تصدرت أزمة النفايات في لبنان منذ الصيف الماضي اهتمام وسائل الإعلام المحلية والعالمية، وكان من البديهي أن يحتل مطمر الناعمة – عين درافيل حيزا كبيرا من الاهتمام، لأسباب متعلقة بعجز الدولة عن إيجاد بدائل، ما تجلى بقرارات التمديد والاستملاكات وتوسيعه أكثر من مرة، وصولا إلى إعادة فتحه وإغلاقه نهائيا في 18 من أيار (مايو) الحالي.
ويبقى ثمة سؤال: ما تداعيات وجود هذا المطمر على المناطق والقرى والسكان المحيطين به خلال فترة التشغيل، وحتى بعد إقفاله، لجهة نوعية حياتهم.

دراسة شاملة

في هذا المجال، نشرت دراسة شاملة cohort study لباحثين إيطاليين، في “المجلة العالمية لعلم الأوبئة” International Journal of Epidemiology، تتعلق بهذه المشكلة التي عانت ولا تزال تعاني منها إيطاليا، خصوصا وأن هذه المطامر، وبسبب التمدد السكاني والحضري، باتت موجودة في مناطق قريبة من أماكن السكن، ومعظم الأدلة عن الآثار الصحية المتعلقة بالمقيمين بالقرب من مكبات النفايات مثيرة للجدل بشكل كبير، وقد بحثت هذه الدراسة في تسعة مطامر للنفايات البلدية تعمل منذ عقود في منطقة لاتسيو Lazio في وسط إيطاليا، وتأثيرها على السكان، وبالتالي التعرض لملوثات الهواء المنبعثة من محطات معالجة النفايات، وخصوصا مادة “كبريتيد الهيدروجين” H2S وتأثيرها على سكان المناطق المحيطة وعددهم خمسة ملايين نسمة، وتم تسجيل بيانات 242،409 منهم (50،4 بالمئة من الإناث) في قاعدة بيانات الدراسة الشاملة التي استمرت طوال الفترة ما بين الأعوام 1996-2008، وهم يعيشون في محيط هذه المكبات على مسافة 5 كيلومترات.

كبريتيد الهيدروجين

واختير مركب كبريتيد الهيدروجين كممثل للغازات المنبعثة من هذه المطامر والمكبات لدراسته، وأظهرت النتائج وجود علاقة قوية بين هذا المركب والوفيات الناجمة عن سرطان الرئة، فضلا عن حالات وفاة عدة مرتبطة به، وحالات استشفاء، خصوصا تلك المتعلقة بالعلاج من أمراض في الجهاز التنفسي، وكانت أبرز هذه النتائج لدى الأطفال، وكان متوسط مستويات التعرض السنوي لكبريتيد الهيدروجين 6،3 نانوغرام لكل متر مكعب،كما شملت الدراسة الأشخاص الذين يعيشون بالقرب من مكبات النفايات الكبيرة في روما، وبلغ متوسط تعرض أولئك لمستويات قدرت بـ 45 نانوغرام لكل متر مكعب، وسجلت في نهاية فترة المتابعة 18،609 حالة وفاة.
وأشارت المؤلفة المشاركة في البحث فرانشيسكا ماتالوني Francesca Mataloni إلى أن “الدليل على تأثر صحة الناس بالعيش بالقرب من المطامر والمكبات مثير للجدل”، وتستخدم معظم الدراسات المنشورة سابقا البيانات الصحية الإجمالية فقط، دون دراسة الوضع الاجتماعي والاقتصادي، وقالت “استخدمنا مقاربة شاملة للسكان لمحاولة التغلب على هذه القيود والمحددات”.

تفاصيل الدراسة ودراسات سابقة

وفي معلومات من دراسات سابقة، أظهرت دراسة كندية شاملة cohort study أن الأشخاص من الذكور الذين يعيشون على مقربة من المطامر، مقارنة مع من يعيشون بعيدا عنها عانوا من حالات متزايدة من سرطان الغدد الليمفاوية nonHodgkin lymphoma، وحالات سرطان الكبد والبنكرياس والكلى.
كما أن دراسة في روما على بعد 2 كيلومتر من منطقة Malagrotta، وعلى مقربة من مكب كبير للنفايات البلدية الصلبة، ومحرقة ومصفاة للبتروكيماويات، أظهرت وجود علاقة بين القرب من مطمر النفايات وسرطان الحنجرة، وأظهرت دراسة شاملة ثانية أن ثمة علاقة كبيرة بين القرب من المطمر، ومعدلات كبريتيد الهيدروجين ومخاطر أعلى للإصابة بسرطان الحنجرة وسرطان المثانة لدى النساء، وكذلك مخاطر أعلى من الأمراض القلبية والتنفسية.
وفي دراسة بعنوان  “مخاطر الإصابة بالسرطان للأشخاص المقيمين قرب المطامر في المملكة المتحدة” أعدها العالم”جاروب وفريقه” Jarup et al في المملكة المتحدة، فكانت ثمة مقارنة بين معدلات الإصابة بالسرطان من أنواع عدة (المثانة والمخ والكبد السرطان واللوكيميا) ومن يعيشون على مسافة 2 كيلومتر من المطامر، وأولئك الذين يعيشون على مسافة أبعد، ورغم الإحصاءات الكبيرة فلم يصل الفريق إلى نتيجة حاسمة، كما أن دراسة برازيلية أيضا لم تجد فروقا شاسعة، وأهمية احصائية رغم ارتفاع مخاطر الإصابة بسرطان الكبد والمثانة.
أما الدراسة الحديثة في لاتسيو، فابتعدت عن القيود والمحددات للدراسات السابقة، فلم تأخذ المسافة بعين الإعتبار فحسب، بل التعرض للإنبعاثات من كبريتيد الهيدروجين وكمياتها، فلا يعني القرب من المطمر تعرض السكان لهذه المادة أكثر من أولئك الذين يعيشون على مسافة أبعد، كما أن انبعاث هذه المادة ليس منتظما، بل يعتمد على التيارات الهوائية وأحوال الطقس، فضلا عن النفايات الواردة وكمياتها، وتم الكشف عن معاناة السكان الذين يعيشون على مقربة من مواقع هذه المطامر والمكبات، خصوصا لجهة معاناتهم من أعراض تنفسية، وتم ربط هذه الأعراض باستنشاق السموم الداخلية endotoxin، والكائنات الدقيقة microorganisms والرذاذ الجوي aerosols من جمع النفايات والطمر في الأرض، وهذا يتفق بالإجمال مع الدراسات الأخرى، واستنتجت الدراسة وجود صلة بين التعرض لـ H2S من مكبات القمامة والوفيات الناجمة عن سرطان الرئة، وكذلك الوفيات والإستشفاء بسبب أمراض الجهاز التنفسي، وقد لوحظت هذه الصلة بين القرب من المكبات مع أمراض الجهاز التنفسي في دراسات أخرى، ويحتمل أن تكون لها صلة مع الغازات المهيجة irritant gases والملوثات العضوية الأخرى، لكن العلاقة بين العيش بالقرب من مواقع طمر النفايات وحالات سرطان الرئة هو الاكتشاف الجديد في هذه الدراسة، وشدد الباحثون إلى أن هناك حاجة إلى إجراء مزيد من الدراسات لتأكيد هذه العلاقة.

جغرافية المرض

وتعتبر الدراسات حول جغرافية المرض (اي ربط اسباب المرض بالعيش بالقرب من امكنة فيها تلوث ما) نادرة جدا نظرا لصعوبتها وتعقيداتها وتداخلاتها ودقتها ، ومنها معرفة الباحثين حول هذا الموضوع ان الانسان المعاصر بات يعيش في غابة من المواد المسرطنة وما عدنا نعرف المصدر الحاسم المسبب بالمرض، مهما كان نوعه. وفي الاغلب تعتبر نتائج هذه الدراسات مقبولة علميا لإظهار علاقة ترابط إحصائية، بين السبب وهو وجود التلوث من مصادر محددة في منطقة محددة، والنتيجة من خلال ارتفاع في نسبة التعرض لبعض الأمراض وظهورها عند سكان هذه المناطق المعرضة، بالقياس إلى نسبة نفس الأمراض عند شريحة من السكان غير معرضة، تؤخذ كشاهد للدلالة على المعدل العام للتعرض لهذه الأمراض دون الربط بمصدر محدد للتلوث. غالبا ما تكون كل المؤشرات الاجتماعية والاقتصادية والغذائية متماثلة بين العينتين من البشر، أي العينة المعرضة والعينة الشاهد أو غير المعرضة. وبالتالي تؤشر المعامل الإحصائية وخصوصا معامل علاقة الارتباط coefficient de correlation إلى أن سببب هذا الفارق في نسبة التعرض لمرض أو لأمراض ما هو التعرض لملوثات هذا المصدر (مصنع معين أو منطقة صناعية أو مطمر أو محرقة الخ…).
ولعل هذه الدراسة، تشجع الجامعات البحثية الخاصة والحكومية والجهات المعنية من وزارات وهيئات عامة وخاصة في لبنان، على إجراء دراسات وإحصاءات خاصة بالمطامر والمكبات، للتأكد إذا ما كانت ثمة صلة بين هذه المناطق الموبوءة وحالات الأمراض المختلفة، والعمل على استراتيجية واضحة وإدارة متكاملة ومستدامة لملف النفايات، لمحاولة تفادي آثار مستقبلية على صحة ورفاه مجتمعنا.

الناشر: الشركة اللبنانية للاعلام والدراسات.
رئيس التحرير: حسن مقلد


استشاريون:
لبنان : د.زينب مقلد نور الدين، د. ناجي قديح
سوريا :جوزف الحلو | اسعد الخير | مازن القدسي
مصر : أحمد الدروبي
مدير التحرير: بسام القنطار

مدير اداري: ريان مقلد
العنوان : بيروت - بدارو - سامي الصلح - بناية الصنوبرة - ص.ب.: 6517/113 | تلفاكس: 01392444 - 01392555 – 01381664 | email: [email protected]

Pin It on Pinterest

Share This