كلفة معالجة التلوث في نهر الليطاني وسد القرعون تقارب الميار دولار أميركي، وكلفة انشاء سد جنة تقارب أيضا الميار دولار أميركي! اليس في هذا التقارب في الأرقام عبرة ودلالات ما؟ الا تستدعي هذه المقاربة والمقارنة إعادة النظر بالخطط والاولويات؟ فلماذا انشاء سدود جديدة إذا كانت هذه هي نهايتها؟ اما كان أجدى حماية الينابيع ومعالجة أسباب التلوث كأولوية على انشاء السدود؟ فمن كان يتابع أحوال التلوث في نهر الليطاني وسد القرعون منذ سنوات طويلة كان يعلم ان حالة التلوث وصلت الى الذروة، وقد جزم أكثر من خبير محايد انه لا مجال للعودة الى الوراء، وان حالة التلوث في بحيرة القرعون قد وصلت الى الذروة ولا يمكن انقاذها مهما صرفنا من أموال، بالرغم من ان المعالجة تحتاج الى مبالغ قد تكون أكثر مما هو معلن اليوم وان فترة المعالجة أطول مما هو متوقع (مراجعة آراء اهم الخبراء الذين كانوا يأخذون عينات بشكل دوري من البحيرة منذ 20 سنة كالدكتور كمال سليم، والتحذيرات التي اطلقوها في السنوات الماضية لا سيما في جريدة “السفير” 27/7/2010، مطالبين بإجراءات تمنع السباحة واستهلاك الأسماك وملامسة المياه).
كما كان الخبراء المحايدون يعرفون منذ سنوات ان مياه الأنهر والمياه السطحية والجوفية قد تلوثت بشكل كامل، من مستوى 800 متر عن سطح البحر وما دون. وان مناطق قليلة فوق هذه الارتفاعات قد سلمت جزئيا من التلوث، والقسم الأكبر مهدد أيضا من المشاريع السياحية فوق القمم، ومن استخدام المبيدات والاسمدة الكيميائية في البساتين الزراعية على المرتفعات…الخ، وان مياه الصرف (المبتذلة) غير المعالجة هي المسبب الأول لتلوث المياه العذبة في لبنان.
فإذا كانت المياه المبتذلة هي المسبب الاول لتلوث الأنهر والمياه والجوفية، الا تصبح معالجتها أولوية على انشاء السدود؟ ومن يضمن ان لا تتحول المياه المجمعة خلف السدود الى مياه مبتذلة أيضا، طالما بقيت مياه الصرف تتدفق في الوديان، كما هي الحال في غالبية المناطق اللبنانية؟!
وخير دليل لافتقار الخطط المقترحة للتفكير الاستراتيجي، انها لا تقارن ولا تدمج بين سياسات ادارة المياه العذبة وسياسات معالجة مياه الصرف الصحي، والمقارنة أيضا بين تسعير إدارة المياه العذبة، وتسعير معالجة المياه المبتذلة (في فاتورة واحدة). فإذا عرفنا ان كلفة المعالجة الثانوية للمتر المكعب من المياه المبتذلة تقارب الدولار الأميركي، وان كل زيادة في استهلاك المياه العذبة، هي زيادة في كلفة معالجة المياه المبتذلة، وفي رفع فاتورة المياه، عرفنا أيضا كيف نساهم في حل مشكلة تأمين المياه العذبة (والتوفير في انشاء السدود المكشوفة والمكلفة)، وفي معالجة المياه المبتذلة في آن (التي تؤثر سلبا على سلامة المياه) ووفرنا أيضا في حجم وكلفة محطات معالجة المياه المبتذلة.
ان المراقب المحايد للخطط المقترحة والمنفذة قديما أو حديثا في قطاع المياه، يمكن ان يستنتج بكل بساطة انها لا تنطلق من استراتيجيات واضحة ولا من خطط محايدة، تحدد المعطيات والحاجات الدقيقة وتربط بين القطاعات وتقدّر الاولويات. وان الغالب فيها إرادة او اتجاه حب الاستثمار على إرادة الحماية وحسن التوزيع وتأمين الحاجات. كما يغلب عليها الاتجاهات لتعظيم الحاجات وتبرير المزيد من الاستثمار على اتجاه ضبط الاستهلاك وتحديد الحاجات. كما يغلب فيها السمسرات والعمولات والخضوع لآراء مكاتب هندسية لا تبغي الا الاستثمار والربح على آراء الخبراء الاستراتيجيين…الخ.
وهكذا يمكن الجزم، كما حذرنا سابقا، ان لا أحد سيستطيع ان يعالج التلوث في سد القرعون، وان الانفاق على ذلك (اذا حصل) سيذهب هدرا. وان الإجراءات الأساسية المطلوبة، هي تطبيق القوانين المرعية الاجراء لناحية منع التلوث وإلزام الملوث بالمعالجة وتصحيح الأوضاع الشاذة… ومعالجة مياه الصرف من ضمن خطة استراتيجية متكاملة لم تظهر معالمها بعد!