تعد المشاكل النفسية من توتر واكتئاب من أبرز أمراض العصر، خصوصا إذا علمنا أنها لم تعد مقتصرة على فئة عمرية واحدة فحسب، بل قد نجد أطفالا ومراهقين يعانون من أعراض نفسية متفاوتة، فضلا عن أن تأثيرها على حياة الشخص، وإنتاجيته، وقدراته تنعكس على المجتمع ككل، لا سيما وأن الإعتلالات النفسية، أصبحت أكثر شيوعا في مجتمعنا المعاصر.
لكن ثمة مفارقة بدأت تفرض نفسها الآن، وهي أن هذه الأعراض لا يعاني منها البشر فحسب، لا بل أصبحت تصيب بعض الأسماك في مزارع أسماك السلمون، وتعاني الأسماك من حالة غريبة، حيث تتوقف عن النمو، وتطفو إلى سطح المياه، فتبدو كأنها نافقة، وأشارت دراسة جديدة أن هذه الأسماك مصابة بـ “الإكتئاب”!
ظاهرة الانسحاب drop out
مع توق العالم للمزيد من مصادر الغذاء، وخصوصا الصحي، والطلب المتزايد على المنتجات البحرية، والأسماك خصوصا، بدأ ما يعرف بزراعة الأسماك fish farming أو الزراعة المائية Aqua culture، بهدف انتاج كميات من الأسماك بشكل مستدام، فضلا عن المحافظة على الأسماك البرية من الصيد الجائر، إلا أنه مع وصول هذه الزراعة إلى حالة من النضوج، لوحظ مزيدا من الخسائر قد تصل إلى ربع كمية الأسماك المنتجة، ومعظم هذه الخسائر التي تحدث هي على شكل “انسحاب” drop out، فبعض الأسماك لا تنمو كالأسماك الأخرى، وتعاني من حالة توقف النمو Growth-stunted فتُشل حركتها وتنفق في نهاية المطاف وترمى في كومة القمامة، وكون علم زراعة الأسماك لا يزال جديدا إلى حد ما، فلا تعرف أسباب هذا “الإنسحاب” drop out، وما إذا كان يمكن فعل شيء لمنع حدوثه، وبالتالي الحد من الخسائر.
وتعاني أسماك المزارع ولا سيما سمك السلمون من العيش في خزانات مزدحمة، حيث يجب أن تتقبل وجود الأسماك العدوانية والصراع من أجل الغذاء، كما أن عليها تحمل التغيرات في الإضاءة، وعمق المياه والتيارات وغيرها.
الأسماك المكتئبة!
وفي بحث لفريق من العلماء من النرويج والدانمارك وهولندا، دُرست الأدلة التي يمكن أن تفسر ظاهرة “الانسحاب” drop out لأسماك السلمون ومزارع الأسماك الأخرى، ونشر البحث في مجلة “الجمعية الملكية المفتوحة للعلوم “The journal Royal Society Open Science، ووصف الفريق نتائج الدراسة حول كيمياء الدماغ من عينات مأخوذة من سمك السلمون من المزارع السمكية، ما قد يساهم في تحسين الثروة السمكية.
واستنادا إلى السلوك “الحزين” لهذه الأسماك، تمحورت شكوك العلماء حول أنها ربما تعاني من شكل من أشكال الاكتئاب، وقام الفريق بقياس معدل إنتاج هرمون الكورتيزول cortisol، فضلا عن معدلات تنشيط هرمون السيروتونين Serotonin في الدماغ، وكلاهما أمران شائعان لدى البشر والحيوانات الأخرى التي تعاني من الاكتئاب المزمن، بعد التعرض لفترات طويلة من التوتر.
ووجد الباحثون أن كمية الكورتيزول عالية، فضلا عن ارتفاع في معدلات تنشيط السيروتونين elevated brain serotonergic activation في سمك السلمون “المنسحب”، ما يشير إلى أنها أصبحت هزيلة بسبب التعرض المفرط للمؤثرات وعوامل الضغط الأخرى، ما أدى إلى تحولها وبشكل جدي لحالة من الاكتئاب، لدرجة أنها أصبحت غير قادرة على الاستجابة إلى مصادر جديدة للإجهاد.
واقترح العلماء أن أسباب هذا السلوك، تتمثل في الضغوط التي تواجهها هذه الأسماك لجهة أنها ليست في بيئتها الطبيعية، وخصوصا لأسباب مثل الإكتظاظ، العدوانية من الأسماك الأخرى، التعامل مع البشر، اللقاحات، وغيرها، وهي حالات تضطر الأسماك لتحملها في أماكن إكثارها بهدف تجاري، وأنها لم تعد قادرة على التعامل مع بيئة ضاغطة للغاية ما جعلها تستسلم على صورة أعراض إكتئابية.
وأشار الفريق أيضا إلى أن الخسائر الناجمة عن “انسحاب” الأسماك يمكن أن تخفض عن طريق خفض أو القضاء على محرضات الإكتئاب، الموجودة كجزء طبيعي من عمليات تربية الأحياء المائية.
أسباب الإنسحاب
ولفتت الدراسة إلى أن أسباب ارتفاع تنشيط نظام السيروتونين لم تحدد بالضبط، إلا أن التسلسل الإجتماعي في هذه البيئة الجديدة، بالإضافة إلى عملية تدجين سلالات سمك السلمون الأطلسي المستخدمة في تربية الأحياء المائية السريعة والمكثفة هي من الأسباب الهامة، فضلا عن البيئة المستعملة حيث تتنافس الأسماك مع سلسلة من الضغوطات التي لا تحدث في الطبيعة، على سبيل المثال، تحصين الأسماك بعد فترة وجيزة من عملية smoltification، وهي ممارسة شائعة في تربية الأحياء المائية، حيث تنقل الأسمال الفتية من المياه العذبة إلى المياه المالحة، وقد وجد العلماء أن عمليتي التحصين والـ smoltification تزيد من معدل نشاط انظمة السيروتونين، ما يجعل بعض الأسماك الضعيفة عرضة للأمراض والتغيرات السلوكية، وأكد الفريق على ضرورة القيام بأبحاث إضافية لتحديد الأسباب المباشرة للأنماط السلوكية، فضلا عن التفاعل الممكن بين التأثيرات الجينية، الوضع المناعي والتسلسلات الهرمية الاجتماعية.
كما أكد الفريق على ضرورة أن تتمحور الدراسات المستقبلية حول العوامل البيئية والخصائص الجينية والسلوكية والفيزيولوجية التي تعاني منها هذه الأسماك “المنسحبة”، ولا سيما النظر إلى أن الفروق الفردية في حالات الضعف الغامضة، كما شجع الفريق في ضوء نتائج هذه الدراسة على مواصلة استكشاف كل من الخلفية التطورية، والآليات الجزيئية المسببة لهذا النوع من السلوك، ما قد يسهل في نهاية المطاف التحول في التركيز على الوقاية بدلا من العلاج.
دور كيمياء الدماغ
ويصبح بعض البشر أكثر عرضة للاكتئاب والمرض العقلي، لا سيما أولئك الذين يعانون من الفقر وغيرها من الصعوبات الاجتماعية والاقتصادية، ويبدو أن البيئات غير الطبيعية والمجهدة يكون لها تأثير مماثل على سمك المزارع.
ويأمل الباحثون أن يساعد عملهم هذا، العلماء وخبراء تربية الأحياء المائية للتوصل الى سبل للارتقاء بنوعية الحياة لدى اسماك المزارع لإنتاج محاصيل أفضل، كما أن هذا البحث يمكن أن يساعد العلماء أيضا على فهم دور كيمياء الدماغ في حالات الاكتئاب بشكل أفضل .