يقدّر الجيولوجيون عمر الأرض بنحو 4،5 بليون سنة، وقد استخدموا في ذلك عدَّة مؤشرات، مثل: معدل انخفاض درجة الحرارة، مقارنة الترسيبات عند دلتا الأنهار بالترسيبات على سطح الأرض، معدل تآكل سطح الأرض، كمية الأملاح في مياه المحيطات، النشاط الإشعاعي وقياس كمية غاز الهليوم في الجو.
وفي حين أن ثمة آراءً علمية أخرى تؤكد أن المدة أقل من 4،5 بليون سنة بكثير، الا ان العلماء قد قسّموا تاريخ الأرض ونشأة الكائنات عليها إلى حقب وعصور وفترات متسلسلة زمنيا، بالاستناد الى ظروف بيئية محددة، وبظهور أو سيادة مجموعة معينة من الكائنات، أو مظهر ما من المظاهر الطبيعية وتأثيره البالغ على أوجه الحياة الأخرى وعلى الرسوبيات المكوّنة لطبقات الأرض، وهذا ما يعرف إجمالا بمقياس الزمن الجيولوجي أو السلم الجيولوجي.

هذا التفسير يقدمه الباحث العلمي الحائز على دكتوراه في الدراسات البيئية والاستشعار عن بعد الدكتور وحيد محمد مفضل في مقالات عديدة بيئية واجتماعية، ويشير الى “انه حسب هذا السلم، فقد قسّم الزمن الجيولوجي تبعا للعمر النسبي للصخور إلى “دهور” ومنها إلى “حقب”، والحقب إلى “عصور” والعصور إلى “فترات” والفترات إلى “مراحل”.
في التقسيم العلمي، يظهر العصر الهولوسيني الذي بدأ قبل حوالي ألف عام على انه الاحدث، الا ان مفضل يقول “يبدو أن وضع الهولوسين على قمة السلم الجيولوجي ونعته بأحدث وآخر العصور الجيولوجية لن يدوم طويلا، ذلك أن هناك محاولات جادة وحثيثة يجريها بعض العلماء حاليا من أجل إضافة عصر جيولوجي جديد إلى ذلك السلم، هو عصر الأنثروبوسين أو العصر الجيولوجي البشري كما تشير إلى ذلك الترجمة الحرفية (أنثروبو) أي من صنع الإنسان، و”سين” تعني عصر جيولوجي”.

وكان مفضل قد توقع بذلك في العام 2014، الا انه قد أصبح واقعاً اليوم، فقد خلص فريق تابعَ دراسة هذه المسألة منذ سبعة اعوام إلى أن عصر الهولوسين الذي بدأ قبل 11 ألف و700 سنة مع انتهاء آخر عصر جليدي، انتهى ليحل محله الأنثروبوسين أي عصر الإنسان. وبالتالي، فقد دخلت الأرض في منتصف القرن العشرين في عصر جيولوجي جديد هو الأنثروبوسين، بحسب فريق من العلماء قدموا تقريرهم خلال المؤتمر الجيولوجي الدولي المنعقد في جنوب افريقيا.
في هذا السياق، قالت مديرة الأبحاث في المركز الوطني للبحث العلمي في فرنسا كاترين جانديل المشاركة في إعداد التقرير: “أصبح في وسع الإنسان تغيير الكوكب”، مؤكدة أن “الأمر مقلق، فللمرة الأولى منذ 4.5 بليون سنة، بدّل نوع واحد بطريقة جذرية تضاريس الكوكب وتركيبته الكيميائية والبيولوجية”.
وتألّف فريق العمل حول “الأنثروبوسين” من 35 شخصاً، هم علماء جيولوجيا ومحيطات ومناخ وآثار ومؤرخون، خلص أعضاؤه بإجماع شبه كامل إلى أن “الأنثروبوسين” بات واقعاً على صعيد علم الطبقات الجيولوجية. واعتبر الباحثون أنه “لا بد من إضفاء طابع رسمي على هذه الحقبة الجيولوجية التي يشتبه في أنها حلت منذ سنوات عدة، بحسب جامعة ليستر”.

ولا يزال الطريق طويلاً قبل التصديق نهائياً على هذا العصر الجيولوجي الجديد، وقد يستغرق الأمر سنتين على أقل تقدير، وتجدر الاشارة الى ان محاولات إضافة “الأنثروبوسين” للسلم الجيولوجي لم تتولد فجأة ولم تنبع من فراغ، فقد ذاع مفهوم “الأنثروبوسين” والتأثير البشري على الأنظمة البيئية للكرة الأرضية بصفة عامة، ضمنيا لما يقرب من نصف قرن تقريبا ضمن الأدبيات العلمية، وفي نقاشات وأبحاث العلماء المتخصصين.
ومع ذلك فإن صياغة واستخدام مصطلح “الأنثروبوسين” بصفة رسمية لم تتم ولم تنتشر إلا منذ وقت قريب نسبيا، الا ان البداية كانت من عالم المناخ الهولندي الأصل بول كروتزين الحائز على جائزة نوبل في الكيمياء عام 1995، الذي نشر في بداية الألفية الثانية أكثر من ورقة علمية في مجلة nature وغيرها من المجلات العلمية العالمية المرموقة، خلصت جميعها إلى “أن البشرية قد أحدثت تغيرات كبيرة على وجه الأرض، بحيث أصبحت البصمة البشرية واضحة على جميع الأنظمة البيئية الحالية، بل وعلى الطبقات الترسيبية والسجل الجيولوجي لكوكب الأرض”، واعتبر انه “أصبح من الأنسب التحدث عن عصر جيولوجي جديد، يمثل فيه العنصر البشري دور اللاعب الرئيسي، تماما مثلما كان الحال مثلا أيام العصر الجيوراسي، حينما كانت الديناصورات والزواحف الضخمة تسود الأرض وكل المخلوقات الأخرى”.

وقد أُطلق كروتزين اسم “الأنثروبوسين” على هذا العصر، أي العصر الذي صنعه الإنسان، مقترحا وضع نهاية القرن الثامن عشر كحد فاصل بين العصر الجديد وعصر الهولوسين، وهذا على اعتبار أن هذا التاريخ يمثل انطلاق الثورة الصناعية، وبداية التحول الجذري في العلاقة الكائنة بين الإنسان والبيئة المحيطة. لكن عدداً آخر من العلماء اعتبر أن العصر الجديد قد بدأ فعليا قبل ذلك بوقت طويل، وتحديدا مع بوازغ الثورة الزراعية حينما بدأ البشر زراعة الأرض وتدجين الحيوانات.
بالعودة الى تفاصيل العصر الجديد، فهو يتميّز بتقلص دور العوامل والدورات الطبيعية في تشكيل أنماط الحياة وطبقات الأرض الترسيبية، كما كان الحال إبان الحقب والعصور الجيولوجية الأخرى القديمة، كالعصر الكربوني مثلا الذي بدأ قبل 300 مليون سنة ضمن حقبة الحياة القديمة. وقد تميز بسيادة المناخ الاستوائي، مما أدى إلى ظهور الأشجار البدائية الكبيرة، وانتشار الحشرات المجنحة والمرجانيات.
في هذا السياق، كان الدكتور مفضل قد اشار الى ان “عصر الأنثروبوسين الجديد يتميز أيضا بزيادة تأثير الأنشطة البشرية، ودور الجنس البشري عموما في تغيير أحوال البيئة والمناخ وجميع الأنظمة الحيوية في كامل انحاء المعمورة”.

الدكتور مفضل كان ثابتاً في انتقاداته للاعمال البشرية المضرة بالبيئة، واشار في اكثر من مقال الى انه “بغض النظر عن المسميات وعن الجدال والنقاش الدائر حول جدوى إضافة عصر جديد للسلم الجيولوجي من عدمه، وحول تاريخ بدايته، فالثابت أن الإنسان قد تدخل في كل شيء وغيَّر من كل شيء، بداية من التربة السطحية مرورا بالبحار والمسطحات المائية، وحتى طبقات الجو العليا”، واكد ان “التأثيرات البشرية القائمة في العصر الحالي سواء سمي بالأنثروبوسين أو ظل جزءا من الهولوسين، فاقت كل الحدود وأن مستقبل الأرض والبشرية نفسها أصبحا حقيقة في خطر”.

وقد علّل رأيه بأن “مشاكل مثل الاحتباس الحراري وزيادة وتيرة المجاعات والعواصف وانتشار الأمراض الوبائية والفيضانات وتصحّر الأراضي وحموضة البحار وفقد التنوع الإحيائي وغيرها، ترجع في الأساس إلى زيادة الضغوط البشرية على الموائل والنظم الطبيعية، وهي بغض النظر عن محركاتها، تتسبب في هلاك آلاف البشر والكائنات الأخرى يوميا، سواء كان هذا بشكل مباشر أو غير مباشر”.

تحديات البشر تزداد يومياً للحفاظ على الحياة في هذه الارض، وان كان التطلّع اليوم نحو استكشاف كواكب أخرى للعيش فيها، الا ان التغيرات المناخية الحاصلة، أدّت الى انقراض اعداد كبيرة من الحيوانات، الحشرات وحتى الاماكن والجزر، وبالتالي، فإن الحذر وتدراك التداعيات بات من الضروريات لضمان عدم انقراض “الانسان” ايضاً.

الناشر: الشركة اللبنانية للاعلام والدراسات.
رئيس التحرير: حسن مقلد


استشاريون:
لبنان : د.زينب مقلد نور الدين، د. ناجي قديح
سوريا :جوزف الحلو | اسعد الخير | مازن القدسي
مصر : أحمد الدروبي
مدير التحرير: بسام القنطار

مدير اداري: ريان مقلد
العنوان : بيروت - بدارو - سامي الصلح - بناية الصنوبرة - ص.ب.: 6517/113 | تلفاكس: 01392444 - 01392555 – 01381664 | email: [email protected]

Pin It on Pinterest

Share This