حبيب معلوف – السفير
لم تنته أزمة النفايات يوما لكي يقال إنها عادت، ولن تنتهي الازمة إلا بعودة الدولة الى منطق الدولة.
عودة النفايات الى الشارع، أمس، وخصوصا في منطقة ساحل المتن، ليست إلا مؤشرا على التأزم المفتوح في مسار أزمة بدأت بعد انتهاء الحرب الأهلية، عندما «اكتشفنا» أننا ننتج الكثير من النفايات، ولكن كل حكومات ما بعد الطائف أعطت الأولوية لإعادة الاعمار وأهملت كل المواضيع البيئية.
انتقلنا مركزيا في العاصمة وضواحيها من مكب النورماندي الى مكب برج حمود الى حين بداية الاعتراض على مكب برج حمود الذي تحول جبلا، فأقفل في العام 1997 وتم الانتقال إلى خطة طارئة تعتمد مركزيا على مطمر الناعمة ومعامل الفرز والتسبيخ في الكرنتينا والعمروسية.
زاد إنتاج النفايات واتسع عدد البلديات المشاركة في هذه الخطة من دون أن يتم تعديل الخطة أو السماح بتوسيع المعامل أو إيجاد بدائل، ومن دون وضع استراتيجية وطنية وقوانين ومراسيم تنظيمية للمعالجة كما يفترض منطق الدول.
أنشئت الكثير من المطامر البديلة في فترات متباعدة، لا سيما مطمر الناعمة (في حبالين وجبيل والجية) إلا ان خطة المطامر لم تكن استراتيجية ولا مقنعة، ليتم التمديد حتميا لخطة الطوارئ التي تعتمد مطمر الناعمة والمعامل المذكورة أكثر من مرة، حتى تم إقفال مطمر الناعمة من دون بديل وتراكمت النفايات في الشوارع منذ مطلع صيف العام 2015.
بقية القصة لا تزال ماثلة، طرحت مقترحات مجنونة للترحيل وفشلت، ثم طرح الحل الأخير الذي أقره مجلس الوزراء باعتماد مكب برج حمود المقفل وموقع الكوستابرافا كبديل طارئ للخطة الطارئة السابقة، لمدة أربع سنوات، لحين «إنجاز» الخطة الاستراتيجية التي لا تعتمد خيار التفكيك الحراري الخطر والتي لا تمت الى التفكير الاستراتيجي بصلة.
وبغض النظر عن تحفظات البيئيين على منطق التجريب المتمادي منذ ربع قرن، كان يمكن تحصين خطط الطوارئ عبر تطعيمها بأخرى استراتيجية، إلا ان ذلك لم يحصل بسبب سيطرة منطق المحاصصة على أي منطق آخر(خطة طوارئ برج حمود الأخيرة، كان يمكن ان تكون مفهومة لو تضمنت إنشاء معامل للفرز والتسبيخ في المنطقة المعالجة والمردومة).
فما معنى ان تدفع الدولة (بحسب قرار مجلس الوزراء في 12/3/2016) الأموال الإضافية لكل عملية الطمر (32 مليون دولار للبلديات مقسطة 8 ملايين كل سنة لأربع سنوات)، وتخصيص مبلغ خمسين مليون دولار لتغطية مشاريع إنمائية في البلدات المحيطة بكل مطمر من المطامر الثلاثة (مع الناعمة) وموزعة على اربع سنوات، من دون ان تؤمن المساحة الضرورية لإنشاء معامل معالجة النفايات الصلبة، بالإضافة الى محطات معالجة المياه المبتذلة، مع العلم ان بلديات برج حمود والجديدة والشويفات وبرج البراجنة حصلت أيضا على قسم كبير من الأراضي المردومة للاستثمار فيها!
هنا، يصبح السؤال: لماذا لم يعترض المعارضون اليوم على هذه النقطة، تجنبا لعدم الوصول الى سيناريو الناعمة: فرز وتخمير 10 الى 20 في المئة من النفايات وطمر الباقي!
على الأرجح، فإن أحدا من المتابعين الجديين للملف قد صدّق كذبة مناقصات المعالجة التي نصت على زيادة التخمير في المعامل نفسها من 300 طن يوميا الى 750 طنا بعد «تأهيلها»، من دون ان يذكر كيف!
الاعتراضات كان يجب أن تبدأ هنا بالتحديد، لأجل تحصين الخطة، مع اشتراط ان يعهد تنفيذها الى متخصصين في المعالجة وليس لمقاولي ردميات، مع اشتراط ان تترافق الخطة الطارئة مع بداية اعتماد الحلول الاستراتيجية، لا سيما دعم البلديات لاعتماد مبدأ الفرز من المصدر، وإسراع الوزراء المعنيين في الحكومة بدرس إعداد القرارات أو مشاريع المراسيم لوضع أسس التخفيف عبر وضع الضرائب على بعض السلع. عند هذا الحد كان يمكن تفهم معنى اعتماد خطط طارئة من جديد، بعد ما يقارب الربع قرن على نهاية الحرب الاهلية!
إمكانية التدارك
كان على القوى السياسية المعارضة الآن (وتلك الصامتة) تدارك الازمة قبل إقفال مطمر الناعمة، عبر المساهمة في مناقشة عميقة للخطة التي وضعتها وزارة البيئة قبل موعد إقفال مطمر الناعمة بأكثر من سنة والتي كانت تعتمد مركز برج حمود كركن أساسي للخطة. وبالمناسبة، فإن المفاوضات مع القوى المؤثرة في منطقة برج حمود كان يجب أن تبدأ ليس قبيل قرار مجلس الوزراء (منتصف آذار 2016)، بل في فترات سابقة، لان هذا المكب المقفل، كان يرشح سوائل ملوثة جدا للمحيط (في البر والبحر)، وتتسرب الغازات منه وتتسبب بحرائق سنوية قاتلة برغم طمره بالأتربة. وإذ يعلم غالبية المتابعين لهذا الملف هذه الحقائق، يعلم كثر أيضا ان القوى الفاعلة في المنطقة لم تضغط بسبب طمعها بالاستثمار في الأزمة وفي هذا «الجبل».
بعض هذه القوى المتدخلة وغير المتدخلة في الازمة الأخيرة، كانت تنظر بإعجاب وحسد الى مشاريع الردميات والاعتداءات على الأملاك العامة البحرية عن يمينها وعن يسارها، في «مارينا ضبيه» أو في «البيال»، وتفكر في كيفية الاستثمار في معالجة جبل النفايات والمساحات المردومة بمشاريع شبيهة، وهي رفضت مقترحات لإنشاء حديقة عامة مكان «الجبل»، مطالبة بمشاريع استثمارية أكبر أسوة بقوى الامر الواقع في مناطق أخرى. بالإضافة الى الأحلام السابقة المتعلقة بمشروع «لينور» لردم البحر ووضع اليد على الأملاك البحرية العامة، بالإضافة الى قضية التوفيق مع مصالح أصحاب المنشآت النفطية التي تضع يدها أيضا على جزء من الشاطئ.
هذا وغيره يفسر تعثر إدارة هذا الملف واستفحال النزاع على الحصص، المغلفة بشعارات بيئية، خصوصا مع تعدد القوى والمصالح في المنطقة نفسها، وهذا ما يفسر ربما الاعتراضات المستجدة التي لا أفق لها إلا اذا تبنت مطالب مسؤولة ضمن معايير إدارة الازمات التي تقول بالخيارات الأقل ضررا، أي التوصل الى تسوية تقوم على إنشاء معامل جديدة (هنغارات) للفرز والتخمير في المنطقة المردومة وإعادة النظر بالمناقصات سريعا، وتطعيم الخطط الطارئة بإجراءات من الخطط الاستراتيجية كالتخفيف والفرز من المصدر.
من دون ذلك، تكون المعارضة الحالية عبثية ومعها لن يكون مفاجئا أن تعود النفايات الى الشوارع وأن يزداد المشهد تأزما في الأيام والأسابيع المقبلة.