يجلس رئيس بلدية حوش الرافقة علي يزبك إلى سفرة الغداء فيما يحيط به ثلاثة أطفال يبدون أحفاده وليس أبناءه. في صدر صالون داره المفتوح على الطريق العام في بلدته، وُضعت صورة لشاب في الأربعين من العمر. الصورة مذيلة بـ «لن ننساك يا فقيد الشباب» لا تقول شيئاً، إذ تجد الكثير من مثيلاتها في قرى البقاع والجنوب ممن سقطوا سواء في القتال ضد إسرائيل أو في سوريا.
لحظات وتعرف أن ابن رئيس البلدية «شهيد» إهمال الدولة كما غيره من خمسة وأربعين مصاباً بالسرطان في حوش الرافقة وحدها، وتعلم أن الأطفال إلى سفرة الغداء هم أولاد «الشهيد» الذين يربّيهم جدهم. الطبيب المعالج نفسه قال إن الإصابة بسرطان الرئة ناتجة عن التلوث الكثيف. هو أحد ضحايا التلوث الذي بدأت آثاره الصحية تتبلور منذ العام 2005.
أرقام الإصابة بالسرطان وثّقتها البلدية، كما الدراسة التي ينفذها فريق من الجامعة الأميركية في بيروت بإشراف الدكتور اسماعيل سكرية. توفي في البلدة 19 مصاباً بالسرطان مؤخراً فيما يصارع الباقون مرضهم «والحبل ع الجرار» وفق يزبك. بعض المرضى لم يكتفوا بالإشارة إلى المرض بـ«الخبيث» أو بـ«هداك المرض»، بل أضحوا يتكتمون على إصاباتهم حتى، يقول يزبك.
سميت البلدة بحوش الرافقة لأنها كانت تتمتع بثروة زراعية طائلة. كانت أراضي أهلها «الرافقين على أوضاعهم المالية» تقلب ثلاثة مواسم زراعية في العام: تحصد القمح فتبذر الفاصوليا ثم تختم باللفت، كما يؤكد يزبك. وعلى هامش المواسم الرئيسية الثلاثة كانت تزرع البطاطا ومختلف أنواع الورقيات والبصل وما يكفي أهلها من خضار.
لم تعرف حوش الرافقة الأشجار المثمرة بالمعنى الواسع. درجة حرارة طقسها التي تراوح شتاء ما بين صفر إلى ستة تحت الصفر تقتل البراعم وتفشل محاولات استثمار الأراضي بالفاكهة. لم تكن البلدة التي يصل تعداد سكانها إلى عتبة تسعة آلاف نسمة تغرق في «الفقر أو البطالة». كان الليطاني الذي يفج أرضها نصفين يروي نحو ألف دونم على الجانبين، فيما كان نبع الغسيل الهادر من أسفل السفري لناحية السلسلة الشرقية يهدر إليها بخيراته قاصداً الليطاني فيروي نحو ثلاثة آلاف دونم دون أن يتأثر تدفقه.
حلّت أواخر التسعينيات وبدأت حوش الرافقة وأهلها رحلتهم إلى الموت والفقر والبطالة والأمراض. حوّلت السلطات المعنية في الدولة مجاري البلدات ما قبل الحوش إلى الليطاني من حزين وبريتال والحمودية وطليا وطاريا إلى كامل الشريط في غربي بعلبك وصولاً إلى شمسطار وبيت شاما والعقيدية وحوش النبي وحوش سنيد ثم بدنايل بعد مجارير حوش الرافقة نفسها ومعها تمنين التحتا. وفي حوش الرافقة نفسها هناك أربعة معامل تصبّ نفاياتها الصناعية في النهر ومحطتا وقود.
جففت الآبار الارتوازية التي لجأ إليها المواطنون لتعويض تلوّث النهر وقلة مياهه، جففت الينابيع وروافد الليطاني. وجف نبع الغسيل بكل بركاته على الحوش، وتحوّل مجراه هو الآخر إلى مكان آسن ومرتع للنفايات والتلوث.
ماتت الأشجار المائية على ضفة النهر ومعها القصب و«الحلفا» والأعشاب المائية في حوش الرافقة وفقد الأهالي «روضتهم» التي كانت تشكل متنفساً في يومياتهم. بدأ أهل حوش الرافقة رحلتهم في البحث عن مصادر مياه لم يعرفوا أنها ستكون سبباً إضافياً لأمراضهم. فالأرض التي تشبّعت بمياه الليطاني الذي يمرّ في منتصفها تقريباً ليُقسمها إلى جزءين، أخرجت لهم مياهاً ملوثة حتى من الآبار العميقة. يقول يزبك إن الماء خرج أسود وبروائح كريهة. لم يعُد نهر الليطاني نهر الخير والبركة بل صار شؤماً تتمنّى البلدة وأهلها الخلاص منه أو حتى عبوره في خراجها كما هو حاصل في بلدات أخرى. تلك النعمة التي كانت حوش الرافقة محسودة عليها صارت نقمة، بكل ما تحمل الكلمة من معنى.
يقول أهالي حوش الرافقة إنه على الدولة معالجة هذا الوضع المأساوي، وإلا فإنهم سيحزمون أمتعتهم جماعياً ويتهجّرون ليضعوا المسؤولين أمام الأمر الواقع. ليس هذا فقط، بل إن ري الأراضي في الحوش تحوّل إلى مشكلة كبيرة في ظل عدم وجود ماء غير الصرف الصحي والصناعي في النهر، كما المياه السوداء الملوّثة في الآبار. وعليه، يعيش أهالي حوش الرافقة على الروائح الكريهة المنبعثة من الليطاني طيلة أيام السنة، خصوصاً من الربيع ولغاية الشتاء مروراً بالصيف. ويستعملون مياه النهر الآسنة والصناعية مع الآبار الملوّثة للري والخدمة المنزلية، ثم يتناولون الخضار الملوّثة بالمعادن الثقيلة والمبيدات الزراعية غير المراقبة. وعليه «لدينا كل أسباب المرض والموت من دون أن يلتفت إلينا أحد»، كما يقول أبو خالد الذي تهجّر من منزله على ضفة الليطاني إلى أعالي بلدته على الحدّ مع حوش النبي.