وسط ضجيج الحروب والثورات والمعارك السياسية الديموقراطية والتطرف القومي والإرهاب الديني، تلتفت نسبة ضئيلة جداً من البشر الى ردات فعل الطبيعة التي تعتبر أولاً وأخيراً اللاعب الأكثر تأثيراً على مستقبل الإنسان وأسلوب حياته. قلة قليلة ترغب في رفع رأسها قليلاً فوق سطح مستنقع الحياة اليومية لتتمكن من رؤية الصورة الشاملة الكاملة لهذا الوجود. وهذه القلة سواء أنذرت ام لم تنذر لا أحد يرغب في سماع تحذيراتها، لكن الزمن يمضي والحقائق التقليدية تتبدل، وعاجلاً أم آجلاً ستقع الفأس في رأس البشرية. التغير المناخي يحصل على قدم وساق وأزمة المناخ الكبرى التي لم يتوقع كبار العلماء أن تبدأ قبل النصف الثاني من القرن الواحد والعشرين وصلت قبل موعدها بعقود، والناس يعيشون بداياتها اليوم من دون حتى أن يلحظوا ذلك، فهم مشغولون بسفك دماء بعضهم البعض ومسرورون بتمضية أعمارهم بصورة سطحية لا إعمال للعقل فيها ولا تدبير.
الأرقام تشير الى أن العام الحالي 2016 في طريقه ليصبح العام الأكثر سخونة في تاريخ الأرصاد المناخية. والعام الفائت 2015 هو حتى الآن الأعلى حرارة. وقبله كان سابقه العام 2014. وبالتالي فإن حرارة الأرض ترتفع منذ مطلع القرن الواحد والعشرين عاماً بعد آخر. والأشهر الـ14 الأخيرة سجلت أرقاماً قياسية غير مسبوقة في درجات الحرارة. وحجم الجليد القطبي هذا العام وصل أيضاً في ضآلته الى معدل غير مسبوق منذ بدأ الإنسان بمراقبته، وبالطبع الفضل الأول يعود في ذلك الى ارتفاع حرارة الأرض التي تسببت بها الى حد كبير أعمال التنقيب عن النفط والغاز.
ويعصف داء الجمرة الخبيثة في سيبيريا بسبب ذوبان الجليد بالعديد من جثث الناس وحيوانات الرنة التي قتلت بهذا المرض عندما لف المنطقة الوباء في عام 1941. ثلوج جبال الهيملايا وصلت الى أدنى كثافة لها، الفيضانات والتصحر ضربت الهند وبعض مناطق الصين بشكل متصاعد. وأعلنت الأمم المتحدة حال الطوارئ الإنسانية في دول جنوب وشرق أفريقيا بسبب الجفاف الشديد والقحط وانعدام المياه. وبحسب منظمة الصحة العالمية هناك نحو مليار إنسان على سطح الكوكب اليوم ليست لديهم قدرة مباشرة للحصول على مياه صالحة للشرب. النيران تلتهم مساحات شاسعة من الغابات في أميركا واستراليا. عديد النحل في معظم المناطق تقلص بشكل غير مسبوق.
أما حالات تلوث المياه ونفق الأسماك على أنواعها قرب الشواطئ فحدث ولا حرج. كل هذا يجري بينما نسبة ولادات البشر ترتفع بشكل ملحوظ الى حد لم تعد فيه المجاعة احتمالا ًمستقبلياً لا بل واقعاً يقف في الانتظار، لأن قدرات الكوكب الزراعية في ما تبقى من مساحات خضراء منه لن تكفي لإطعام عديد البشر الذي يتجه نحو سقف الـ8 مليارات نسمة بسرعة صاروخية، كما أن استمرار ارتفاع حرارة الأرض واتساع رقعة الجفاف سيحولان مياه الشرب الى عملة نادرة الوجود مما سيؤدي في مرحلة من المراحل الى حالات موت جماعي غير مسبوقة.
وبرغم التهليل الدولي للمؤتمر المناخي الأخير الذي عقد في باريس أواخر العام الفائت، وتعهد فيه قادة 177 دولة بالعمل على منع حرارة الأرض من الارتفاع بأكثر من 1,5 درجة مئوية عن المعدل الأقصى المقبول للحياة على سطح الكوكب، إلا أن الأشهر الستة الأخيرة شهدت ارتفاع درجة الحرارة بنحو 1,3 درجة مئوية عن معدلاتها القصوى، وهذا يعني أن العالم فعلياً بدأ يعيش أزمة المناخ التي طالما كان متخوفاً منها، وهذا يعني عملياً أن ما تم الاتفاق عليه في باريس الى حين تطبيقه سيكون خطوة متأخرة جداً حتى وإن كانت في الاتجاه الصحيح.
والأسوأ من كل هذه الارقام والحقائق، صلف بعض الزعماء والسياسيين المرشحين لقيادة أهم دول العالم في المرحلة المقبلة. فبالنسبة للمرشح الجمهوري للرئاسة الأميركية دونالد ترامب موضوع التغير المناخي وأزمة البيئة هو مجرد وهم من صنع اليساريين. وبالنسبة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين يجب أن تمتلك روسيا أجزاء كبيرة من القارة القطبية الشمالية وتوغل أكثر فأكثر في استخراج النفط والغاز. كما ستضطر الحكومة الجديدة في بريطانيا الى إحياء الثورة الصناعية في البلاد للتصدي للتداعيات الاقتصادية التي يولدها الخروج من الاتحاد الأوروبي. أما النظام الشيوعي في الصين فيواصل تسوية الجبال والتلال في الصين بالأرض من أجل بناء مدن ومساكن، وفي الوقت نفسه يحاول الاستيلاء على المزيد من جزر المحيط الهندي لكي ينقب في محيطها أيضاً عن الغاز والنفط.
أما فرنسا فتواصل تطوير الطاقة النووية المدنية وتسعى الى بيع خبراتها في هذا المجال لعدد من الدول حول العالم لأن المهم في النهاية هو جني المال بغض النظر عن التداعيات الكارثية التي يمكن أن تنتج عن التسربات النووية كما حصل في فوكوشيما اليابانية قبل أعوام.
الإنسان يغتصب كوكب الأرض بكل ما أوتي من طمع وشره. لكن الطبيعة برهنت عير التاريخ قدراتها الانتقامية وقد بدأت تدق أجراس الإنذار، إنما للأسف القليل من البشر اليوم يريد سماعها والحوار معها. لا تزال زمجراتها الغاضبة اليوم في بداياتها، لكن عندما ينقلب المناخ رأساً على عقب وتكثر الهزات والبراكين والتسونامي وسواها، سيدرك عندها الجميع أن الأرض قررت أن تنفض عن سطحها هذه الطفيليات التي لا تعرف معنى الشبع ولا تفهم أهمية الحرص على عدم إحداث خلل في ميزان الطبيعة.