ركزت تقارير الـ “يونيب” التي تم عرضها بمناسبة انعقاد “جمعية الامم المتحدة للبيئة” في مقرها الرئيسي في نيروبي على ستة قضايا اعتبرتها “ناشئة”، تشكل خطرا على البيئة وصحة الإنسان. من هذه القضايا الارتفاع المقلق في الأمراض الحيوانية المنشأ في جميع أنحاء العالم، مع ان هذه القضية لا تصنف في خانة “الناشئة”، وهي كثيرة، ومضى سنوات على انتشارها على نطاق واسع حول العالم، وقد زادت واحدة هذا العام (زيكا)، بعد ان ذاع صيت أمراض، مثل: ايبولا، انفلونزا الخنازير، انفلونزا الطيور، السارز والاتش وان… وغيرها.
كذلك الامر بالنسبة الى تلوث الهواء الذي تقول التقارير الجديدة انه زاد بنسبة 8 بالمئة بين عامي 2008 و2013، وبات يتسبب بحالات وفيات أكبر على مستوى العالم، بحسب منظمة الصحة العالمية. كذلك الامر بالنسبة الى وجود كميات مقلقة من النفايات البلاستيكية في المحيطات (ما يقارب 13 مليون طن من جزيئات البلاستيك في المحيطات والبحار)، وقد زاد انتاج البلاستيك في العالم بدل ان يتراجع (311 مليون طن متري العام 2014)، مع ان الشكوى من انتشاره جزيئاته في المحيطات والبحار والانهر والأودية والتربة… بدأت منذ فترة طويلة، ولم ينجح العالم في ايجاد البدائل، أو في فرض ضرائب، أو حظر على استخدامه بشكل واسع.
بينما تتحدث اخرى عن تأثير تغير المناخ على سمية المحاصيل وعلى سلامة الأغذية، واخرى عن التجارة غير المشروعة بالحياة البرية… وهي ايضا مواضيع غير جديدة، وقد تم تأكيد تفاقمها.
يبين أحد التقارير كيف ان الجفاف وارتفاع درجات الحرارة يمكن أن يؤديا إلى تراكم المركبات الكيميائية في المحاصيل، كالقمح والشعير والذرة (وهي من بين المحاصيل الأكثر عرضة لتراكم النيترات) والتي تتسبب بتسميم الحيوانات.
كما ان الأمطار الغزيرة التي تأتي بعد الجفاف لفترات طويلة، يمكن أن تؤدي أيضا إلى تراكم خطير من مركب سام آخر يسمى “سيانيد الهيدروجين” أو “حامض بروسي”، ويضرب المحاصيل مثل الكتان والذرة (العادية والرفيعة) والكرز والتفاح. بالإضافة الى مشكلة “الأفلاتوكسين”، التي تعتبر من السموم الفطرية التي يمكن أن تسبب السرطان وتعوق نمو الجنين. وهي مشكلة جديدة ايضا في المحاصيل، خصوصا في الذرة، والمتوقع ان ترتفع بسبب زيادة درجات الحرارة.
كما يبين التقرير كيف تنتقل الأمراض من الحيوانات الى البشر وكيف هي على ارتباط وثيق بصحة النظم الإيكولوجية، حيث تقوم الأنشطة البشرية بالتعدي على الموائل الطبيعية، وتسهل إنتاج مسببات الأمراض في خزانات الحياة البرية، لنشر وانتقال الأمراض بطريقة أكثر سهولة بين الماشية والبشر.
وقد شهدت السنوات الأخيرة ظهور العديد من الأمراض الحيوانية المنشأ، وبلغت التكاليف المباشرة لهذه الأمراض والخسائر الى عدة تريليونات من الدولارات.
التلوث البلاستيكي
من جهة اخرى، يجتهد تقرير آخر لرصد كيفية تأثير الكميات المتزايدة من جزيئات البلاستيك الصغيرة في المحيطات على مختلف الكائنات الحية ويهدد وجودها، فضلا عن المخاطر التي تشكلها هذه الجزيئات البلاستيكية التي بدأت تتداخل في انظمة المياه على صحة الانسان، من خلال استهلاك هذا الاخير للأغذية البحرية الملوثة في جميع انحاء العالم. فجزيئات النايلون باتت موجودة وفي بطون كل شيء بدءا من العوالق الحيوانية إلى الحيتان بناء على الدراسات والاختبارات التي تم ذكرها والاستناد اليها في التقرير.
القطاع المالي
كان لافتا للانتباه في نيروبي مدى مراهنة الكثير من التقارير ومن خطابات المتحدثين على ما يسمونه “القطاع المالي” الذي لا يقتصر دوره فقط لتعزيز، بحسب تعبيرهم “النمو الاقتصادي”، الا انهم يجدون أنه لديه “دور حاسم في استثمارات جديدة منخفضة الكربون، وذات كفاءة في استخدام الموارد…”، ويمكن أن يساعد أيضا في تحويل رؤوس الأموال.
ويعرض التقرير عددا من المبادرات المالية التي تقدم الحلول المبتكرة التي يمكن ان تساهم في إحداث التغيير المستدام، بما في ذلك “خطة المعيشة المستدامة”. ويذكرون في هذا المجال اسم شركة تتعهد خفض الأثر البيئي لانبعاثات غازات الاحتباس الحراري التي تنتج في مصانعها الى النصف بحلول العام 2020.
تغير المناخ
ويسلط تقرير آخر الضوء على اثنين من القضايا الهامة المرتبطة بتغير المناخ، هما التخفيف والتكيف مع تغير المناخ، وتشير أدلة علمية على أن الخسائر والأضرار الناجمة عن تغير المناخ أمر لا مفر منه، مع عواقب وخيمة على النظم الإيكولوجية والناس والنظم الاقتصادية.
ويعتبر التقرير ان ارتفاع الحرارة العام 2003، شكلت مثالا جيدا لما سيحدث عندما تفشل الجهود المبذولة للتخفيف والتكيف مع التغيرات في المناخ. في ذاك العام 30،000 شخصا لقوا حتفهم، وانخفضت الأنهار الجليدية وتعرضت للذوبان، وخسر القطاع الزراعي 4،3 مليار دولار اميركي في الاتحاد الأوروربي.
ويتناول التقرير عددا من دراسات الحالة الأخرى على الأحداث المفاجئة وبطيئة الظهور الأخيرة، التي سببت الخسائر والأضرار التي لحقت بالنظم الإيكولوجية، ويقدم مجموعة واسعة من الأدوات التي من شأنها المساعدة في إدارة هذه المشاكل في المستقبل.
التدهور مستمر
تؤكد التقارير بالمجمل، ان معدل الأضرار البيئية في تزايد مستمر في جميع أنحاء المعمورة، ولكنها تنتهي جميعها بجرعة من الامل، بانه ما زال هناك وقت لتخفيف الآثار إذا ما تحركت الحكومات الآن.
قدمت الى الجمعة العامة للبيئة في نيروبي في الحصيلة ستة تقييمات لستة تقارير، بعنوان “توقعات البيئة العالمية” (GEO-6)، وهذه التقييمات كناية عن ستة تقارير إقليمية، شارك في وضعها 1203 من الخبراء والمئات من المؤسسات العلمية وأكثر من 160 حكومة. ستة تقارير منفصلة ترصد القضايا البيئية التي تؤثر على كل من ست مناطق في العالم: منطقة عموم أوروبا وأميركا الشمالية وآسيا والمحيط الهادئ وغرب آسيا وأميركا اللاتينية، ومنطقة البحر الكاريبي، وأفريقيا.
التغييرات في “يونيب”
حول التغييرات في بنية أعلى سلطة مسؤولة عن شؤون البيئة في العالم التي ترعى تطبيق 13 اتفاقية دولية كالـ “يونيب”، يتحدث المدير الإقليمي لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة أياد ابو مغلي عن المجلس الحاكم الذي كان يضم 58 دولة منذ تأسيسه العام 1972،كان يدعم الــ “يونيب”، وقد اتفقت الدول في “الريو زائد 20” العام 2012 على تقوية الـ “يونيب”، وان تصبح “مؤسسة” وليس “برنامج”، اطلق عليها اسم “الجمعية العامة البيئية” التي تتضمن كل دول الاعضاء في الامم المتحدة وقراراتها تقدم للجمعية العامة. اصبحت قراراتها مثل قرارات الجمعية العامة. كل الدول ممثلة وباتت تدعم الـ “يونيب” بدل 58 دولة فقط. كما أشار الى وجود 3 قرارات عربية من أصل 28 كانت على جدول اعمال القمة. قرار عن التصحر المقدم من السودان، وقرار من الاردن عن آثار الحروب على البيئة والقرار الفلسطيني عن آثار الحروب الاسرائيلية على قطاع غزة (وهو الذي اخذ جدلا ولاقى اعتراضا من إسرائيل كالعادة). اما أبرز القرارات الباقية فهي عن معالجة النفايات والمواد الكيميائية والاتجار بالحياة البرية والاقتصاد الاخضر، وميزانية الـ “يونيب” وبرنامج عملها والتغير المناخي وإدخال البيئة في البرامج التعليمية. مع العلم انه كانت قد بدأت مناقشة هذه القرارات في مؤتمرات تحضيرية، لا سيما في الشهر الثاني من هذا العام.
بالإضافة الى ذلك، كان هناك قرار مؤجل من الجمعية الأولى العام 2014، حول اشراك المجتمع المدني والمجموعات الرئيسية واصحاب المصلحة في اتخاذ القرارات، لا سيما في الامم المتحدة وفي تنفيذها، بسبب معارضة بعض الدول، ولا سيما منها الولايات المتحدة الاميركية. اما القرار المتعلق بالتغير المناخي فقد اخذ بعض الجدل، لا سيما حول كيفية الالتزام باتفاق باريس.
عربيا، السعودية هي الوحيدة التي لم توقع اتفاقية باريس، ولكن لم يجارِها أحد من العرب. التحفظ السعودي ناجم عن ان الاتفاقية تقوم بتخفيض انتاج النفط وتضر بالمصالح الحيوية للملكة. ويستدرك أبو مغلي “مع ان لديهم برنامجا للتحول الى الطاقة المتجددة بحدود 20 بالمئة العام 2030، وان السعودية تستثمر في الطاقة المتجددة أكثر من الكثير من الدول الموقعة على الاتفاقية”! ما يدل ان المعارضة سياسية أكثر من أي شيء آخر.
في خلاصة رأي أبو مغلي حول آلية تطبيق القرارات، يقول “ان التقارير تضع خيارات سياسية امام الحكام مبنية على دراسات… لذلك تم ايجاد منتدى يجمع بين العلم والسياسات، لتقديم المشورة لأصحاب القرار مبنية على تقارير علمية”. اما حول مصادر تمويل الـ “يونيب”، فاعتبر ان هناك 15 دولة على مستوى العالم تساهم في التمويل معظمها أوروبية، بالإضافة الى الولايات المتحدة الأميركية. وعربيا أكثر الدول الممولة هي الكويت، السعودية والاردن.
كلام “على الرسمي”
بين ابرز المواقف الرسمية في الجمعية العمومية في نيروبي، ما قالته رئيسة مؤتمر المناخ الأخير (الكوب-21) الذي عقد في باريس نهاية العام الماضي الوزيرة سيغولين رويال، حين دعت الوزراء المشاركين الى حث حكوماتهم على التصديق على اتفاق باريس المناخي، والالتزام بالتعهدات الطوعية التي تقدموا بها في القمة. كما اشادت بجهود كينيا في المحافظة على الافيال ووقف التجارة غير المشروعة بالحياة البرية، ولا سيما تجارة العاج، معلنة انها ساهمت في اصدار قانون لمنع الاتجار بالعاج في فرنسا، وهي تسعى الان لان يصبح هذا الموقف عاما في كل أوروبا، بالإضافة الى اشادتها بحماية وحيد القرن في كينيا. كما اكدت ضرورة الالتزام بتخفيض الانبعاثات المسببة بتغير المناخ، معتبرة ان الدول الفقيرة والبلدان الجزرية هي التي ستكون أكثر المتضررين. كما راهنت في هذا المجال على تسعير الكربون ووضع تعرفة له، للمساهمة في إيجاد الحلول لتغير المناخ، ولتأمين المبالغ المطلوبة (مئة مليار دولار) لصندوق المناخ، وتشجيع صناديق الاستثمار للمساهمة في تمويل التغير المطلوب لإنقاذ المناخ.
من جهته، أكد الرئيس الكيني أوهورو كينياتا أن البلدان الأفريقية تعتمد على الزراعة والسياحة، وان لديها تحديات كبيرة لمحاربة الفقر، وان تغير المناخ سيترك آثارا سلبية على الوضع الاجتماعي والمناخي برمته، ولهذا وقعت كينيا على اتفاقية المناخ في باريس. كما أشاد بتعاون الوزيرة الفرنسية بقضية ضبط الاتجار بالعاج، معلنا إصدار قانون كيني لمنع الاتجار بالعاج، ومعلنا أيضا النجاح في حماية ألف وحيد قرن من الانقراض في كينيا.
أما وزير خارجية المغرب محي الدين مزوار الذي سيترأس اجتماع المناخ (كوب-22) الذي سيعقد في المغرب في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) قبل نهاية هذا العام، فقد اعتبر ان هناك رهانا على ان يكون اجتماع المغرب المحك لمدى مصداقية الدول في الالتزام باتفاق باريس حول تغير المناخ، وعلى تحقيق أهداف التنمية 2020- 2030، منبها من التجارب التاريخية في عدم الالتزام بالتعهدات، مشددا على أهمية موضوع التمويل للإجراءات المخففة من تغير المناخ وعلى نقل التكنولوجيا.
أبرز ما في التقارير
– يقتل تلوث الهواء 7 ملايين شخصا في أنحاء العالم كل عام. بينهم 4.3 مليون من تلوث الهواء المنزلي، وخصوصا بين النساء والأطفال الصغار في البلدان النامية.
– 842،000 شخص يموتون من أمراض الإسهال سنويا من جراء عدم الحصول على المياه والصرف الصحي، 97 بالمئة منهم في البلدان النامية. أمراض الإسهال هي السبب الرئيسي في وفيات الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 5 سنوات، وهو ما يمثل 20 بالمئة من مجموع وفيات الأطفال دون سن الخامسة.
– التعرض للمواد الكيميائية: 107،000 شخصا يموتون سنويا من جراء التعرض لمادة الأسبستوس، و654،000 يموتون من التعرض للرصاص.
-الكوارث الطبيعية: منذ أول مؤتمر تغير المناخ للأمم المتحدة في عام 1995، مات 606،000 وأصيب 4.1 مليار نسمة، وأصبحوا بلا مأوى أو في حاجة إلى مساعدة طارئة نتيجة الكوارث المرتبطة بالطقس (المناخ).
جرعات تفاؤل
لم تكتفِ التقارير بعرض المشاكل، بل أظهرت أيضا ان الاستثمار في بيئة صحية يمكن أن يحقق فوائد متعددة:
-إن نجاح التخلص التدريجي مما يقرب من 100 من المواد المستنفدة للأوزون، يعني منع حصول مليوني حالة سرطان جلد، وملايين كثيرة من حالات إتلاف (إعتام) عدسة العين بحلول عام 2030، وذلك بفضل طبقة الأوزون.
– قدرت الفوائد من إزالة الرصاص من البنزين على نطاق عالمي بما يقارب 2450000000000 دولار سنويا، أو 4 بالمئة من الناتج الإجمالي المحلي العالمي (الناتج المحلي الإجمالي)، ومنع ما يقدر مليون حالة وفاة مبكرة سنويا.
– ان تطبيق التدابير التي ثبتت فعاليتها من حيث التكلفة للحد من انبعاثات الملوثات قصيرة الأجل للمناخ، مثل الكربون الأسود وغاز الميثان يمكن أن تقلل من ظاهرة الاحتباس الحراري بنسبة 0.5 درجة مئوية بحلول منتصف القرن، وحفظ مليون شخص سنويا بسبب تلوث الهواء بنسبة 2.4 بالمئة عام 2030.
– للاستثمار في برامج الصحة في مكان العمل الوقائي من حوالي 18-60 دولار / عامل، يمكن أن تقلل من الغياب والإجازات المرضية بنسبة 27 بالمئة، في حين أن العائد من الاستثمار في خدمات المياه والصرف الصحي ما بين 5 و28 دولار لكل دولار.
مناهج متكاملة
لتحقيق هذه الفوائد، توصي التقارير بأربعة مناهج متكاملة:
– إزالة السموم: إزالة المواد الضارة أو التخفيف من آثارها على البيئة التي يعيش فيها الناس والعمل.
-إزالة الكربون: تقليل استخدام الوقود الكربوني، وبالتالي التخفيف من انبعاثات ثاني الكربون من خلال استخدام مصادر الطاقة المتجددة.
-استخدام فصل الموارد وتغيير أسلوب الحياة: إنشاء النشاط الاقتصادي اللازم باستخدام أقل الموارد، انتاج نفايات اقل، قدرا أقل من التلوث وتدمير البيئة أقل.
-تعزيز مرونة النظام الإيكولوجي وحماية الأنظمة الطبيعية لكوكب الأرض: بناء قدرة البيئة والاقتصادات والمجتمعات لاستباق الاستجابة لها، والتعافي من الاضطرابات والصدمات من خلال حماية وحفظ التنوع الجيني والتنوع البيولوجي الساحلي والبحري، تعزيز استعادة النظام الإيكولوجي، الحد من زيادة الإنتاج الحيواني وحماية النظم الإيكولوجية الطبيعية.