منذ نشوء لبنان، دولةً وكيانا مستقلا، لم تتغير السياسات حيال القطاع الزراعي، وظل قطاعا ثانويا في مراحل معينة، وهامشيا في مراحل كثيرة، ولم يرق الاهتمام الرسمي إلى مستوى تبني الزراعة كقطاع يمكن أن يشكل حالة من الأمان الاقتصادي والاجتماعي، ما ساهم في تراجع المساحات المزروعة، منذ سبعينيات القرن الماضي، ومن المتوقع ان تشهد تراجعا اكثر مما هي عليه الآن والمقدرة بنحو 20 بالمئة من مساحة لبنان، ومع التحديات الآنية، بفعل عوامل وظروف عديدة، فمن المتوقع أن يتأثر القطاع الزراعي على نحو كبير، الأمر الذي ستترتب عليه نتائج كارثية، خصوصا وأن الزراعة تساهم بنسبة تتراوح بين 15 و20 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي.
وهذا ليس بغريب، فالزراعة في لبنان تواجه تاريخيا إهمالا نتيجة التوجهات العامة للدولة، ومردّ ذلك إلى أن أهل السياسة وصناع القرار أرادوا لبنان “كازينو”، وأبقوا الاقتصاد قائما بشكل أساس على قطاع الخدمات، وبات لبنان أسير الاقتصاد ريعي، بالرغم من أنه غالبا ما يظهر مدى هشاشته في الأزمات التي تواجهه، وحتى السياسة الزراعية اليوم لا تستند الى مفاهيم علمية واضحة ومتكاملة، وهي قائمة في حدود كبيرة على الارتجال، فجتى الروزنامة الزراعية، قلّما استطاع لبنان تطبيقها بسبب الظروف الداخلية والخارجية، فضلا عن سياسات زراعية مجتزأة ومرتجلة، تمليها أزمات عابرة لا تلبث ان تندثر بانتهائها وقبل بلوغ غاياتها، او تتناول الزراعات الاساسية، كالقمح والشمندر السكري والتبغ، تفرضها النقابات والتعاونيات الزراعية، سرعان ما تفقد دورها وفعاليتها بفعل التقادم، ونتيجة لعدم اعارتها الاهمية الانمائية التي تتفق مع مصلحة القطاع الزراعي، كأن تعطل تفاصيل تنفيذها الهدف المرسوم لها، او تعلن في غير موعدها الطبيعي، او تستمر لسنوات بالصيغة التي وضعت فيها، بالرغم من تطور الظروف الداخلية والخارجية المختلفة، كتبدل الاسعار والمساحات، وأهمية الزراعات التي تشملها في التركيبة الزراعية بكاملها.
واذا كانت الدولة قد شرعت في دراسة خطة زراعية جديدة، قيل بانها عصرية ومتكاملة، فإن هذه الخطة لم تظهر بصيغتها النهائية، ولم يجر اقرارها رسمياً، ما يشير الى ان الدولة لا تزال غير مقتنعة بدور الزراعة الجديد في التنمية الاقتصادية بصورة عامة، وفي التنمية الريفية والغذائية والاجتماعية والبيئية بصورة خاصة. وذلك لاسباب عائدة لانصراف المسؤولين الى اولويات أخرى، ولعجزهم عن إجراء تقييم سليم لهذا الدور الجديد، بالرغم من اعتراف جميع الدول المتقدمة والنامية به، لا سيما وأن الغذاء بات سلاحا حاسما في السياسة الدولية والبيئية، ويمثل هماً جاثماً فوق صدور الحكومات والشعوب، ويتربص بمصير الجنس البشري في المرحلة القريبة المقبلة من الزمن.

معاناة العاملين في هذا القطاع

المشكلة أن المزارعين غالبا ما ينتظرون مددا لا يأتي، وما عادوا يعولون على حضور الدولة ومواكبة مواجعهم، وهم يواجهون واقعا مأساوياً، فبحسب التقرير نصف السنوي لجمعية المزارعين، تراجعت الصادرات الزراعية خلال السنوات الماضية، اي منذ بدء الحرب في سوريا 14.3 بالمئة، مسجلة 192 الف طن، بينما كانت 224 الف طن خلال سنة 2010، والتي كانت تراجعت سنة 2011 الى 196 الف طن بنسبة قدرها 12,5 بالمئة وتدنت سنة 2012 الى 182 الف طن.
اما عن الصادرات نسبة للأصناف، فإن صادرات البطاطا زادت بمقدار 27,7 بالمئة في النصف الاول من 2013 مقارنة بالفترة نفسها من العام 2010، وصادرات التفاح زادت 31 بالمئة. اما الصادرات من الحمضيات فتراجعت 37,5 بالمئة والموز 33.5 بالمئة.
من جهة اخرى، حلّت السعودية في طليعة الدول المستوردة للمنتجات الزراعية اللبنانية، بحيث شكلت نسبة الصادرات الزراعية اليها 21 بالمئة تليها الكويت 16 بالمئة، سوريا 17 بالمئة، الإمارات 10 بالمئة، الأردن 11 بالمئة، قطر 4 بالمئة، عمان 3 بالمئة، البحرين 3 بالمئة والعراق 2 بالمئة.
وهنا، لا بد من الإشارة أن الأرقام المتوقعة العام الجاري ستسجل مستويات أدنى، ذلك أن ليس ثمة ما تغير إن على مستوى استمرار الأزمة السوري، وهذا ما تجلى في كساد الانتاج وتدني الأسعار إلى ما دون الكلفة، وإن على مستوى أداء الحكومة غير المعنية حتى اللحظة بوجع ومعاناة العاملين في هذا القطاع.

لبنان والسياسة الزراعية المتوسطية

وتجدر الإشارة إلى أن الدولة في تبنيها دراسة خطة زراعية جديدة، عصرية ومتكاملة، لم تُغير في الواقع شيئا، حتى أن ثمة معوقات لا يمكن إغفالها، حالت وتحول دون تفعيل أية خطط وبرامج، فالدولة إلى الآن تمعن في عدم الإقرار بأهمية قطاع الزراعة في التنمية الاقتصادية بصورة عامة، أي ما يطاول التنمية الريفية وتحقيق الأمن الغذائي والاجتماعي، وحماية البيئية وتبني مفاهيم الاستدامة و”عصرنة” القطاع الزراعي بما يؤمن وفرة في المحاصيل وتدني كلفة الانتاج، وثمة أسباب عديدة، يبقى أبرزها أن لدى المسؤولين اولويات أخرى، ويترافق ذلك مع عجزهم عن إمكانية إجراء تقييم سليم لدور القطاع الزراعي الذي أولته الدول المتقدمة، وحتى الدول النامية اهتماما وصل إلى حد اعتبار الغذاء “سلاح حاسم” في السياسة الدولية والبيئية، ومهمة يومية للنهوض بالزراعة مع ما يواجه العالم من تحديات ومخاطر تتهدد مصير الجنس البشري في السنوات والعقود المقبلة.
وسط كل ذلك، لا يمكن أن نصل إلى مرحلة من الأمان والاستقرار الاجتماعي، دون تبني خطة زراعية متكاملة في خدمة التنمية في لبنان، فتأتي مكملة للمحاولات الاخرى الرسمية والاهلية، وتلحظ المستجدات الحاصلة في الاسواق العربية، والاتفاقات الثنائية والمتعددة المعقودة مع واحدة او أكثر من الدول العربية، مع مراعاة أن لبنان دولة متوسطية، لا يمكن أن يبقى معزولا عن الدول الاوروبية والعربية المحيطة بحوض البحر الابيض المتوسط، ما يقتضي التنسيق معها بما يضمن مصلحته، والافادة من دول مكملة له اقتصادياً وجغرافياً.
لا يمكن أن نتبنى الأهداف الكبيرة بعيدا من التخطيط لمستقبل لبنان الزراعي، وعلى الدولة أن تدرك أن لبنان كما غيره من الدول، خضع ويخضع باستمرار لتطور مستمر، ومتسارع في المعطيات الاقتصادية الاقليمية والدولية، وهذا هو جوهر التحدي الدائم الذي يتعين عليه تبنيه والنجاح في مواجهته، وفي منطقة البحر الابيض المتوسط، لقد تبدلت المعطيات الدولية المؤثرة في السياسة الزراعية خلال العقدين الماضيين، وذلك بالنظر للأهمية المتصاعدة للاسواق الزراعية الدولية، التي لا بد وانها انعكست على المنطقة، فتركت آثاراً لا يمكن تجاهلها، على السياسة الزراعية المتوسطية.

تصريف الإنتاج

وإلى ما يواجه القطاع الزراعي على مستوى السياسات الرسمية، اجتمعت منذ العام الماضي عوامل عدة أثرت سلباً وانعكست على جميع العاملين في هذا القطاع، خصوصا بعد إغلاق معبر “نصيب” السوري عند الحدود مع الأردن العام الماضي (2015)، ما أدى إلى تراجع الصادرات الزراعية نحو 35 بالمئة خلال شهرين، وتراجع حجم النقل البري نحو 87 بالمئة، إذ كانت تمر من خلال هذا المعبر النسبة الأكبر من الصادرات اللبنانية إلى الدول العربية، وتحديداً دول الخليج، ما فاقم صعوبة تصريف الإنتاج. وتُضاف إلى ذلك التقلبات المناخية غير المسبوقة عام 2015، التي أدت إلى خسائر في الإنتاج تراوحت بين 50 و60 بالمئة، ولا نستغرب أن هذه التطورات الدراماتيكية باتت تهدد لقمة عيش نحو 400 ألف مزارع، ونحو 1.2 مليون شخص يستفيدون من هذا القطاع الحيوي.
وبحسب وزير الزراعة أكرم شهيّب، فإن الوزارة اتخذت عدداً من الإجراءات للمساعدة في تصريف الإنتاج، أبرزها التصدير إلى دول الخليج ومصر والأردن عبر النقل البحري بالحاويات، وعبارات الرورو التي تنقل الشاحنات المحمّلة بالسلع، إضافة إلى النقل الجوّي.
وقامت الحكومة اللبنانية، وبطلب من وزارة الزراعة، بدعم النقل البحري عبر المؤسسة العامة لتشجيع الاستثمارات في لبنان (إيدال)، التي أطلقت برنامج الجسر البحري للصادرات اللبنانية، إلا أن شهيب لفت إلى أن الحلول يجب أن تشمل أيضاً “إيجاد أسواق جديدة للمنتجات اللبنانية، وتعزيز الإرشاد في التصنيع الغذائي داخل لبنان، وزيادة إنتاج السلع التي تُنقل جواً، والتشجيع على الزراعة النوعية المنافسة، وتعزيز التصنيع الزراعي”.
لكن ثمة نكسة تعرض لها المزارعون في هذا المجال، ذلك أن النقل بالعبارات اصطدم بغياب التنظيم وبارتفاع الكلفة، إذ يبلغ رسم عبور قناة السويس 100 ألف دولار لكل عبارة في كل عبور لها، أي أن كلفة الذهاب والإياب تبلغ 200 ألف دولار أميركي.

عمليات التهريب

وكانت السوق السورية قبل الحرب المستعرة منذ خمس سنوات، تشكل ثاني أبرز وجهة للصادرات اللبنانية بعد السوق السعودية، نتيجة قرب المسافة الجغرافية، وعدد السكان البالغ نحو 25 مليون شخص. وكان لبنان يصدر إلى سوريا ما بين 50 ألفاً و60 ألف طن سنوياً، وتراجع هذا الرقم تدريجاً بعد اندلاع الحرب، ليسجل أدنى مستوياته عام 2015. لكن مع تراجع الصادرات اللبنانية إلى سوريات، لم تتوقف عمليات التهريب بالاتجاه المعاكس، فاستمر غزو البضائع السورية للسوق المحلية عبر المعابر غير الشرعية، ما شكّل ضغطاً إضافياً على المزارعين اللبنانيي، وهذا ما واجهه ويواجهه العاملون في قطاع زراعة الزيتون في لبنان الذي يعتبر أبرز دعائم القطاع الزراعي، والعاملون في زراعة التفاح والحمضيات وقطاع الدواجن والماشية.
وتقف الحكومة عاجزة حيال هذا الأمر، فالتهريب، بحسب الوزير شهيب “قضية تاريخية عمرها عشرات السنين، لكن الوزارة لم تقصّر في هذا المجال، ومنعت استيراد العديد من المنتجات في موسمها، فعلى سبيل المثال لا الحصر، منعنا استيراد الزيتون وزيت الزيتون في موسمه إلا بإذن مسبق من الوزارة، ولا نعطيه إلا بحالات استثنائية”. وأكد أن تعزيز المراقبة ودور القوى الأمنية في هذا الملف، حدّا من ظاهرة التهريب بنسبة كبيرة، لكن من المستحيل القضاء عليها نهائياً.
كما أن الضرر الناتج من إقفال المعابر البرية في سورية لم يقتصر على منع المنتجات اللبنانية من الوصول إلى الدور العربية فحسب، بل أيضاً دفع بجزء كبير من المنتجات السورية إلى لبنان، بالطرق الشرعية وغير الشرعية، ما فاقم أزمة المزارعين الذين يعانون أصلاً عدم تصريف إنتاجهم، وفرض عليهم منافسة غير مشروعة.

التبادل التجاري بين الدول العربية

إنضم لبنان الى إتفاقية تيسير وتنمية التبادل التجاري بين الدول العربية، وصولاً الى إقامة منطقة تجارية حرة عربية تتماشى مع إحتياجات الدول العربية كلها، والهدف الأساسي من هذه الاتفاقية تعزيز العلاقات الإقتصادية بين الدول العربية والعالم الخارجي والوصول الى بناء تكتل إقتصادي عربي تكون له مكانته على الساحة الإقتصادية العالمية. وترتكز الاتفاقية على تحرير كل السلع العربية المتبادلة بين الدول الأطراف وفقاً لمبدأ التحرير التدريجي.
إلا ان الدولة لم تستغل هذا الأمر، إذ بقيت الاسواق الخارجية مقفلة في وجه الانتاج اللبناني، قبل الأزمة السورية، بسبب ارتفاع الكلفة وعدم القدرة على المنافسة.
وأشار رئيس رئيس “نقابة مزارعي التفاح والاشجار الجبلية المثمرة” فؤاد نصر لـ “الاقتصاد والإعمار” إلى “اننا كنا نسوق انتاجنا من التفاح في العراق والسعودية ومصر وبعض دول الخليج”، منوهاً إلى أنه “في الماضي كانت ليبيا تستورد معظم انتاجنا من التفاح لكن السوق الليبية توقفت لاعتبارات مرتبطة بقضية تغييب سماحة الامام السيد موسى الصدر”.
وأضاف نصر: “واجهنا مشكلات كبيرة قبل اعلان اتفاقية التيسير العربية التي أمهلت لبنان نحو سبع سنوات من اجل تطوير القطاع الزراعي ليكون منافساً في الاسواق العربية، لكن طوال هذه الفترة لم تهتم وزارة الزراعة بتحسين القطاع الزراعي والعمل على تخفيض كلفة الانتاج كي نتمكن من المنافسة في هذه الاسواق، وقد فوتت الفرصة على لبنان يوم تمكنا من تأجيل تنفيذ الاتفاقية ثلاث سنوات تحت ضغط مطالب الجمعيات والنقابات الزراعية، وقد استجاب المجلس الاقتصادي الاجتماعي العربي، وارجأ تنفيذ الاتفاقية لسنوات ثلاث ريثما نكون جاهزين، لكن طوال هذه الفترة لم تهتم الدولة اللبنانية بما هو مطلوب منها، ولا يزال القطاع الزراعي يتراجع مع عدم قدرتنا على منافسة منتجات الدول المحيطة بنا في الاسواق العربية”.
فقدان الثروة الزراعية

لا يمكن الإحاطة بعجالة بكل ما يواجه الزراعة الآخذة في الانحسار والتراجع، فلكل قطاع يمثل خصوصية معينة، ويفترض معالجة تلحظ هذه الخصوصية، وحتى الآن ليس ثمة ما يشي بأن الدولة سائرة في تحديث القطاع الزراعي، ليس كحاجة اقتصادية فحسب، وإنما للحد من مفاعيل الهجرة، ولا سيما اليد العاملة اللبنانية وأصحاب الاختصاص في مجال الزراعة وملحقاتها.
ومع إزدياد عدد سكان الأرض من 3 مليارات في العام 1960 الى 6,5 مليار في العام 2006، وإلى نحو 9 مليارات نسمة راهنا، هناك تحديات كبيرة بالنسبة الى مستقبل الإنتاج الزراعي، ولما كان لبنان يعتمد على الزراعة (حيث نحو 30 بالمئة من شعبه يعتاش منها) وفي ظل غياب البرامج الزراعية والإستراتيجيات المتطورة لمساندة المزارع الذي يساهم بشكل أو بآخر في دعم الإقتصاد، فإن لبنان سائر الى فقدان ثروته الزراعية، خصوصا مع غلاء إنتاجه وتنافس الأسواق وهجرة الشباب من الريف إلى العاصمة وبلاد الاغتراب.

ينشر بالتزامن مع مطبوعة الاعمار والاقتصاد

الناشر: الشركة اللبنانية للاعلام والدراسات.
رئيس التحرير: حسن مقلد


استشاريون:
لبنان : د.زينب مقلد نور الدين، د. ناجي قديح
سوريا :جوزف الحلو | اسعد الخير | مازن القدسي
مصر : أحمد الدروبي
مدير التحرير: بسام القنطار

مدير اداري: ريان مقلد
العنوان : بيروت - بدارو - سامي الصلح - بناية الصنوبرة - ص.ب.: 6517/113 | تلفاكس: 01392444 - 01392555 – 01381664 | email: [email protected]

Pin It on Pinterest

Share This