أعادت “انتفاضة” اهالي بلدة برجا وسكان القرى المحيطة بمعمل الجية الحراري، تسليط الضوء على الاضرار الصحية والبيئية التي يسببها هذا المعمل، بعد أن اجمعت مختلف الشركات الاستشارية والخبراء على وجوب إزالته نهائياً واستبداله بمعمل جديد مكانه.
المعلومات المتوافرة تشير إلى ان الوعود التي تلقاها الاهالي لجهة تحسين ساعات التغذية الكهربائية للقرى المحيطة بالمعمل قد بدأت مراحلها التنفيذية، ولقد عقد اجتماع لهذه الغاية قبل ثلاثة ايام في مكتب وزير الزراعة أكرم شهيب ضمه إلى المدير العام لمؤسسة كهرباء لبنان كمال حايك، وعدد من مستشاري وزير الطاقة وفنيين واداريين من معمل الجية، وجرى الاتفاق على رفع ساعات التغذية للقرى المحيطة بالمعمل، كمبادرة تسهم في تنفيس الاحتقان والغضب الشعبي العارم جراء التلوث غير المسبوق الذي تسببه دواخين المعمل، والمترافق مع تقنين قاسٍ جراء الطلب المتزايد على الطاقة خصوصاً في فصل الصيف. كما تقول مؤسسة كهرباء لبنان انها “انجزت أعمال التصليح على المجموعة الغازية في معمل الزهراني ووضعتها في الخدمة صباح الاثنين الماضي، ما سيسهم بتحسن ملحوظ في التغذية بالتيار الكهربائي في جميع المناطق، ومن بينها المنطقة المحيطة بمعمل الجية الحراري“.
لكن ماذا عن الوعود بإزالة معمل الجية القديم ومعالجة مادة الاسبستوس السامة، مع تهيئة الموقع لبناء معمل جديد بالتوازي مع اجراءات انشاء المعمل الجديد؟
المؤشر الابرز حول انعدام النقاش حول هذه المسألة في المرحلة الحالية، البيان الصادر عن مؤسسة الكهرباء عقب الاحتاجاجات امام المعمل قبل ايام، وصولاً إلى الدخول لحرم المعمل والسفينة التركية التي تسهم في توليد الطاقة الكهربائية.
تقول مؤسسة كهرباء لبنان أن الإجراءات التي باشرت باتخاذها للحد من التلوث الناجم عن المعمل، تهدف إلى التحكم بعملية حرق الفيول وانتظام عمل مجموعات الإنتاج، وبالتالي، الحد من تصاعد الدخان الأسود، ومن أبرزها: إبرام عقد لتركيب أجهزة Oxygen meters على كل مجموعات الإنتاج في المعمل. وإبرام عقد لإجراء تأهيل جزئي لمراجل المجموعات الثالثة والرابعة والخامسة، كذلك ابرام عقد للقيام باستبدال الـ Economizer على المجموعتين “Toshiba“، وإطلاق استقصاء أسعار لشراء كاميرات (Night vision) لمراقبة الدواخين ليلا إلى جانب تلك الموجودة والمخصصة للمراقبة نهارا، وإطلاق استقصاء أسعار لشراء قطع غار للـ Instruments لكل مجموعات المعمل، بهدف القيام بتأهيل انظمة التحكم الخاصة بعملية حرق الفيول.
كما تقول مؤسسة كهرباء لبنان انها أطلقت استقصاء أسعار لتقويم معملي الذوق والجية من الناحية البيئية من قبل شركة استشارية متخصصة بالأمور البيئية، بهدف الحصول على الاقتراحات اللازمة من قبل الشركة الفائزة ليصار إلى اعتمادها من أجل الحد من الانبعاثات المضرة. وقد تقدم حتى تاريخ 22/7/2016 عارضون، فتم تمديد فترة تقديم العروض حتى 26/8/2016 عملا بالنظام المالي لمؤسسة كهرباء لبنان. كما انها باشرت إعداد دفتر شروط لتكييف مادة الفيول اويل في معمل الجية على غرار ما يحصل في معمل الذوق، إلا أنه تبين لمهندسي مؤسسة الكهرباء بعد فحص الغازات المنبعثة أنها دون المعايير التي وضعتها وزارة البيئة لجهة خطر التلوث!
اذاً ليس هناك اي اجراءات تنفيذية لازالة المعمل واستبداله بمعمل جديد، فرغم التوصيات المتكررة الصادرة عن اللجنة الفرعية المنبثقة من لجنة الاشغال العامة والنقل والطاقة والمياه، والقرارات المتكررة الصادرة عن مجلس الوزراء وآخرها القرار رقم 19 تاريخ 18/4/2016، فإن اجراءات ازالة المعمل وتركيب معمل جديد لا تزال في مراحل أولية جداً، رغم ان هذا الملف مطروح للتنفيذ منذ قرابة عامين.
مجلس الانماء والاعمار يبحث عن تمويل
ينص القرار رقم 19 على الموافقة على طلب وزارة الطاقة والمياه تفويض “مجلس الانماء والاعمار“ تأمين التمويل لدى الصناديق العربية والدولية، للبدء باجراءات إزالة معمل الجيه القديم ومعالجة مادة الاسبستوس مع تهيئة الموقع لبناء معمل جديد.
ومعلوم ان وزارة الطاقة تقدمت بهذا الاقتراح في ١٣ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٤، ولقد ابلغ الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية بتاريخ ١٦ تموز (يوليو) ٢٠١٥ “مجلس الانماء والاعمار“ عن استعداده للنظر بتمويل مشروع جديد بدلاً من معمل الجية، بموافقة مجلس ادارة الصندوق مع مراعاة الاجراءات المعمول بها بالصندوق بشأن تمويل المشاريع الجديد. كما اقترحت وزارة الطاقة بتاريخ ٨ أيار (مايو) ٢٠١٥ ان يتم تأمين التمويل اللازم لازالة المعمل القديم، وإزالة الملوثات الناتجة عن تلك العملية، وخصوصا مادة الاسبستوس، وانشاء معمل جديد في الموقع بعد تهيئته لذلك. وصدر بتاريخ ٢٤ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٥ قانونان حملا الرقم ٤٥ و ٤٦ المتعلقان بتأهيل محطتي توليد الكهرباء في الذوق والجية. وتقول وزارة الطاقة ان التوجه حالياً إلى العمل الفوري لدى الجهات المانحة لتأمين التمويل اللازم لبناء معمل جديد في موقع الجية، مع إنشاء محطة تغويز تعمل على الغاز الطبيعي خاصة به. وذلك خلال اجتماع اللجنة الفرعية المنبثقة عن لجنة الاشغال العامة والنقل والطاقة والمياه المكلفة تنفيذ التوصية الصادرة عن المجلس النيابي حول الكهرباء.
مطلع العام الجاري، تم التوافق على وجوب طلب مجلس الوزراء ان يفوض “مجلس الانماء والاعمار“ بالعمل على تأمين التمويل. كما طلبت وزارة الطاقة والمياه من وزارة المالية بتاريخ ٢٢ كانون الثاني (يناير) تمويل معملي انتاج يعملان على الفيول الثقيل والغاز الطبيعي في موقعي الزهراني وسلعاتا بقدرة ٤٥٠ إلى ٥٥٠ ميغاوات لكل منهما، علماً ان انشاء المعملين مرتبط بتأمين التمويل من المانحين عبر قروض ميسرة للدولة اللبنانية من الجهات المانحة، تستخدم في القطاعات التي تحتاج إلى استثمارات عامة والمتأثرة بالنزوح السوري إلى لبنان.
وقدمت شركة كهرباء فرنسا إلى وزارة الطاقة والمياه في وقت سابق، دراسة جدوى فنية اولية عن موضوع معالجة الاسبستوس في معمل الجية بطريقة علمية سليمة وفق المعايير البيئية، وذلك بعد ان قامت بكشف اولي على المعمل. وتقول وزارة الطاقة انه يتوجب اجراء دراسة جدوى اكثر عمقاً وتفصيلاً، تكون الاساس لاتخاذ القرار عن كيفية المضي في المراحل اللاحقة، ومنها تحضير دفتر شروط مفصل للتلزيم، ولقد طلبت من “مجلس الانماء والاعمار“ ان يقوم بهذه الدراسة، بالتعاون مع لجنة تضم إلى المجلس وزارة الطاقة ومؤسسة كهرباء لبنان ووزارة البيئة.
تأهيل الذوق… “ترقيع” الجية
كيف توصلت وزارة الطاقة إلى توصية ازالة معمل الجية والتراجع عن قرار اعادة تأهيله؟ في منتصف العام ٢٠١٤ ابلغ “مجلس الانماء والاعمار“ رئيس مجلس الوزراء عن نتائج فض العروض المالية للمجموعة المندمجة متكا–انسالدو Mekta – Ansaldo في اطارة مناقصة تأهيل معمل الذوق الحراري (المجموعة الاولى)، والتي بلغت ٢٩٨,٨١٣,٤٠٠ دولار اميركي، في حين قدرتها الشركة الاستشارية Kema بحوالي ١٧٢ مليون دولار اميركي! اما العرض المالي لتأهيل المجموعة الثالثة في معمل الجية الحراري فبلغت ٢٠٦,٧٠٨,٣٦٣ دولار اميركي، في حين قدرتها الشركة الاستشارية Kema بحوالي ٩٢ مليون دولار! وبذلك يكون الفارق بين سعر عرض الذوق وعرض الجية ٥٠٧ دولار اميركي لكل (كيلووات/دولار)، حيث بلغ عرض الخرافي (٩٨٢.٩٢ لكل كيلووات/دولار)، في حين بلغ سعر المجموعة المندمجة متكا–انسالدو (٤٧٥.٨٢ لكل كيلو وات / دولار)!
خلصت وحدة ادارة تنفيذ مبادرات الانتاج المؤلفة من ممثلين عن وزارة الطاقة والمياه ومؤسسة كهرباء لبنان، إلى ان السعر المعروض لتأهيل معمل الذوق يوازي تقريباً نصف سعر معمل جديد مماثل، وذلك يصلح لفترة تشغيل توازي تقريبا نصف حياة المعمل الجديد التقنية. اما بالنسبة إلى معمل الجية، فإن السعر المعروض يوازي تقريباً سعر المعمل الجديد، وذلك لفترة تشغيل توازي تقريبا نصف حياة المعمل الجديد التقنية. كما ان تنفيذ اشغال تأهيل المعملين ستتطلب فترة ثلاث إلى اربع سنوات، مقارنة مع اربع إلى خمس سنوات لمعامل جديدة مماثلة، بينما تختصر متطلبات التأهيل على توقيف مجموعة واحدة فقط في كل معمل طل فترة تنفيذ الاشغال، في حين يتطلب انشاء معمل جديد التوقف الكلي للمعامل الفنية لفترة أربع إلى خمس سنوات.
وخلصت اللجنة إلى انه نظراً للنقص الحادة في الانتاج التي تعاني منه مؤسسة كهرباء لبنان، فإن مدة توقيف المجموعات عن الانتاج هي عنصر حيوي في معادلة اتخاذ القرار، خصوصا وان معدل الخسائر على الاقتصاد اللبناني من خلال كلفة الطاقة غير المعطاة على الاقتصاد VOLL حوالي ٧٠٠ دولار/ميغاوات ساعة.
أما بالنسبة إلى معمل الجية، وبما أن سعر التأهيل جاء قريباً جداً من سعر معمل جديد، وكون التوفير المحتمل وغير المضمون الذي يمكن أن ينتج من إعادة المناقصة ليس متوقّعاً أن يغيّر هذا الواقع بشكل جوهري، واعتبرت وزارة الطاقة ان اعتماد خيار استبدال كامل معمل الجية بمعمل جديد هو الحل الأفضل، مع الاخذ في الاعتبار أنه يمكن الإستعاضة عن قسم من الطاقة غير المنتجة خلال فترة إنشاء المعمل الجديد بزيادة نحو 100 ميغاواط على الطاقة الإنتاجية للباخرة التركية الموجودة في الموقع. كذلك أوصى التقرير بضرورة تمكين مؤسسة الكهرباء من القيام بالصيانات اللازمة وفق الحاجة في المعملين ريثما يبدأ التأهيل، أو إنشاء المعمل الجديد لضمان الحد الأدنى من الإنتاجية خلال الفترة الإنتقالية.
بعد جولات عدة من المفاوضات، قامت المجموعة المندمجة متكا–انسالدو Mekta – Ansaldo بتحضير العرض النهائي لتأهيل معمل الذوق، وقدمته إلى “مجلس الانماء والاعمار“ بتاريخ ١٠ حزيران (يونيو) ٢٠١٦، ولقد تم الاتفاق على تخصيص التمويلين العربي والكويتي لمشروع تأهيل معمل الذوق لتصبح الميزانية المخصصة للمشروع نحو 220 مليون دولار. والعمل على خيار المضي بالتأهيل لمعمل الذوق على ضوء التفاوض مع الفائز بالمناقصة، اي المجموعة المندمجة متكا–انسالدو Mekta – Ansaldo بمؤازرة الإستشاري Mott Mac Donald حيال تحليل الأسعار، وتحديث نطاق الأعمال على اعتبار أن مؤسسة الكهرباء أنجزت بعض الأعمال الواردة في دفتر الشروط الأساسي، خلال فترة التأخير للبت بالمناقصة.
في الخلاصة، فإن اجراءات التأهيل الفعلية ستبدأ في الذوق فيما لو تم بت التفاوض وتوقيع عقد تنفيذ الاشغال مع المجموعة المندمجة متكا–انسالدو Mekta – Ansaldo، بالتزامن مع قرار التمديد للبواخر التركية سنتين، والمرجح ان يمدد مجدداً بعد هذه الفترة، اما معمل الجية الحراري، فإن المرحلة الحالية ستكون فقط مرحلة ترقيعية إلى حين ايجاد “مجلس الانماء والاعمار“ التمويل اللازم لازالة المعمل القديم، والتي يفترض في حال توفرها اطلاق مناقصات جديدة تمتد لاكثر من عامين، لانشاء المعمل الجديد والذي يتطلب التوقف الكلي للمعامل الفنية لفترة أربع إلى خمس سنوات، أي ان هذا المشروع لن يبصر النور إلا في حال توفير طاقة بديلة يفترض ان تنتج عن انشاء معملين جديدين في الزهراني وسلعاتا، وجميع هذه المبادرات والمشاريع لا تزال حبراً على ورق.