لم تستطع الحكومات التي تعاقبت على حكم لبنان بعد الإستقلال تسيير أمور وزارات الدولة الخدماتية من ماء وكهرباء وطرقات الخ…، بعدما كانت في ظل الإنتداب تعمل بشكل شبه منتظم، ضمن كادرات وإدارات كان للعلم فيها موقع أساسي ومسؤول في أخذ القرارات بتنفيذ هذا المشروع أو ذاك، بعد إجراء دراسات  متخصصة وعديدة ومراعاة للجدوى الإقتصادية وللبيئة اللبنانية.

ولا ننسى النجاح الجزئي لتجربة المهندس المرحوم إبراهيم عبد العال، “أبو مشاريع السدود” على الليطاني، إبن الإدارة اللبنانية الناشئة في حينها وأشغاله الناجحة العديدة التي قرأنا عن بعضها، وعلمنا عنها من الخبراء الذين عاصروه.

كانت الشهابية في بداياتها حركة رائدة في تنظيم القطاعات الخدماتية حسب الإختصاصات، ولمجلس الخدمة المدنية الحق في انتقاء الخبرات العلمية الوطنية ووضعها في مناصبها التي تستحقها دون واسطات. إنتهت هذه الحركة المباركة على البلد بانتصار عناصر السوء والفساد على المؤسسات الناشئة، وسخرتها في ما بعد لخدمة أهل السلطة والمال، وغاب العلم عن الإدارة.

استبشرنا خيرا بقرار إنشاء وزارة للتصميم التي اختير لها الأستاذ الجامعي الكبير وعميد ومؤسس كلية العلوم في الجامعة اللبنانية الدكتور حسن مشرفية أطال الله عمره، فكان أول عمل قام به إحصاء لليد العاملة اللبنانية ووضع أعدادها، والعمل على الأرقام والكيول والقياسات واعتماد الوسائل العلمية الحديثة.

 لم ترُق هذه التجربة للسياسيين الذين رأوا فيها تضييقاً على أعمالهم وسلطاتهم المطلقة في الدولة، فلم يترك المجال لمشرفية لاستكمال ما بدأه، حتى أنه تم بعد ذلك إلغاء وزارة التصميم ولم تعد تقوم لها قائمة.

تم إنشاء المجالس أثناء وإبان الحروب الداخلية والخارجية على لبنان، أهمها “مجلس الإنماء والإعمار”، وأعطي صلاحيات واسعة للقيام بكافة الإنشاءات الكبيرة في لبنان. لم يصر حتى إلى أية مراجعة لأشغال المجلس المذكور لاعتبارات سياسية، ولم يتم أي تقييم علمي حقيقي لأعماله التي تطاول كل شيء في البلد.

تتمثل الكتل السياسية الكبيرة الآن في أخذ قرار مشاريع الطاقة والمياه بالتحالف غير المقدس بين وزارة الطاقة والمياه و”مصلحة مياه بيروت وجبل لبنان”، والتي تعتمد على سياسة التخزين السطحي بالسدود الخاطئة علميا، ومشاريع النفايات المشبوهة والملوثة للشاطئ اللبناني، وشبكات الصرف الصحي وشبكات المياه العذبة المعدة للشرب والإستعمال، والتي تعاني الهدر الحاصل وتصل نسبته الى أكثر من 30 بالمئة، مثلا بين نبع جعيتا ومعمل ضبية.

في زحمة فوضى المشاريع المطروحة ينتقي السياسيون ما يناسبهم، ويتحالفون ويختلفون مع حلفائهم عليها، وفي النهاية تتوزع “الكعكة” على القوى السياسية الممثلة للمناطق، والأخطر في هذا كله، انتقاؤهم للمشاريع الأعلى كلفة على الإطلاق، والأكثر تدميرا للبيئة وللصحة العامة. يغطي الإعلام اللبناني على الكثير من فضائح السياسيين، وعن المشاريع الفاشلة للثلاثي غير المقدس، وتطمس الحقائق خدمة للفساد.

لذا، فإن المشاريع الصغيرة مثل  للصرف الصحي أو معالجة للمياه المبتذلة أو حتى حفر آبار غير مكلفة، لا تجد من يدافع عنها سوى بعض البلديات الصغيرة وقرى الأطراف، أو أحد السياسيين الذين ومن باب التعرض للسياسي الآخر الذي ينفذ ويستفيد من المشاريع الكبيرة.

هذه القراءة الشخصية قد تلقي الضوء على الحالة المأساوية التي وصلنا اليها بهمة الطبقة السياسية الحاكمة قبل وبعد الحرب، القديمة منها وحتى الجديدة التي لا تبشر بأي إصلاح أو تغيير لخير للبلد.

وبما أن الأبحاث العلمية غائبة تماما عن وزاراتنا ومجالسنا العلمية وجامعاتنا الوطنية والأجنبية، إلا بما يخدم الخارج لنيل الرضى من الجامعات العريقة، ونشر المقالات وأخذ الألقاب البروفسورية، فإننا اعتمدنا في هذه المقالة على المعطيات العلمية الجديدة التي استحصلنا عليها من الإنترنت أو عبر التواصل الشخصي مع بعض الموظفين في الإدارات العامة.

دراسة حماية نبع جعيتا

  • من نتائج تلوين المياه في المناطق داخل حوض تغذية جعيتا، والكشف عليها عند مخرج نبع جعيتا، تبين للخبراء سرعة انتقال الملون، وبالتالي التلوث من المناطق البعيدة والمرتفعة بمدة لا تتجاوز 62 ساعة.
  • لا توجد محطات معالجة لمياه الصرف الصحي على طول وادي نهر الكلب فوق نبع جعيتا، هناك خلافات مع بعض البلديات حول مواقع محطات المعالجة.
  • سرعة وصول الملونات (الملوثات) في المياه الجوفية في المخازن الصخرية ذات المسامية  porosity)) تبلغ مثلا في ألمانيا 50 يوما وفي سويسرا 10 أيام.
  • في المخازن الكربوناتية الكارستية ذات نفاذية (Permeability) الشقوق والكسور، ومغاور وكهوف التذويب بالمياه الجوفية الجارية في العمق الصخري (كما هو حال صخورنا الكربوناتية المتكشفة على 75 بالمئة من مساحة لبنان)، لا سيما منها تلك المخازن المتطورة طبيعيا، فإن التسريب في الحفر والمنخفضات الصخرية والأودية والكسور أو الفوالق عال جدا، جريان المياه في المخزن الكربوناتي الكارستي أكثر تعقيدا، والسرعة تتغير من منطقة إلى أخرى حسب درجة تطور التشقق والتذويب.
  • الحلول المعتمدة عالميا لحماية المخازن الجوفية الكربوناتية الكارستية (كما هو حال 75 بالمئة من صخورنا المتكشفة في لبنان) تقوم على تحديد حرم للنبع أو النهر (تقنيات التلوين)، وتمييز المناطق داخله بين هشة ينتقل فيها التلوث بسرعة، ومناطق أقل هشاشة حيث سرعة الإنتقال أبطأ.

 

خطر التلوث الجرثومي لنبع جعيتا بمياه الصرف الصحي

 

بعض المباني القائمة على الصخور الكربوناتية الكارستية عالية التشقق، وبالتالي عالية النفاذية، ليست لها شبكة صرف صحي، فتتسرب المياه المبتذلة تحتها داخل الصخور مباشرة وبدون أية معالجة نحو المياه الجوفية، وتؤدي بالنتيجة إلى التلوث الجرثومي السريع لمصادر المياه.

نظرا لعدم وجود شبكات صرف صحي حقيقي في لبنان، فإن المياه المبتذلة تحول إما إلى  إلى آبار أو جور صحية غير مانعة، أو ترمى في الأودية والسواقي ذات النفاذية العالية.

مشاكل خاصة بمعالجة الصرف الصحي

  • الوضع الطوبوغرافي الصعب (الإختلاف الكبير في الإرتفاع عن سطح البحر) مما يحتم الضخ من عدة محطات ولإرتفاعات عالية.
  • إنقطاع التيار الكهربائي عن المناطق بنسبة 60 بالمئة طاقة كل 24 ساعة.
  • التباعد الكبير بين المناطق السكنية، حتى ضمن القرية الواحدة لا تخدم شبكة الصرف الصحي إلا حوالي 70 بالمئة من المساكن.
  • لا توجد قوانين تجبر أصحاب المساكن بربطها بشبكة الصرف الصحي.
  • تعمد البلديات إلى إنشاء شبكة خاصة بها دون التنسيق مع الإدارات الرسمية أو البلديات الأخرى المجاورة، همها الأساسي إخراج المياه المبتذلة لتتوزع خارج نطاق البلدية.
  • أنواع وأهداف مشاريع الصرف الصحي ومواصفات المواد المستعملة في الشبكات ليست مطابقة للمواصفات الجيدة المعروفة عالميا.

**من هنا ضرورة وجود خطة مركزية شاملة كل المناطق للصرف الصحي في لبنان.

تقرير عن تلوث مياه محطة ضبية صيف سنة 2012

 

يتضمن التقرير في نهايته وصفا لموجة التلوث العارمة التي ضربت نبع القشقوش في الأسبوع الأول من شهر تموز (يوليو) سنة 2012، حيث تم تسجيل مقادير عالية من التلوث البكتريولوجي، ونسب كبيرة من المواد الكيميائية الملوثة.

يقول التقرير، تم أخذ قرار بوقف معالجة مياه نبع القشقوش، وبالتالي منع توزيع مياهه على المستهلكين قبل معرفة مصدر التلوث.

تقول الطالبة (المشاركة في التقرير) لاحظنا أن نسبة التلوث الجرثومي ظلت ثابتة في المياه حتى بعد وضع نسبة واحد ميلليغرام/ ليتر من الكلور على المياه الداخلة الى المحطة.

محاولة زيادة النسبة الى 2 ملغ/ ليتر، لم يستطع المختبر أن يجريها لأن المعدات المستعملة لا تتحمل هذه النسبة من الكلور.

هكذا تم تحويل مياه نبع القشقوش الى البحر مباشرة منذ الرابع من تموز (يوليو) 2012، ما أدى الى خسارة 50000 متر مكعب يوميا، جرى بعدها تقنين المياه الموزعة على المواطنين، وأصبحت الرقابة فقط على نوعية المياه غير الملوثة لتوزيعها مهما كانت كميتها صغيرة.

تكمل الطالبة بأن الخوف كان كبيرا من وصول التلوث لمياه نبع جعيتا، فلو حصل ذلك لتم وقف توزيع المياه نهائيا على سكان بيروت وضواحيها، علما بأن نبع القشقوش وجعيتا هما النبعان الوحيدان اللذان توزع مياههما لمناطق بيروت.

إزدادت التحاليل الجرثومية والفيزيوكيميائية للمياه وأصبحت تجرى بمعدل يومي، العنصر الأساسي للتلوث الجرثومي كان العدد الكبير لمستعمرات إيشيريشيا كولي (بكتيريا تعيش في أمعاء الإنسان وتخرج بعدها مع مياه المجارير). رصدنا إرتفاعين في أعداد المستعمرات، الأول في 20 تموز (يوليو) والثاني يوم 9 آب (أغسطس)، عاد ثبات أعداد المستعمرات الى حالته الأولى بدءا من 19 آب (أغسطس).

تمت متابعة المواد الكيميائية الخطرة، وخصوصا مادة النيتريت NO2، وهي مادة خطرة على صحة الإنسان، في الرسم قمة للفوسفات P2O5 تم كشفه، جاء بعده إرتفاع مفاجئ في نسبة الأمونيوم NH4+، لكن النيتريت الخطر كانت كمياته تتراكم في نبع القشقوش.


رسوم بيانية تظهر بالأرقام والتواريخ :

  • الى اليمين المواد الخطرة (NO2 mg/l –NH4 + mg/l – P2O5 mg/l  – CND ms/cm).
  • الرسم الى يسار الصفحة :عدد المستعمرات  بالميلليليتر يظهر قمتين بتاريخ 21/ 7 / 2012 حيث بلغ العدد  9100 مستعمرة، القمة الثانية بتاريخ  10/ 8 /2012.

هذه التحاليل تدل بشكل واضح على أن مواد التلويث ناتجة عن مجاري الصرف الصحي ومياه إستعمال مبتذلة (جلي غسيل …الخ)، بالفعل كمية الفوسفات فسرت بوجود كميات كبيرة من الصابون، الأمونيوم ناتج عن البول، النيتريت نتيجة إنعدام الأوكسيجين عن النيترات، والنيتريت ناتجة عن بكتيريا الإيشيريشيا كولي.

أما الجراثيم الأخرى التي تم الكشف عليها عدا الإيشيريشيا كولي، فهي السيتروباكتير التي تتأتى من تلوث المياه بغائط الإنسان الذي تصرفه المجارير في الأودية ومجاري النبع والنهر.

لو شرب المواطنون هذه المياه الملوثة لكان التأثير الكبير بالنيتريت (الذي وصلت كميته الى 0,8 ملغ/ ليتر أي أكثر بثمانية أضعاف الكمية المسموحة) كبيرا، خصوصا على الأطفال الرضع أو حديثي الولادة، حيث تعمد هذه المادة إلى إتلاف حديد الهيموغلوبين في الدم حامل الأوكسيجين، فيصاب الطفل بالإختناق ويتغير لونه الى الأزرق (لذا يسمى بالمرض الأزرق).

***هذا عدا حالات الإسهال والإستفراغ ونقص المياه في الجسم، التي تظهر خصوصا عند الأطفال والمسنين الذين لا تتحمل أجسامهم النسب العالية من التلوث الجرثومي السيتروباكتير والإيشيريشيا.

* أستاذ وباحث جامعي ومهندس هيدروجيولوجي
**المرجع: مشروع التعاون التقني اللبناني الألماني –  تقارير  ومنشورات  المؤسسة الفيدرالية لعلوم الجيولوجيا  والمصادر الطبيعية، هانوفر – ألمانيا – BGR، المكلف من قبل مجلس الإنماء والإعمار ومصلحة مياه بيروت ووزارة الطاقة والمياه بإجراء دراسات على نبع جعيتا – 2014.
***المرجع : تم الحصول على هذا التقرير المطبوع باللغة الفرنسية بالصدفة في وزارة الطاقة والمياه، جربت الطالبة التونسية الأصل المسجلة في جامعة Paris Sud في العاصمة الفرنسية خلال عملها تحت إشراف مدبر عام الطاقة والمياه الحالي د. فادي قمير تجربة أجهزة قياس جديدة لمعرفة الخصائص الكيميائية والفيزيائية لمياه سد شبروح ومقارنة النتائج مع تحاليل مختبر ضبية للمياه.

الناشر: الشركة اللبنانية للاعلام والدراسات.
رئيس التحرير: حسن مقلد


استشاريون:
لبنان : د.زينب مقلد نور الدين، د. ناجي قديح
سوريا :جوزف الحلو | اسعد الخير | مازن القدسي
مصر : أحمد الدروبي
مدير التحرير: بسام القنطار

مدير اداري: ريان مقلد
العنوان : بيروت - بدارو - سامي الصلح - بناية الصنوبرة - ص.ب.: 6517/113 | تلفاكس: 01392444 - 01392555 – 01381664 | email: [email protected]

Pin It on Pinterest

Share This