تَعتبِر منظمة الصحة العالمية “الصحة” حالة اكتمال السلامة جسديا وعقليا والرفاه الاجتماعي، وليس مجرد انعدام المرض أو العجز. وتعرِّف “الصحة العامة” باعتبارها كل التدابير المنظَّمة للوقاية من الأمراض وتعزيز الصحة وإطالة أمد حياة السكان، والعمل على توفير الظروف الصحية، وتطبيق أفضل السياسات لتحقيق أعلى حالة صحية ممكنة جسديا وعقليا ولناحية الرفاه الاجتماعي لعموم السكان.
وقَّع عدد كبير من دول العالم، بينها لبنان، إتفاقية باريس بشأن التغير المناخي، وأعلن العزم على السير في طريق تطبيق توجهاتها الآيلة للتحكم بالتغير المناخي، وما يتهدد حياة ملايين البشر في مختلف مناطق الكرة الأرضية من مخاطر ترتبط به وبأحداثه. هذه الأحداث التي أخذت في السنوات الأخيرة تزداد شدتها وتطرفها ووتيرة حصولها.
فما هو أثر تغير المناخ على الصحة؟
يؤثر تغير المناخ على المحدِّدات الاجتماعية والبيئية للصحة، وخصوصا الرئيسية منها: الهواء النظيف، مياه الشرب الآمنة، الغذاء الكافي والآمن والمسكن الآمن.
تزداد وتائر درجات الحرارة المتطرفة في كثير من مناطق العالم. فأصبحنا نشهد موجات الحر وموجات الصقيع المتطرفة في بلدان لم تعرفها من قبل بهذه القوة والشدة. أسهمت موجات درجات الحرارة المرتفعة في التسبب مباشرة بوفاة آلاف البشر من المسنين ومرضى القلب والشرايين والجهاز التنفسي، وخصوصا في أوروبا منذ بداية الألفية الثانية وحتى اليوم.
إن ارتفاع درجات الحرارة المترافق مع ارتفاع في مستويات الأوزون O3 في الهواء، نتيجة الأكسدة الضوئية (تحت أشعة الشمس) لبعض الملوِّثات مثل أكاسيد النيتروجين NOx والمركبات العضوية الطيارة VOCs، يؤدي إلى تفاقم أمراض القلب والشرايين والجهاز التنفسي.
وتزداد مع موجات الحر أيضا مستويات حبيبات اللقاح في الهواء، مما يرفع من وتيرة التحسس الرئوي والربو Asthma.
في منطقتنا وكثير من مناطق العالم، يتسبب تغير المناخ بالجفاف ونقص نسبة المتساقطات وباضطراب التوزع الزمني للمطر، ما يؤدي إلى اضطراب في التغذية بالمياه العذبة الصالحة للشرب والإستعمال البشري.
يرتبط النقص بالمياه بصعوبة تلبية حاجات النظافة مما يزيد من مخاطر التعرض للأمراض المعويِّة والإسهالات، وخصوصا لدى الأطفال ما دون الـ 5 سنوات. وفي حالات النقص الشديد بالموارد المائية يمكن أن نشهد مظاهر الجفاف الحاد والمجاعة. في حين تسبب الأمطار الغزيرة فيضانات مدمِّرة تزداد وتيرتها باستمرار.
تؤدي الفياضانات إلى تلوث موارد المياه العذبة، وترفع من مخاطر التعرض للأمراض المنقولة بالمياه، وكذلك توفر الظروف الملائمة لانتشار الأمراض المنقولة بالحشرات مثل البعوض والذباب.
يتسبب إرتفاع درجات الحرارة واضطراب هطول الأمطار بنقص في إنتاج المواد الغذائية في كثير من المناطق الفقيرة. وهذا ما يهدد بازدياد انتشار سوء التغذية والجوع ما يؤدي إلى وفاة ملايين البشر سنويا.
من أحداث تغير المناخ أيضا، إطالة الفصول الملائمة لتكاثر ناقلات الأمراض من حشرات وقوارض وحيوانات، وكذلك توسع نطاق تواجدها الجغرافي.
إن الفئات الأكثر هشاشة حيال التعرض للأمراض، التي يسببها تغير المناخ أو يفاقم مخاطرها، هم سكان البلاد الفقيرة، وسكان المناطق الساحلية، والمدن الكبرى ذات الكثافة السكانية العالية. ويعتبر الأطفال والرضع، وخصوصا في البلدان الفقيرة، الفئة الأكثر عرضة للأمراض، بالإضافة إلى كبار السن والمرضى والنساء الحوامل، وسكان المناطق ذات الخدمات الصحية المحدودة.
تتزايد نشاطات البحث العلمي بشأن تأثير تغير المناخ على الصحة. ويحتل لبنان، مع الأسف الشديد، آخر قائمة البلدان العربية والشرق أوسطية في هذا المجال، حيث تحتل إيران وباكستان والسودان المراتب الثلاث الأولى في عدد نشرات الأبحاث العلمية المتعلقة بهذا الموضوع الهام.
د. ناجي قديح