بعيداً عن المناكفات السياسية بين مختلف الاطراف داخل الحكومة وخارجها، يفترض ان تعرض على مجلس الوزراء،اليوم، الوقائع العلمية التي خلصت اليها التقارير المتعلقة بسد جنة، وخصوصاً تقرير وزارة البيئة والذي استند على ما أنجزته شركة “جيكوم” وخبراء المعهد الفيديرالي الألماني BGR، وتقرير تقييم الأثر البيئي من قبل شركة “خطيب وعلمي”، وتقرير مركز الأبحاث الجيوفيزيائية، لكي يتحمّل مجلس الوزراء مجتمعاً مسؤولياته ويتخّذ قراره على ضوئها، تطبيقاً للمادة 14/2 من المرسوم التطبيقي لقانون البيئة، رقم 8633 تاريخ 9/8/2012. وحتى هذا الحين، أي إتخاذ مجلس الوزراء قراره، على المجلس إتخاذ قرار بتوقيف جميع الأعمال في موقع السد، إحتراماً للقوانين والأنظمة المرعيّة الإجراء.
احتدام النقاش في لبنان حول مشروع إنشاء “سد جنة” في منطقة نهر ابراهيم – قضاء جبيل، تفاقم قبل اسبوعين، بعد بموافقة وزير الزراعة أكرم شهيب، على تجديد اجازة قطع اشجار حرجية لفترة ستة اشهر تنتهي بتاريخ ٣٠ حزيران (يونيو) ٢٠١٦، لصالح “مؤسسة مياه بيروت وجبل لبنان”، بداعي انشاء السد. علماً ان اعمال القطع والتجريف في الموقع والمنفذة من قبل الشركة البرازيلية الملتزمة Construtora Andrade Gutierrez، و”شركة الاتحاد للهندسة والتجارة” لم تتوقف طيلة الأشهر العشرة الماضية، وظلت تعمل وان بشكل متقطع. ويؤكد رئيس مجلس ادارة “مؤسسة مياه بيروت المهندس” جوزيف نصير ان تنفيذ المشروع وصل الى حدود ١٥ بالمئة من اجمالي الاعمال، وان التأخير في التنفيذ يعرض المؤسسة لبنود جزائية مالية، سبق ان انذرت حولها الشركة المتعهدة وقد تصل الى ملايين الدولارات، فضلا عن انها قد وضعت في مكان الاشغال معدات وآليات تفوق قيمتها العشرة ملايين دولار.
في السياسة، ألحقت موافقة شهيب على القطع بتغطية مباشرة من النائب وليد جنبلاط الذي اعتبر انه “من الحماقة” وقف الاعمال في سد جنة. ومعلوم ان التمريرة الجنبلاطية المحسوبة سياسياً لصالح التيار الوطني الحر، المتحمس بشكل مفرط لمشروع السد، ربطت برزمة من التفاهمات بين الطرفين على تمرير ملفات وقرارات في مجلس الوزراء، أبرزها ملف النفايات المنزلية الصلبة الذي تولى الوزير شهيب متابعته بعد اعتكاف وزير البيئة محمد المشنوق عن مهامه في اللجنة الوزراية المكلفة بملف النفايات منذ اندلاع الازمة في تموز (يوليو) ٢٠١٥.
في الشكل يتبين ان توقيع وزير الزراعة قد خالف ابسط الاصول الادارية لجهة موافقة مديرية التنمية الريفية والثروات الطبيعية في وزارة الزراعة على التجديد، وتسجيل الطلب وفق الاصول في ديوان الوزارة، علماً ان شهيب قد جدد رخصة منتهية الصلاحية، اذ ان “مؤسسة مياه بيروت وجبل لبنان”، وبدل التقدم بطلب جديد وفق الاصول، طلبت تجديد رخصة قطع منتهية الصلاحية بتاريخ ٣١ كانون الاول (ديسمبر) ٢٠١٥، وتشتمل على قطع حوالي ٥١ الف شجرة تتنوع بين دلب وسنديان وعفص وصفصاف وبطم وصنوبر بري وقطلب وغيرها، علماً ان اعمال القطع التي سبقت تجديد الترخيص قد تجاوزت بحسب المراقبين خلال العام الماضي الكمية المحددة في الرخصة القديمة.
الاطار القانوني لسد جنة
اقر مشروع سد جنة ضمن الخطة العشرية للسدود بهدف تأمين المياه، وذلك ضمن قانون الموازنة عام ٢٠٠٢. لكن المشروع لم يبصر النور الا بعد صدور قرار عن مجلس الوزراء حمل الرقم ٧٦ تاريخ ٢٤ ايلول (سبتمبر) ٢٠٠٩. كما صدر مرسوم استملاك المنفعة العام لهذا المشروع بتاريخ ١٥ حزيران (يونيو) ٢٠٠٩. وتم اطلاق مناقصة وتلزيم جزء من المشروع في العام ٢٠١٤. وتفيد المعلومات ان لجنة الاستملاكات التي كلفت تحديد العقارات واقسام العقارات المطلوب استملاكها، قد واجهت العديد من العقبات التقنية المتمثلة بتناقض المساحة المدرجة على الافادات العقارية والمساحات المحددة وفق الكيل الفعلي لاعمال المساحة. كما تقدمت اللجنة بعشرات طلبات “تصحيح خطأ مادي” للعقارات واقسام العقارات المطلوب استملاكها وفق ما ورد بالخريطة المرفقة بمرسوم الاستملاك، الامر الذي نتجت عنه مجموعة من الدعاوى والشكاوى التي لا تزال موضع نزاع قضائي. ويمنع العديد من اصحاب العقارات الشركة المتعهدة من الدخول الى اراضيهم لاجراء اي اعمال قبل البت بالنزاع العقاري، الامر الذي يزيد من تعقيد انفاذ المشروع. كما يعترض السكان على الثمن المقدر من اللجنة للاستملاك والذي لم يتجاوز ١٥ دولارا اميركيا للمتر المربع الواحد، الامر الذي سيواجه ايضاً بدعاوى ونزاعات قانونية ستطول لسنوات.
أهمية منطقة نهر ابراهيم
يشكل وادي نهر إبراهيم – أدونيس نظاماً طبيعياً ثقافياً فريداً من نوعه، ذات أهمية تتخطى لبنان لتمتد على مستوى المتوسط، وهي ناتجة عن قيمته التاريخية، وهو شاهد على الحقبات الحضارية المتتالية من خلال مخلفاته التراثية. ولم يراع مشروع انشاء سد جنة اجراء مسح اثري جدي وشامل للوادي، ويسجل تقاعس غير مبرر لوزارة الثقافة – المديرية العامة للاثار عن القيام بهذا المسح، وشموله في دارسة تقييم الاثر البيئي الاستراتيجي للمشروع ضمن وقائع ومعطيات علمية وليس فقط ضمن توصيف عام وغير معمق.
اعتمدت وزارة البيئة مبدأ حماية الوادي، وقد صدرت قرارات ومراسيم بهذا الخصوص منها المرسوم 2366/2009 “الخطة الشاملة لترتيب الأراضي اللبنانية”. وأقدمت وزارة الثقافة منذ العام 1996 على تسجيل وادي أدونيس لكي يصنف موقعاً ثقافياً على لائحة التراث العالمي لليونسكو، لكن لاسباب غير واضحة لم تبادر الوزارة الى ابلاغ منظمة اليونسكو نيتها تثبيت هذا التسجيل وانفاذه ضمن الاتفاقية الدولية المعمول بها. كما أطلقت وزارة السياحة مشروع “الطريق الفينيقي” الدولي الذي يمر ضمن منطقة نهر إبراهيم – جنة. وبذلك تكون هذه الوزارات الثلاث قد حددت سياسات واضحة لمستقبل الوادي: بيئية – ثقافية – سياحية. أما مشروع السّد فأتى مناقضا بشكل كامل لهذه السياسات.
جيولوجية الموقع
تضاربت المعلومات ما بين التقرير الجيولوجي والهيدرولوجي الصادر عن “شركة خطيب وعلمي” من جهة، والتقرير الصادر عن خبراء المعهد الفدرالي الالماني BGR والتي لا تزال قائمة، لا سيما تلك المتعلقة بتسرب المياه الجوفية واتجاهاتها في الطبقات الجوفية في الحوض الاعلى لنهر ابراهيم باتجاه الحوض الجوفي لنبع جعيتا، مع الاشارة الى ان الشركتين قد اصدرتا عدة مراسلات تتضمن ردودا وردودا مضادة. وخلصت وزارة البيئة الى انه ما زال هناك تناقض لناحية النظام الهيدروجيولوجي لارضية منطقة بحيرة جنة ومحيطها، ووفقا لهذه المعطيات طلبت وزارة البيئة استكمال الدراسات للتحقق من مكامن الضعف الجيولوجية المتلعقة بسد جنة، عن طريق اجراء اعمال جيولوجية ميدانية متقدمة، تشتمل على حفر آبار اختبارية، وهو ما ترفضه وزارة الطاقة والمياه و”مؤسسة مياه بيروت وجبل لبنان”.
ومن المعلوم ان اعمال حفر آبار اختبارية جرت فقط في بئر التلوين في سرعيتا، بهدف إثبات الإتصال الجوفي ما بين نهر إبراهيم – جنّة ونبع جعيتا، وطلب حينها من شركة “الارض” دراسة نتائج هذه العملية، ولقد خلصت “شركة خطيب وعلمي”، وهي الشركة الإستشارية الرسميّة للمشروع، بناء على دراسة شركة “الارض” انه ليس هناك اتصال بين نهر ابراهيم وجعيتا، علماً ان العديد من الخبراء شككوا بطريقة نقل خلاصة التقرير من قبل “خطيب وعلمي”، وبطريقة اجراء عملية الحفر الاختبارية، اذ ان مواد التلوين وضعت في الشتاء وضمن منسوب تدفق مياه جوفي لا يسمح بالخروج بنتائج علمية يمكن الاعتداد بها، اضافة الى انه يجب ان تكون هناك عشرات الاختبارات المماثلة، وفي عدة نقاط، للتثبت من صحة الفرضية المطروحة وهي ان منطقة سد جنة ذات مخزون جوفي مقفل.
ويعد بند “جيولوجية الموقع” الأهم ضمن ملاحظات وزارة البيئة على المشروع، لانه يفتح الباب امام بحث وجود الفوالق الزلزالية الناشطة مع الطبيعة الكارستية للصخور في نفس الموقع، والإتصال ما بين نهر إبراهيم – جنّة ونبع جعيتا، اضافة الى وجود مخزون هائل من مياه جوفية نقيّة تحت موقع سد وبحيرة جنة (على عمق بضعة أمتار من المستوى السفلي المعلن لأرضية بحيرة السد)، مع إمتداد عريض ضمن طبقة الجوراسيك (لاسا وقرطبا وحتى الى ما بعد تنورين، وشرقاً حتى أفقا والرويس وبسكينتا وترشيش، وغرباً حتى مار نهرا وحريصا وعينطورة وجعيتا وانطلياس، للوصول جنوباً حتى ضاحية بيروت كما بعبدات، صليما، رأس المتن، العباديّة، عاريا والجمهور الى حدود وادي شحرور).
ولقد اقترحت دراسة الاثر البيئية لشركة “جيكوم” ان أحد الحلول يمكن ان يكون من خلال تجميع المياه السطحية في المنطقة السفلى من نهر إبراهيم، هكذا يتمّ تجنب جميع النتائج السلبيّة من جراء موقعه الحالي. لكن هذا الاقتراح رفض بشكل قاطع من قبل القيمين على المشروع.
الحد الاقصى للتخزين
يؤكد خبراء المعهد الفدرالي الالماني BGR ان الحدّ الاقصى للتخزين في سد جنة هو 7 مليون متر مكعب، وليس 38 مليون متر مكعب كما تقول الدراسات الرسمية المرتبطة بالسد، وذلك يعود لطبيعة الارض في الموقع المختار، مما يسبب تسّرباً للمياه Mauvaise étanchéité partie amont، نظراً لسوء تماسك الارض ونفاذيتها العالية نتيجة الشقوق والكسور والفراغات الناتجة عن التذويب.
وتعد تقاریر ومنشورات المؤسسة الفیدرالیة لعلوم الجیولوجیا والمصادر الطبیعیة، هانوفر – ألمانیا، المكلف من قبل مجلس الإنماء والإعمار ومصلحة میاه بیروت ووزارة الطاقة والمیاه بإجراء دراسات على نبع جعیتا. من اكثر التقارير اثارة للجدل حول جدوى مشروع سد جنة. ولقد أثبت الخبراء أنه في حال تم إنشاء سد جنة، فإن عملیات تسریب المیاه السطحیة إلى عمق المخزن الكارستي للجوراسیك J4 سترتفع من حوالي 35 الى 52 بالمئة من حجم المیاه السطحیة المتوفرة.
دراسة الاثر البيئي
تقول وزارة البيئة ان اول رسالة تتعلق بالتقييم البيئي لسد جنة تعود الى تموز (يوليو) ٢٠١٣، يومها لم تكن اشغال سد جنة قد انطلقت، علماً ان اعلان المناقصة وتوقيع العقد مع الشركة الفائزة ومباشرة العمل قد جرت في فترة قياسية (٣ اشهر)، ومنعت العديد من الشركات الدولية من التقدم للمناقصة.
ذكرت وزارة البيئة في رسالتها الاولى بضرورة حسن التقيد بمرسوم تقييم الاثر البيئي الصادر عام ٢٠١٢، خصوصا في مشاريع السدود، في حينه لم تتلق الوزارة اي رد على هذه الرسالة. فكانت رسالة تذكير اخرى في تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٣ ولاقت المصير نفسه، الى ان تفاجأت وزارة البيئة ببدء الاعمال في العام ٢٠١٤، فعاودت ارسال كتاب الى وزارة الطاقة في نيسان (أبريل) العام ٢٠١٤، يذكر بموجوب مراعاة اجراء تقييم الأثر ال بيئي قبل بدء المشروع. وبعد سلسلة من الاجتماعات والمراسلات ( ما بين تموز/يوليو وآب/أغسطس ٢٠١٤) خلصت وزارة البيئة الى العديد من المسائل البيئية التي بقيت بدون اجابة، ابرزها:
-التنوع البيولوجي، خوصا وأن مجرى نهر ابراهيم مصنف موقعا طبيعيا، بموجب قرار صادر عن وزير البيئة في العام ١٩٩٧.
-حركة الترسبات واهميتها بالنسبة للتنوع البيولوجي.
-المناطق ذات التأثير المحتمل.
-الخيارات البديلة للموقع لجهة اثرها على البيئة.
-منسوب المياه بعد السد.
وازاء هذه الوقائع، ارتأت وزارة الطاقة والمياه اعداد دراسة تقييم اثر بيئي جديدة، كلفت بها شركة “جيكوم”، ولقد استلمت وزارة البيئة الدراسة الجديد في اواخر حزيران (يونيو) ٢٠١٥، وخلصت الى انه تمت مخالفة قانون حماية رقم ٤٤٤/ ٢٠٠٢، لا سيما الباب السادس المادة ٥٨، كما تمت مخالفة المادة العاشرة من المرسوم ٨٦٣٣/٢٠١٢، حيث ان الكشوفات الميدانية على الموقع قد بينت أنه قد تم البدء بتنفيذ المشروع موضوع تقرير تقييم الاثر البيئي قبل ابداء وزارة البيئة موقفها حيال هذا التقرير. ورأت وزارة البيئة انه لا يمكن الاستمرار باستكمال اعمال انشاء مشروع وبحيرة سد جنة في ضوء المخاطر البيئية التي برزت، واقترحت ان يتم تأليف لجنة من الخبراء بهدف الكشف عن الاضرار التي لحقت بموقع انشاء سد وبحيرة جنة، والقيام بالتقييم العلمي الدقيق بهدف وضع خطة واضحة لاعادة تأهيل المواقع المتضررة، ووضع تصور للحلول البيئية البديلة للمشروع، بهدف تأمين مياه الشفة ومياه الري للمنطقة. كما اوصت الوزارة بضرورة تقوية القدرات الوطنية في مجال المتطلبات البيئية للسدود خلال مراحل التصميم والتنفيذ والتشغيل، الامر الذي لا تزال تفتقده بشكل واضح وزارة الطاقة والمياه.
المسح الشامل للتنوع البيولوجي
وفقا للمعطيات والمعلومات المقدمة في تقرير “جيكوم”، فقد تبين وجود حوالي 404 نوعا من النبات، و739 نوعا من اللافقاريات، و6 انواع من الحيوانات البرمائية، و32 نوعا من الثدييات و140 نوعا من الطيور ستوضع تحت مستويات مختلفة من الخطر، كما تبين وجود خمسة موائل طبيعية ذات اهمية ايكولوجية عالية ستتاثر سلبياً من جراء انشاء المشروع، فضلا عن المساحات الشاسعة من الاشجار الحرجية التي سيتم قطعها والتي تقدر مساحتها بحوالي ٤٨٠ الف متر. ويؤكد فريق الخبراء انه ليس من الممكن اتخاذ اية تدابير تخفيفية لتفادي الآثار البيئية السلبية، أو حتى اتخاذ اجراء تعويضي لمواجهة التأثيرات المتوقعة لمشروع السد على وادي ابراهيم، ولقد تبنت وزارة البيئة خلاصة هذا البند من دراسة الاثر البيئي.
مناطق التأثير المحتملة للمشروع
خلصت الدراسة الى تأثيرات سلبية للمشروع على قطاع التنوع البيولوجي، وعلى النظام الايكولوجي العام، وعلى مواقع الارث الثقافي والتاريخي لوادي ابراهيم، وعلى مصب نهر ابراهيم والشواطئ المحاذية، وان له تاثيرا ايجابيا على قطاعات ادارة مياه الري وادارة الطاقة الكهربائية النظيفة، وخلصت وزارة البيئة الى ان التأثيرات السلبية الناتجة عن انشاء مشروع سد جنة لا تنحصر بموقع السد فقط وانما تمتد إلى اعلى وأسفل السد، وصولا الى الشاطئ اللبناني عند مصب نهر ابراهيم، وان الوجود المستمر لكتلة مائية كبيرة كالبحيرة في نظام ايكولوجي لم يتم يوماً تكييفه في تاريخ تطوره ليتلاءم مع هذا الحدث، سيؤدي الى تدهور طويل المدى للنظامين الايكولوجي والزراعي القائمين، وسيفقد النظام الطبيعي أهميته كنموذج وطني وإقليمي للنظام الإيكولوجي للأودية، وستخسر الأنواع المستوطنة مواطنها، كما ستواجه الكائنات المستوطنة المحلية خطر الانقراض، أضف الى ذلك ان أهمية النظام الإيكولوجي كموقعٍ للاستيطان ستتبدد، وستنعدم إمكانات تطوّر هذا النظام في الألفية المقبلة والمحافظة على تقدمه في تاريخه التطوري. وستلحق اضرار لا تعد ولا تحصى بالعلوم والأبحاث والتعليم والتقدم الزراعي نظراً لفرادة هذا النظام.
سيناريو انهيار السد
ان احتمال الفشل الرئيسي بسبب التحميل الزلزالي وتدفق الفياضانات الفائق، والتدفق الفائق للمياه واختراقه السد بعد النشاط الزلزالي، هو احتمال الفشل المرجح والأسوأ، والوقت الضائع بين ذروة التدفق على السد وذروة التدفق على مصب النهر هو 34 دقيقة، اذ ان موجة الفيضانات تسافر 21.5 كلم في 34 دقيقة بسرعة 40 كلم في الساعة.
علماً ان مركز الأبحاث الجيوفيزيائية في “المجلس الوطني للبحوث العلمية” أعدّ تقريرا عن مشروع سد جنة، ونشر الخلاصات الرئيسة التالية: إن المخاطر الزلزالية الداهمة على سكّان المناطق بعد إنشاء السدّ، كما المناطق المجاورة له، ستزداد بسبب إنشائه، تجفيف مجرى نهر إبراهيم وواديه الأوسط والسفلي من المياه، وهو أحد الأنهار النادرة الذي لا يزال موجودا، سيكون له إنعكاسات سلبية حادة على البيئة البحرية كما على المناطق الساحلية، كل مشروع سد يقام على المخازن الكارستية في جبل لبنان يستلزم دراسات علمية معمّقة وقياسات وكيول على فترة زمنية طويلة، مع أخذ آراء الخبراء الجيولوجيين العاملين على الكارست.
وخلص المركز الى ضرورة أخذ كل الحيطة والحذر إزاء مشاريع لم تحظ بهذا النوع من الدراسات الوافية. كما ان هناك إمكانية للبحث عن مشاريع بديلة لتزويد العاصمة بيروت بالمياه العذبة. وخلص التقرير، الى انه في حال الاخذ بالإعتبار الأشغال الجديدة ضمن الإطار التكتوني العام والخطر الزلزالي، فالدراسات لم تجرَ بشكل مناسب، وان طبيعة الإنحدار القوي والسريع لمجاري الأنهار اللبنانية، النابعة من جبل لبنان ضمن صخور كربوناتية كارستية، هي على درجة كبيرة من التشقق والتذويب، وهذه العوامل لم تأخذ بالحسبان لجهة الأخطار الكبيرة الناتجة عنها. وان تداخل النظام التكتوني الزلزالي مع المخاطر الأخرى (نظام المياه السطحي والجوفي) خطر جدا، ولم يعالَج أو يُتطرّق اليه في الدراسات المقدّمة. وبحسب إحدى هذه الدراسات (المعهد الفدرالي الالماني BGR)، ستتراكم الجرفيات والردميات الآتية من الأعلى وستؤدي الى منع دخول الماء الى المجرى. وان التناقضات ضمن هذه الدراسات تدعو الى الحذر الشديد.
الكلفة الحقيقية والتدهور البيئي
تقدر كلفة التدهور البيئي للمشروع بحوالي 42 مليون دولار اميركي في السنة، بناء على مسح للسكان المتواجدين في المنطقة، وتصل الكلفة الى 101,5 مليون دولار اميركي سنويا، بحسب التقييم البيئي العلمي للاهمية البيئية لوادي نهر ابراهيم، وبناءً على القيم القابلة لفرض ضريبة عليها، بالاضافة الى جانبين: استعمال خدمات النظام (مثل المياه التي سيتم سحبها) والدمار الذي سيتأتى عنها، وان مبلغ 101,5 مليون دولار اميركي سنويا قابل للازدياد نظراً الى ان التأثير على النظام سيزداد مع الوقت، أضف الى ذلك ان مزيداً من التدهور سيفضي الى تدهور إضافي، فضلا عن انه ستزداد كلفة التدهور بنسبة لا تقل عن مليار دولار اميركي في غضون عشر سنوات، وهو اطار زمني قصير ضمن حياة السد، وخلصت وزارة البيئة الى ان الخسائر الكبيرة والعالية ستترجم بخسائر مادية تساوي ضعف فوائد المشروع (مياه الشفة وتوليد الطاقة الكهربائية النظيفة).
ومن المعلوم إن كلفة المشروع المعلنة عن منشأة السد والبحيرة فقط هي 263 مليون دولار اميركي، مع العلم ان هذه الكلفة قد وصلت اليوم مع الإضافات والتعديلات الى حوالي 400 مليون دولار اميركي. وهذا المبلغ بقيمته الأساسيّة ممّول فقط من مؤسسة مياه بيروت وجبل لبنان، بالرغم من أن القانون رقم 221 في مادته الثانية، البند الرابع، ينص على أن وزارة الموارد المائية والكهربائية هي التي تتولى صلاحية “تصميم ودرس وتنفيذ المنشآت المائية الكبرى كالسدود والبحيرات الجبلية ووضعها في الاستثمار”. مما يجعل من تمويل السد من قبل مؤسسة بيروت وجبل لبنان تمويلاً مخالفاً للقانون. وبذلك تطرح مخاطر جدية حول قدرة الحكومة اللبنانية على تأمين مصادر تمويل أخرى لتأمين رصيد المشروع، خصوصاً وان الكلفة الإجمالية للمشروع بجميع أقسامه وملحقاته يتوقع ان تصل الى حوالي 800 مليون دولار أميركي.
البدائل متوفرة
تقول وزارة الطاقة والمياه، ان مشاريع الخطة العشرية التي أعدتها المديرية العامة للموارد المائية والكهربائية، يجب ان تكفل انشاء السدود لتخزين الكميات الممكنة من مياه السيلان السطحي في فصل الغزارة، وتقدّر بحوالي مليار متر مكعب في السنة، نظراً إلى الطبيعة الجغرافية والطوبوغرافية والجيولوجية اللبنانية، لاستخدامها في فترات الشحائح، وبالتالي التخفيف من استعمال مخزون المياه الجوفية الذي يجب ان يبقى مخزوناً استراتيجياً، يستعمل في حالات الحاجة الاستثنائية فقط.
المعلوم ان وزارة الطاقة لم تكترث تاريخيا لدراسة الاثر البيئي، لا اثناء وضع ما سمي “الخطة العشرية”، ولا بعد وضعها “الإستراتيجية الوطنية لقطاع المياه” في العام 2010، واقرها مجلس الوزراء في جلسته المنعقدة في 9/3/2012. ولا تعتمد هذه الخطة على المعطيات الحقيقية للثروة المائية في لبنان من ضمن النظام الايكولوجي العام، والذي يفترض ان تستند إليه أية إستراتيجية تتضمن بدائل للسدود السطحية، كاعتماد التخزين الجوفي والترشيد في الاستخدامات كافة، وضبط السرقات والهدر وحسن وعدالة التوزيع وإعادة استخدام مياه الصرف الصحي. صحيح ان خارطة الطريق المقترحة تعتمد على استخدام موارد المياه السطحية من الينابيع بطريقة مثلى، والتي يمكن ان تزيد 64 مليون م3 إضافي، وانها تعتمد على إعادة تغذية اصطناعية للمياه الجوفية التي يمكن ان تؤمن 200 مليون م3، إلا إنها تعتمد بشكل رئيسي على تخزين المياه السطحية في سدود وبحيرات بمعدل 880 مليون م3! بالإضافة الى تمديد خطوط النقل والشبكات والخزانات وتركيب العدادات، وإعادة تأهيل مشاريع الري وتجميع مياه الصرف ومعالجتها (80 بالمئة حتى العام 2015). وبذلك يبلغ عدد المشاريع القائمة حاليا وتلك المخطط لها في قطاع المياه، بحسب خارطة طريق استراتيجية، 321 مشروعا بقيمة ما يقارب مليارين ونصف المليار دولار اميركي للفترة الممتدة بين 2011 و2015، وهي في معظمها، ستذهب لإنشاء السدود المكلفة، وكان يمكن الاستغناء عن معظمها اذا ما أخذت الإجراءات البديلة.
وبالرغم من أنّ تغذية المياه الجوفية تتم بشكل طبيعي منذ ملايين السنين، لكن تحسّباً للتغيير المناخي والتصحّر الذي سينتج عنه، واستناداً لما أعلنته البعثة الهولّندية التي جاءت الى لبنان في أيلول (سبتمبر) 2014، فقد أكّدت هذه البعثة انّه “إحترازيّاً من المفيد أكثر بالإضافة الى حماية الينابيع والأنهر بالإستثمار المباشر لمجاري مياهها، دراسة إمكانية تنفيذ منشآت صغيرة (تتزاوج الى أقصى حدّ مع الوضع الطبيعي القائم)، وموزعة على مجمل مساحات الوطن للتغذية بمياه المخازن الكارستية التي تتكشف على 3/2 من مساحة لبنان، وليس باللجوء الى سدود كبيرة متواجدة في أمكنة محددة لتخزين المياه السطحية، التي يتبخر قسماً منها ويتسرّب قسماً آخر ويتلوث قسماً ثالثاً، خصوصا وان تكلفة البدائل مثل التغذية بالماء عن طريق المياه الجوفية، هي ما بين 2 و 5 بالمئة من التكلفة المرتقبة لمشاريع السدود.
ينشر بالتزامن مع مطبوعة الاعمار والاقتصاد