديمه، وخصوصا لجهة كسر الإحترار المناخي لما فوق 1،5 درجة خلال السنوات القادمة، إلا أن “معهد الموارد العالمية” World Resources Institute ومقره في العاصمة الأميركية واشنطن، أشار إلى تقدم في المجالات التالية نتيجة هذا الإتفاق:
-استثمار 286 مليار دولار أميركي في مجال الطاقة المتجددة في كافة أنحاء العالم، وهو رقم قياسي وأكثر من ضعف المبلغ المستثمر في محطات توليد الطاقة من الوقود الأحفوري.
-توقف انبعاثات الكربون المرتبطة بالطاقة في حين يستمر الاقتصاد العالمي في التوسع، وفقا لـ”وكالة الطاقة الدولية” the International Energy Agency، كما سجلت 21 دولة حتى الآن خفض الانبعاثات السنوية من غازات الاحتباس الحراري مع تزايد وتيرة اقتصاداتها.
-ارتفاع الاستثمار في الطاقة النظيفة في الصين العام الماضي إلى حدود كبيرة، بينما انخفض استهلاك الفحم.
-وافقت الولايات المتحدة وكندا على خفض كبير في انبعاثات غاز الميثان من عمليات النفط والغاز القائمة.
-تسجيل أكثر من 500 التزام جديد في قاعدة البيانات التي تتعقب التزامات المناخ من خلال الجهات الفاعلة غير الحكومية بعد محادثات باريس.
خلاصة
وحيال هذا الواقع المرير لجهة المناخ، والذي يهدد جميع سكان كوكبنا الأزرق، وأمام الخطوات الإيجابية المتواضعة أمام هذا التهديد، ومع احتفال العالم بيوم الأرض، يقودنا التفكير إلى ما سيكون عليه الوضع خلال عام أو عامين أو حتى 2020، أو 2050، وقد يفيدنا أن نتذكر ما كانت عليه الأرض قبل بضعة أعوام، وما هي عليه في الوقت الحاضر حيث تشهد البيئة فيه تدهورا غير مسبوق، ما يفرض علينا التوجه نحو توسيع آفاق رؤيتنا للأمور، ووعينا إلى واقع الحال وما يترتب عليه، ونستبق الأمور، وبدلا من يوم أرض وحيد كل العام، قد يكون من الضروريات أن يكون ثمة يوم أرض كل شهر، وكل يوم من أيام السنة، نقوم فيه بأفعال وممارسات بيئية ونوعية، إنما ضرورية لاستمرارية حياة هذا الجيل والأجيال اللاحقة، عبر مسار التنمية وبلورة المشاريع بشكل مستدام، وربما قد نتمكن حينها من السيطرة على التغير المناخي وقبل فوات الأوان.