تتعاطى حكومة لبنان مع كل ما له علاقة بالبيئة وكأنها خارج سياق الزمن، فهي في تعاكس تام مع كل التوجهات العالمية الحديثة، ليس فقط في ما هو على علاقة بالسياسات والاستراتيجيات والخطط والبرامج، بل أيضا بكل ما هو على علاقة بالمفاهيم والقيم والأهداف، التي تصوغها وتبلورها المؤتمرات العالمية للتنمية المستدامة، وما يتمخض عنها في اجتماعاتها الأخيرة من أجندات، تحولت إلى مرشد لحكومات العالم في وضع سياساتها للنمو الاقتصادي والتنمية الإجتماعية والحماية البيئية.
كل دولة هي مسؤولة عن احترام وحماية وتعزيز حقوق الإنسان. فالتنمية المستدامة تتحقق في سياق الديموقراطية، والإدارة الحكيمة، واحترام القوانين والأنظمة. إن أجندة 2030، التي تتضمن أهداف التنمية المستدامة، تشكل رؤية نيِّرة للمستقبل، ترتكز على حقوق الإنسان وعلى القيم والمباديء المقبولة والمتفق عليها عالميا.
إن أهمية مبادىء حقوق الإنسان في مجال التنمية الاقتصادية والاجتماعية معروفة منذ سنوات بعيدة، حتى وإن لم تكن مطبقة بشكل مرضٍ في كل الأوقات والأماكن. أما حماية البيئة فبدأت تأخذ أهمية إستثنائية في السنوات الأخيرة من قبل منظمة الأمم المتحدة وبرامجها ومختلف حكومات وشعوب العالم.
أدركت الحركة البيئية العالمية في انطلاقتها المتجددة في أواخر الستينيات من القرن الماضي عمق العلاقة بين حقوق الإنسان وحماية البيئة. تجلى ذلك في المؤتمر العالمي بشأن البيئة البشرية، الذي انعقد في استوكهولم في العام 1972، وهو أول مؤتمر عالمي حول البيئة، عندما قال في وثيقته الرئيسية “إن وجهي البيئة، البيئة الطبيعية والبيئة الناتجة عن النشاط البشري، تلعب دورا أساسيا في تأمين صحة الإنسان ورفاه عيشه، والتمتع بحقوق الإنسان الأساسية، ولا سيما حقه بالحياة نفسها”. ومنذ ذلك التاريخ دخل مفهوم “البيئة الصحية” إلى سياسات الدول وبرامجها.
الحق بالحياة في بيئة صحية غير ملوثة، ولا تهدد أمان وسلامة الصحة البشرية، والصحة البيئية، أي صحة الكائنات الحيوانية والنباتية والمنظومات الإيكولوجية المتنوعة، البرية والبحرية والمائية العذبة، هو حق أساسي.
كيف يتجلى هذا الحق في سياسات حكومتنا حيال تلوث الهواء والمياه والبحر والسلسلة الغذائية؟
الحق في بيئة سليمة لنمو أطفالنا في البيت والمدرسة والشارع والأسواق والحدائق والأماكن العامة. متى ستتخذ الوزارات المعنية والمؤسسات ذات الإختصاص الإجراءات الضرورية لحماية صحة الأطفال، وتوفير بيئة ملائمة لنموهم الجسدي والعقلي الطبيعي؟ هل سنرى في المستقبل القريب معيارا أو مواصفة (وزارة الصناعة ومؤسسة المقاييس والمواصفات ليبنور) تضع حدا لتركيز الرصاص في الدهانات والطلاء لا يتجاوز 90 جزء من مليون إسوة ببلدان العالم، وتضع آليات لمراقبة منتظمة ورصد دوري للإمتثال لهذا المعيار في منتجات الدهانات والطلاء في الصناعة الوطنية وفي المنتجات المستوردة من الخارج؟
وهل سنرى قريبا قرارا من قبل وزارة الصحة يدعو القطاع الصحي للتخلص التدريجي من استعمال الأجهزة الطبية المحتوية على الزئبق، مثل موازين الحرارة وموازين الضغط وغيرها من الأجهزة الطبية؟
وكذلك للتخفيف والتخلص التدريجي، على طريق التخلص النهائي، من استعمال الملغم المحتوي على 50 بالمئة من الزئبق في حشوة الأسنان؟ فلنبدأ مثلا بمنع استخدامه في حشوة أسنان الأطفال والنساء الحوامل، كخطوة ضرورية نبدأ بها على طريق التخلص النهائي.
إن القانون العالمي لحقوق الإنسان يؤكد على التزام الدول بإجراءات تقييم الآثار البيئية على حقوق الإنسان، وبجعل كل المعلومات البيئية متاحة للجمهور العام، وبتسهيل مشاركة الجمهور العام في عملية اتخاذ القرارات البيئية، وبتوفير سبل الوصول إلى العدالة القانونية البيئية والصحية وفرض الإجراءات الفعالة لتصحيح الأضرار البيئية.
إن حق مشاركة الجمهور بعملية اتخاذ القرارات البيئية يتضمن حق التعبير الحر للنشطاء البيئيين والجمعيات البيئية، وصيانة حقهم في المدافعة والمناصرة البيئية.
على الدولة الإلتزام، ليس فقط بلجم أي محاولة من أي كان لانتهاك حقوق حرية التعبير للأفراد والجمعيات والمجموعات، بل عليها أيضا، حماية حرية وأمان الأفراد والمجموعات والمنظمات التي تمارس هذه الحقوق، والإلتزام بتوفير الأمن والأمان لهؤلاء الذين يدافعون عن البيئة ويدعون للتنمية المستدامة.
المدافعون عن البيئة، ضد أي تعد أو تخريب أو تلويث أو تدمير، يتمتعون بكامل الحق للقيام بكل أنشطة الإعتراض والمدافعة والمناصرة، وعلى الدولة توفير الحماية والأمن لهم. وعلى الدولة أيضا، عبر إداراتها وأجهزتها، العمل على ضمان توازن مقبول، بين ضرورات حماية البيئة وضرورات التنمية الاقتصادية في قراراتها وسياساتها ومشاريعها التنموية.
على الدولة أن تلتزم احترام حقوق السكان المعرَّضين مباشرة للآثار البيئة والصحية لمشروع ما، وأن تكفل لهم حق الدفاع عن مصالحهم والوقوف إلى جانبهم، وأن لا تنحاز لمصلحة أصحاب النفوذ السياسي أو الإقتصادي أو المالي أو أي مظهر آخر لممارسة النفوذ، على حساب حماية البيئة وصحة المواطنين المهددة والمتأثرة بالمشروع.
إن كل الإلتزامات المنبثقة من المبادىء والقيم، التي ترتكز عليها حقوق الإنسان، تفرض على الدولة الإلتزام بالشفافية والعلنية وإتاحة المعلومات، وأن تتصرف بمسؤولية عالية تجاه المواطنين، وبالتالي أن تكون أكثر فعالية في الدفاع عن مصالحهم وحماية بيئتهم وصحتهم من أي تهديد أو ضرر.
أين نحن وحكوماتنا وسياسيينا من كل هذا؟ دولتنا خارج سياق التطورات في الإدارة العالمية، وهي ترمي بلبنان في جحيم الخراب البيئي والفساد، وتهديد صحة اللبنانيين بأكبر المخاطر.
إن جريمتها الأكبر، إضافة لما تمارسه حيال بيئة لبنان وأمان شعبه الصحي والمال العام، هي الجريمة بحق أحلام شباب لبنان في بناء دولة عصرية، يستحقها اللبنانيون الذين يبذلون الجهود، ويقدمون الغالي والرخيص في سبيل حماية بلدهم ورفعته وتقدمه، لكي يأخذ مكانه الذي يليق به بين دول وشعوب العالم.
إن وضع الأهداف السبعة عشرة للتنمية المستدامة، التي تضمنتها أجندة 2030، تشكل لحظة غير مسبوقة في تاريخ الإدارة العالمية، وحماية حقوق الإنسان، أفرادا وجماعات ومجتمعات والبشرية جمعاء، والكوكب عموما، والبيئة العالمية. إن الإنسان والبيئة هما نقطة الإرتكاز لأجندة 2030 للتنمية المستدامة. فهل تستفيق حكومتنا؟