في آخر حُشبة أو حوشيب، كما يسميها أبو غنام حمية، يقف الرجل التسعيني أمام النهر، يضع يده اليسرى على أنفه لرد الروائح، فيما يمد اليمنى نحو الليطاني ليقول: «معقول يعيش بو غنام ليرجع يغسل إيديه بالنهر أو يشرب منه؟».
ولد أبو غنام «مع النهر» كما يقول: «من جدي لأبي إلي فإلى أحفادي». يقول إنه تعلم السباحة بين ضفتيه، فيما ينظر إلى احفاده المتجمعين حول العين التي جفت على مصطبة داره ليضيف «هودي معترين، ما عرفوا شي من النهر والحياة عليه إلا المرض والروايح ومية المجارير».
تعرف أبو غنام على زوجته الحاجة فاطمة عبد الكريم حمية، التي تعرف عن نفسها باسم أبيها، على النهر. لم يكن بالإمكان قطع الليطاني إلا عبر تسلق الأشجار والعبور على اغصانها المتشابكة من ضفة إلى أخرى. يومها كانت فاطمة الفتية «تعربش» من غصن إلى آخر، فأثارت إعجاب أبو غنام بشجاعتها و «شطارتها».
تزوج أبو غنام من فاطمة وبنيا منزلاً لا يبعد عن ضفة النهر أكثر من عشرين متراً. قالت له يومها: «خلينا نبعد شوي أحسن ما يصيروا الأولاد يغرقوا بالنهر».
كان أبو غنام «شيخ ربعة» كما تصفه الحاجة. يأتيه الضيوف من بيروت وكل لبنان. يصطادون السمك والبط والطيور النهرية ويكمنون لـ «الدرغل والفري».
من حول أبو غنام تمتد أراضيه بمواسم المقتى والبصل التي تركت بـ «أرضها». يقول الرجل إن «حواشها» لن يرد كلفتها بعدما صارت أسعارها بـ «الأرض».
وحدها عين النفاخ التي بنى منزله في حرمها، ومعها عين الغسيل كانتا ترويان 500 دونم من الأرض وتفيضان على الليطاني. اليوم تَصُفُّ العائلة الغالونات البلاستيكية على طرف مصطبة الدار لتخصص موازنة شهرية لشراء المياه. كانت «حوشيب»، وفق أبو غنام، عاصمة الينابيع في غرب بعلبك. اليوم، يقول الرجل «أن ضرب كبريت واحد كفيل بإشعال المنطقة»، نظراً إلى الجفاف والتصحر واليباس الذي ضربها.
ينهي أبو غنام روايته الحزينة باقتراح يؤلمه: «من روحي من جوا» كما يقول: «فليغيروا اسم النهر إلى نهر الريحة أو النهر القاتل». لم يكن الرجل يتوقع أن ينهي حياته الجميلة بالسكن على مجرور طويل من المياه الآسنة ومياه المصانع القاتلة. «لم أعرف تلك الدولة، حتى أني لم أزر بيروت، ولكنها قتلتنا»، يقول وهو يطلب من الحاجَّة ان تقفل النوافذ والأبواب وتضع دواء لطرد البرغش والذباب.

الناشر: الشركة اللبنانية للاعلام والدراسات.
رئيس التحرير: حسن مقلد


استشاريون:
لبنان : د.زينب مقلد نور الدين، د. ناجي قديح
سوريا :جوزف الحلو | اسعد الخير | مازن القدسي
مصر : أحمد الدروبي
مدير التحرير: بسام القنطار

مدير اداري: ريان مقلد
العنوان : بيروت - بدارو - سامي الصلح - بناية الصنوبرة - ص.ب.: 6517/113 | تلفاكس: 01392444 - 01392555 – 01381664 | email: [email protected]

Pin It on Pinterest

Share This