أزمة النفايات تتوالى فصولاً! مضت ثلاثة أشهر على قرار مجلس الوزراء المتعلق بهذا الملف، ومن ابرز بنوده إنشاء مركزين مؤقتين للطمر الصحي في كل من برج حمود – الجديدة – البوشرية – السد، ومصب نهر الغدير – الشويفات (الكوستابرافا)، لكن المعطيات التي تكشفت عن هوية الشركات الفائزة بالمناقصتين، بعد تأجيل إعلان النتائج أسابيع عدة، واللغط الدائر حول الأسعار التي قدمها العارضون، والدعوة العلنية والصريحة الى تكرار سيناريو الغاء “المناقصات المشبوهة”، تؤكد ان القاعدة الثابتة التي لا تزال تتحكم بمفاصل إدارة هذه الأزمة، لا تضع في اعتبارها ان التسوية التي افضت الى إقرار مطامر على أنقاض الاملاك العامة البحرية، كانت تنطلق من ضرورة عدم العودة الى تراكم النفايات في الطرقات، فإذ بالطبقة السياسية تتصرف من منطلق ان الوضع يسمح بتقاسم علني وصريح لـ “قطعة الجبنة”، ولو على حساب صحة وسلامة المواطنين.
قبل ساعة ونصف الساعة من مطالبة وزير الداخلية نهاد المشنوق “إعادة النظر بمناقصة مشبوهة في مجلس الإنماء والإعمار حول النفايات”، كان مفوض الحكومة لدى المجلس وليد صافي قد اتخذ قراراً برفض توقيع عقد مباشرة العمل مع “شركة الجهاد للمقأولات” التي فازت في 18 أيار (مايو) 2016 بمناقصة انشاء مركز مؤقت للطمر الصحي في منطقة الشويفات – خلدة قرب مصب نهر الغدير المعروف باسم مطمر “الكوستابرافا”.
ما هي المناقصة المشبوهة التي طالب المشنوق بإعادة النظر فيها؟ وما هي دوافعه للاعلان عن هذا الامر من أمام باب مجلس الوزراء؟
يقول المشنوق في اتصال مع greenarea.info انه يقصد العروض المالية التي تقدمت بها الشركات ضمن مناقصة انشاء مركز مؤقت للطمر الصحي في منطقة برج حمود. ولم يخف المشنوق توجسه من أن أمرا مشبوها قد دفع بـ “شركة خوري للمقأولات” (داني خوري وشركاه)، وهي الشركة التي فازت بالمناقصة الى تقديم سعر متدنٍّ جداً بالمقارنة مع باقي الشركات المنافسة.
وأكد المشنوق أن مجلس الوزراء قد اناط به صلاحية مراقبة مسار المناقصات التي يجريها “مجلس الانماء والاعمار”، وانه سوف يطلب رسمياً في جلسة مجلس الوزراء غداً إلغاء مناقصة برج حمود.
في المقابل تؤكد معلومات greenarea.info ان قرار مفوض الحكومة لدى “مجلس الانماء والاعمار” وليد صافي برفض التوقيع على مناقصة “الكوستابرافا” يقع ضمن صلاحياته كمفوض حكومة، لكن خطوة القيادي البارز في “الحزب التقدمي الاشتراكي”، لم تكن لتحصل لولا الضوء الأخضر المفتوح من النائب وليد جنبلاط، الذي سبق وانتقد بشدة واكثر من مرة الطريقة التي تجري فيها إدارة المناقصات من قبل “مجلس الانماء والاعمار”.
وبَن تصريح الوزير المشنوق في ما يتعلق بمناقصة برج حمود وامتناع صافي عن توقيع امر مباشرة العمل في مناقصة “الكوستابرافا”، أعيد خلط جميع الأوراق المتعلقة بمناقصات المطامر.
يقول المشنوق ان “خطوة صافي ليست محقة”، وانها مرتبطة بمزاج النائب جنبلاط “الذي يرتفع عنده منسوب الحب ثم ينخفض لهذا المقأول أو ذاك، لاسباب باتت معروفة”. في المقابل أبلغ صافي من راجعه أن خطوته تنبع من حرصه على المال العام، وأن من واجبه كمفوض حكومة ان يرفع الى مجلس الادارة في “مجلس الانماء والاعمار” توصية بالتفأوض مع المقأول الفائز لخفض سعره، وان قراره برفض التوقيع جاء بناء على مقارنة بين الارقام المقدمة في مناقصة برج حمود ومناقصة “الكوستابرافا”، حيث يتبين ان هناك حوالي عشرة دولارات اميركية زيادة في ارقام “جهاد العرب” لجهة كلفة الطمر الصحي في “الكوستابرافا”، بالمقارنة مع الارقام التي تقدم بها داني خوري، وكذلك الامر لجهة كلفة إنشاء كاسر الامواج حيث بلغ الفرق عدة ملايين من الدولارات، وكمحصلة، توصل صافي الى خلاصة مفادها ان السعر المقدم في “الكوستابرافا” يمكن ان يخفض بما يزيد عن 25 مليون دولار، ورفع الى مجلس ادارة “مجلس الانماء والاعمار” اقتراحاً باعادة التفأوض مع المتعهد الفائز (جهاد العرب)، لخفض سعره بما يتلائم مع طبيعة وحجم الخدمات التي سيقدمها، أو إعادة المناقصة برمتها.
يؤكد مصدر واسع الاطلاع على ملف المناقصات، آثر عدم الكشف عن اسمه، ان مناقصة مطمر برج حمود، هي من المناقصات القليلة جداً التي جرت بشفافية كاملة، وكان فيها منافسة حقيقية بين العارضين المتقدمين، في المقابل تبين ارقام العارضين في مناقصة “الكوستابرافا” التي جاءت متقاربة جداً، ان ثمة اتفاقا ضمنيا بين أغلب الاطراف المشاركة على تقديم اسعار متقاربة. ويؤكد المصدر ان رقم 110 ملايين دولار الذي تقدم به داني خوري هو سعر متدن فعلاً، ويكاد يلامس سعر الكلفة، لكنه ليس سعراً بخساً، وبالتالي لا صلاحية لـ “مجلس الانماء والاعمار”، وفق ما ينص قانون المناقصات، بإلغاء المناقصة انطلاقاً من قاعدة “السعر المشبوه” التي روج لها الوزير نهاد المشنوق. ويضيف المصدر ان السعر المقدر من قبل الاستشاري رفيق خوري لكلفة مطمر موقع “الكوستابرافا” كانت 65 مليون دولار اميركي، اي ان الرقم جاء مطابقا للسعر الذي تقدم به العرب، لكن التقديرات التي وصلت الى رئيس الحكومة تمام سلام تشير الى ان كلفة الاعمال في مطمر “الكوستابرافا” لا تتجأوز اربعين مليون دولار اميركي على ابعد تقدير. في المقابل فإن الاستشاري انطوان المعوشي قدّر كلفة مطمر برج حمود بحوالي مئة وخمسين مليون دولار اميركي، في حين ان التقديرات الاكثر دقة تشير الى ان الكلفة هناك لن تتجأوز 120 مليون دولار اميركي على ابعد تقدير. والسؤال المطروح: لماذا تقدر الشركات الاستشارية اسعار المناقصات بكلفة اعلى من كلفتها الحقيقية؟ تفيد المعلومات ان الشركات الاستشارية عادة ما تضع هامش التقدير الاعلى لسعر الكلفة، لأن النسبة المئوية التي تتقاضاها تستند الى سعر الكلفة المقدر في حال الغاء المناقصة، اما في حال فوز احد العارضين، فإن النسبة المئوية التي تتقاضاها تستند الى السعر الذي تقدم به العارض، لذا من مصلحة الاستشاري ان يقدر دائماً السعر الاعلى، تحسباً لفرضية الغاء المناقصة، اضافة الى ان الشركات الاستشارية المحلية واحياناً الدولية، عادة ما تكون متورطة بشكل غير مباشر مع غالبية المقأولين لأسباب تتعلق بالمصالح والمشاريع المشتركة.
المقأول داني خوري فضل في اتصال مع greenarea.info عدم التعليق على نتائج المناقصات الى حين التوقيع على عقد التنفيذ ومباشرة العمل، معتبراً ان الجدال الحاصل حالياً هو جدال سياسي وليس جدالاً تقنياً أو مالياً.
لكن ما لم يقله خوري تم تسريبه يوم امس من قبل مصادر عدة متابعة، وهي ان خوري الذي تم تصويره انه شريك غير مباشر لجهاد العرب هو في الحقيقة المنافس الوحيد له، وان العرب الذي لم يدخل بشكل مباشر في مناقصة برج حمود هو شريك فعلي في العرض الذي تقدمت به المجموعة المندمجة ميلاد ابو رجيلي وشركة Hicon، والتي قدمت السعر المنافس الاقرب الى خوري وهو 120 مليون دولار اميركي.
وتؤكد مصادر متابعة لحركة المقاولين ان كل من خوري وابو رجيلي والعرب قد تفاجأوا بدخول شركة بيوتك Butec (نزار يونس وشركاه) الى المنافسة في مناقصة برج حمود، وان الجميع كان يتوقع ان يونس الذي يمتلك سمعة جيدة في عالم المقاولات عربياً ودولياً، لم يكن بوارد التفاوض من أجل الانسحاب من المناقصة رغم تلقيه عروض من هذا النوع، ولذلك كان الجميع يتحسب أن الاخير سوف يقدم سعر تنافسي يهدد امكانية فوز اي من الطرفين، فعمد كل من خوري وابو رجيلي الى حرق الاسعار بطريقة كبيرة. أما لماذا استطاع خوري وضع سعر 110 مليون دولار اي بسعر يقارب سعر الكلفة؟ فالجواب، بحسب احد المتابعين لملف المناقصات ولحركة المتعهدين، ان “شركة خوري للمقاولات” قد احتسبت كمية الصخور الموجودة داخل مكب برج حمود، خصوصاً انها كانت تنقل الاتربة والصخور الى هذا الموقع منذ عقود، وبالتالي، فإن احتساب الوفر المحقق في أعمال الردم من الصخور الموجودة داخل المكب هي التي سمحت لمهندسي “شركة خوري” بتقديم هذا السعر المتدني جداً، في معركة طاحنة كانت نتيجها ان اشعلت سباقاً محموماً افضى الى هذا النتيجة غير المتوقعة.
وبناء على هذه المعطيات يمكن تفسير الحرب التي تشن منذ يوم أمس على العرض الذي تقدم به داني خوري في برج حمود، حيث وجهت له اتهامات بأنه “حرق” سعره عن قصد، وبغرض ارباك بقية العارضين، خصوصاً المجموعة المندمجة ميلاد ابو رجيلي وشركة Hicon التي كانت تعتبر ان العرض الذي قدمته والبالغ قرابة 120 مليون دولار، كان عرضاً مدروساً جداً وغير قابل للمنافسة، الى ان جاءت الصدمة بعد ان كشفت عروض الاسعار من بقية الشركات.
والسؤال الأبرز الذي يطرح نفسه: هل تدخل الوزير المشنوق بهذه الطريقة المكشوفة ضد نتائج مناقصة برج حمود لصالح طرف ضد طرف آخر؟ لا يمكن الاجابة عن هذا السؤال دون العودة الى هوية الشركات المندمجة، اذ تؤكد المعلومات التي سربت امس ان شركة Hicon المملوكة من قبل عماد الخطيب، وهي شركة عقارية استثمارية لا تملك اي خبرة في مجال الاعمال الانشائية البحرية أو ادارة النفايات، هي شريك غير معلن لـ “شركة الجهاد للمقاولات”، وان مهندسي “شركة الجهاد” هم الذين كتبوا العرض الذي تقدمت به المجموعة المندمجة ميلاد ابو رجيلي وشركة Hicon، وبالتالي، فإن الخاسر الاكبر في مناقصة برج حمود كان جهاد العرب، وليس احداً آخر، وانه انطلاقاً من هذه المعطيات يمكن فهم “غضب” الوزير المشنوق على نتائج المناقصة، والذي دفعه الى وصفها بأنها مناقصة مشبوهة.
وبناء على هذه المعطيات يمكن الاستنتاج ان إصرار رئيس “مجلس الانماء والاعمار” نبيل الجسر، على القول ان هناك عمليات تدقيق تجري بخصوص العروض المالية لمطمر برج حمود، وان ليس هناك من نتيجة نهائية بعد، يضع أكثر من علامة استفهام حول حقيقة خلط الأوراق الذي يحصل على صعيد مواقف القوى السياسية من العارضين. وترجح المعلومات ان جلسة مجلس الوزراء غداً ستشهد سجالاً حاداً بين مختلف الافرقاء السياسيين بين من يقول: “انه اذا كان سعر “العرب” مرتفع جداً، فإن سعر خوري “متدنٍ جداً”، وبناء عليه يجب إعادة مناقصات المطامر مرة جديدة! وبين فريق سيصر على قبول النتائج كما هي والسير ببقية المناقصات، والتي يتوقع ان ترتفع فيها وتيرة المنافسة لانها ستكون محكومة بمجموعة أوسع من اللاعبين، خصوصاً مناقصات الكنس والجمع والنقل والمعالجة.
يحدث كل ذلك في وقت تستنفذ مواقع التخزين المؤقت في برج حمود والشويفات طاقتها الاستيعابية، علماً ان قرى ومدن قضاءي الشوف وعاليه تشهد ازمة نفايات حادة حيث تتكدس النفايات في الطرقات والمكبات العشوائية بعد ان اغلق مطمر الناعمة – عين درافيل نهائياً أواخر شهر ايار (مايو) الماضي، ولقد بدأت ترتفع اصوات رؤساء البلديات في قرى وبلدات القضاءين بضرورة ان يتم نقل نفايات هذه البلدات الى موقعي برج حمود و”الكوستابرافا” لتعذر الاتفاق على موقع ثالث لطمر نفايات الشوف وعاليه، خصوصاً وان موقع الكوستابرافا يقع في نطاق قضاء عاليه.