“لن تنقذنا الطاقة النظيفة بل إن نظاما اقتصاديا جديدا هو ما سينقذنا”، بهذه الفكرة الصادمة، بدأ جيسون هيكل Jason Hickel مقالته في صحيفة الغارديان The Guardian البريطانية، مؤكدا حقيقة أن الاقتصاد الموجه نحو التمادي في الاستهلاك دون قيود وحدود، سوف يؤدي بمجتمعاتنا نحو التهلكة، وقال موضحا أنه “قد حان الوقت لتوجيه طاقاتنا الابتكارية نحو تخيل نظام عالمي جديد، لما يشكله النمو اللانهائي للاقتصاد من وهم عظيم”.

وذكّر هيكل بتصدر ارتفاع درجات الحرارة خلال العام الماضي وبدايات هذا العام بصورة غير مسبوقة عناوين وسائل إعلامية عديدة، ومنها أن شهر شباط (فبراير) قد سجل رقما قياسيا في درجات الحرارة العالمية ما شكل صدمة، فيما كسر آذار (مارس) كافة السجلات أيضا، أما في حزيران (يونيو)، ووفقا لـ “الرابطة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي” (NOAA)، فقد ارتفعت الحرارة 1,62 درجة فهرنهايت فوق المعدل العام للقرن العشرين بـ 0,04 درجة، وسجلت هذه الظاهرة للشهر الرابع عشر على التوالي كسر المعدلات العامة لدرجات الحرارة،

كما طغت على شاشات المحطات الفضائية صور سوريالية من الفيضانات في باريس، وغطى نهر السين الضفاف وتدفق إلى الشوارع. وفي لندن، وجهت الفيضانات المياه إلى نظام مجاري الصرف في قلب كوفنت غاردن Covent Garden في العاصمة لندن، فأصبحت الطرق في جنوب شرق لندن تشبه الأنهار بمياه بعمق مترين.

وفي هذا السياق، فإن حرائق الغابات في ولاية كاليفورنيا، والفيضانات على الملايين من البشر في الهند والصين، ولا سيما درجات الحرارة في العراق، السعودية، غرب إيران ومناطق عديدة من الكويت التي وصلت إلى 51.6 درجة مئوية، وفي منطقة “مطربة” في الكويت 54,4 درجة مئوية وبصرى في العراق 53,9 درجة مئوية، وهي أعلى درجات مسجلة حتى الآن في منطقة شرق النصف الشمالي من الكرة الأرضية، وخارج وادي الموت (يقع في شرق كاليفورنيا في الولايات المتحدة)، كما سجلت منطقة البحر الميت في الأردن وفلسطين المحتلة 52 درجة مئوية.

، ويقول العلماء أن الكارثة المناخية العالمية تتجاوز كافة التوقعات.

كما أشار “معهد غودارد لدراسات الفضاء” Goddard Institute for Space Studies (GISS) التابع لـ “ناسا”، إلى أن فترة الستة أشهر من كانون الثاني (يناير) إلى حزيران (يونيو) 2016 كان أيضا الأكثر حرارة في نصف السنة الأول على كوكب الأرض على الإطلاق، حيث بلغ متوسط درجة الحرارة 2.4 درجة فهرنهايت أكثر دفئا من أواخر القرن التاسع عشر، كما سجلت وكالة “ناسا” أيضا أن خمسة من الستة أشهر الأولى من العام 2016 أصغر مدى لجليد البحر القطبي منذ بدء الاحتفاظ بالسجلات الفضائية  في العام 1979، وقال عالم الجليد البحري في “مركز غودارد لرحلات الفضاء” التابع لـ”ناسا” NASA’s Goddard Space Flight Center والت ماير Walt Meier “لقد كان عاما قياسيا حتى الآن لجهة درجات الحرارة في العالم، وشهدت منطقة القطب الشمالي أيضا درجات حرارة ذات مستويات قياسية والأكثر تطرفا خلال الأشهر الستة الماضية”، وأضاف أن “هذا الدفء، فضلا عن أنماط الطقس غير العادية أديا إلى تسجيل نطاقات جليد منخفضة للغاية في البحر هذا العام”.

وقال عالم تاريخ المناخ weather historian كريستوفر بيرت Christopher Burt أنها المرة الأولى التي تسجل فيها درجات الحرارة العالية هذه بشكل موثوق reliably، بسبب تسجيل درجات حرارة عالية في سنوات سابقة، ولكنها استبعدت لكونها تفتقد للمصداقية العلمية.

فيديو

وبالعودة إلى المناخ وأثر نظامنا الإقتصادي الذي يعرضنا لخطر داهم، قال هيكل “هذا الوعي المتزايد حول مخاطر استخدام الوقود الأحفوري يمثل تحولا حاسما في وعينا، ولكن لا يسعني الا الخشية من أنه غابت عنا نقطة هامة، فبقدر أهمية الطاقة النظيفة، فالعلم واضح: انها لن تنقذنا من تغير المناخ”، وأضاف “دعونا نتخيل، فقط على سبيل المثال، أننا قادرون على التوقف عن استخدام الوقود الأحفوري والتحول إلى الطاقة النظيفة بنسبة 100 بالمئة، فليس هناك شك أن هذه الخطوة ستكون مهمة في الاتجاه الصحيح، ولكن حتى هذا السيناريو الأفضل لن يكون كافيا لتجنب الكارثة المناخية”.

لماذا؟ يفسر هيكل “لأن حرق الوقود الأحفوري يمثل فقط حوالي 70 بالمئة من مجموع انبعاثات غازات الدفيئة البشرية المنشأ، أما 30 بالمئة المتبقية فتأتي من مصادر عدة، فإزالة الغابات هي احدى أكبر الأسباب، والزراعة الصناعية، التي تخفض من جودة التربة إلى درجة أنها تسرّب ثاني أوكسيد الكربون CO2، ثم هناك تربية الماشية الصناعية التي تنتج 90  مليون طن من غاز الميثان سنويا، وأكبر كمية من أوكسيد النيتروز nitrous oxide في العالم (وهنا نعيد لفت النظر إلى مقاربة العالم آلان سافوري في مقالة نشرت في موقعنا greenarea.info حول الإدارة المتكاملة لتربية المواشي)، فكل من هذه الغازات هي أكثر فعالية بدرجة كبيرة من CO2 عندما يتعلق الأمر بظاهرة الاحتباس الحراري، فالثروة الحيوانية الزراعية وحدها تساهم في ظاهرة الاحتباس الحراري أكثر من كافة السيارات والقطارات والطائرات والسفن في العالم، وهناك الإنتاج الصناعي من الاسمنت والصلب، وأشكال البلاستيك، وهي مصادر رئيسية أخرى للغازات المسببة للاحتباس الحراري، وبعد ذلك هناك مكبات ومطامر النفايات، التي تضخ كميات ضخمة من الميثان – 16 بالمئة من اجمالي الانبعاثات في العالم”.

وأشار هيكل إلى أنه “عندما يتعلق الأمر بتغير المناخ، فالمشكلة ليست في نوع الطاقة التي نستخدمها فحسب، بل كيف نستخدمها ولأي هدف؟ فالجواب تماما كما نستخدم الوقود الأحفوري، لإزالة المزيد من الغابات، بناء المزيد من مزارع اللحوم والتوسع في الزراعة الصناعية، إنتاج المزيد من الإسمنت، وملء المزيد من مواقع المطامر باللنفايات، والتي بدورها ستقوم بضخ كميات قاتلة من غازات الاحتباس الحراري في الجو، وسوف نفعل هذه الأشياء لأن نظامنا الاقتصادي يتطلب النمو المركب اللانهائي، ولسبب ما لم نفكر في هذا السؤال”.

وقال هيكل “دعونا نفكر في الأمر بهذه الطريقة، إن نسبة 30 بالمئة من الغازات المسببة للاحتباس الحراري التي تأتي من مصادر الوقود غير الأحفوري، ليست ثابتة، ونتوقع إضافة المزيد منها إلى الجو سنويا، ويتوقع العلماء أن الغابات الاستوائية لدينا سوف تدمر تماما بحلول العام 2050، وستنطلق قنبلة كربون بقوة 200 مليار طن في الهواء، كما يمكن أن تُستنفد الطبقة العليا من التربة في العالم في غضون 60 سنة فقط، ما سيطلق كمية أكبر من الكربون، كما أن الانبعاثات الناتجة عن صناعة الاسمنت تنمو بأكثر من 9 بالمئة سنويا،  وتتضاعف المطامر بصورة “مبكية”، وبحلول العام 2100 فإننا سوف تنتج 11 مليون طن من النفايات الصلبة يوميا، بمعدل ثلاث مرات أكثر مما نفعل الآن، وللأسف فالتحول إلى الطاقة النظيفة لن يساهم بإبطاء هذا الأمر”.

NOAA IMAGE

وأضاف هيكل “اقترفت الحركة المؤازرة للعمل من أجل المناخ خطأً كبيرا، فقد تركز الاهتمام كله على الوقود الأحفوري، بينما كان ينبغي لفت النظر إلى شيء أعمق من ذلك بكثير، إلى المنطق الأساسي لنظامنا الاقتصادي، فبالإجمال، نحن نستخدم الوقود الأحفوري في المقام الأول للتغذية الضرورية لنمو الناتج المحلي الإجمالي GDP growth والعالمي وبصورة أوسع”، وقال “المشكلة الحقيقية هي أن نظامنا الاقتصادي يتطلب مستويات متزايدة بشكل مستمر للاستخراج والتنقيب وبالتالي الإنتاج والاستهلاك، ويتابع السياسون القول لنا أننا بحاجة للحفاظ على نمو الاقتصاد العالمي بأكثر من 3 بالمئة سنويا في الحد الأدنى، وهو اللازم للشركات الكبيرة لتحقيق أرباح إجمالية، وهذا يعني أننا بحاجة كل 20 سنة إلى مضاعفة حجم الاقتصاد العالمي، ما يعني ضعف عدد السيارات، وضعف كمية صيد الأسماك، وضعف التعدين، وضعف حلويات Mc Flurries وضعف أعداد المحمول، ثم مضاعفتها مرة أخرى على مدى السنوات العشرين التالية”.

وقال هيكل أيضا “يعتقد الخبراء الأكثر تفاؤلا أن الابتكارات التكنولوجية ستساعدنا على التقليل بمقدار الضعف من استهلاك المواد بهدف النمو الاقتصادي، ولكن للأسف لا يوجد أي دليل على أن هذا سوف يحدث، فقد شهد التنقيب عن المواد نموا بنسبة 94 بالمئة منذ العام 1980، وما زال مستمرا بالنمو، وتشير التوقعات الحالية إلى أنه بحلول العام 2040 سيكون لدينا أكثر من ضعف أرقام أميال الشحن في العالم، وضعف الأميال الجوية، وضعف أميال النقل بالشاحنات، جنبا إلى جنب مع كل الأشياء المادية التي تنقلها تلك المركبات تماشيا مع معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي المرتفعة باستمرار”.

وعلى الرغم من الصورة القاتمة التي يرسمها هيكل، إلا أنها لا تجانب الحقيقة، وهنا يخلص إلى النتيجة القائلة “الطاقة النظيفة، على أهميتها، لن تنقذنا من هذا الكابوس، لكن قد ينقذنا إعادة التفكير في نظامنا الاقتصادي، فقد تم الترويج إلى أن نمو الناتج المحلي الإجمالي هو السبيل الوحيد لخلق عالم أفضل، ولكن لدينا الآن أدلة قوية أن هذا لا يجعلنا أكثر سعادة، وهذا الأمر لا يحد من نسب الفقر، و التأثيرات الخارجية لهذا النظام تنتج كل أنواع العلل الاجتماعية: الدين، الإجهاد في العمل، عدم المساواة وتغير المناخ، لذا من المهم التخلي عن اعتبار نمو الناتج المحلي الإجمالي مقياسا أساسيا للتقدم، ونحن بحاجة إلى القيام بذلك فورا، كجزء لا يتجزأ من اتفاق حول المناخ سيتم التصديق عليه في المغرب في وقت لاحق هذا العام”.

وأكد هيكل الحاجة أن “صب طاقاتنا الإبداعية في تخيل اقتصاد عالمي جديد يزيد رفاهية الإنسان بينما يقلص وبشكل جذري البصمة البيئية، ليس مهمة مستحيلة، وقد تمكنت بالفعل دول عدة تحقيق مستويات عالية من التنمية البشرية، مع مستويات منخفضة جدا من الاستهلاك، وفي الواقع فإن الخبير الاقتصادي في جامعة ليدز دانيال أونيل  Daniel O’Neill، أظهر أن تراجع النمو المادي لا يتعارض مع مستويات عالية من رفاه الإنسان”.

وختم هيكل قائلا “يمكننا التركيز على الوقود الأحفوري، والتفكير في أننا يمكن أن نستمر في الوضع الراهن ما دمنا سنتحول إلى الطاقة النظيفة، ولكن هذا الافتراض الساذج خطير للغاية، إذا كنا نريد فعلا درء الأزمة المقبلة، فنحن بحاجة إلى مواجهة السبب الأساسي”.

 

الناشر: الشركة اللبنانية للاعلام والدراسات.
رئيس التحرير: حسن مقلد


استشاريون:
لبنان : د.زينب مقلد نور الدين، د. ناجي قديح
سوريا :جوزف الحلو | اسعد الخير | مازن القدسي
مصر : أحمد الدروبي
مدير التحرير: بسام القنطار

مدير اداري: ريان مقلد
العنوان : بيروت - بدارو - سامي الصلح - بناية الصنوبرة - ص.ب.: 6517/113 | تلفاكس: 01392444 - 01392555 – 01381664 | email: [email protected]

Pin It on Pinterest

Share This