المرة الأولى التي كتبت فيها عن محاولات ردم شاطئ كفرعبيدا، كانت في تشرين الأول (أكتوبر) عام 2009، في ذلك الوقت نجحت حملة اهلية وشعبية واعلامية واسعة النطاق في تعطيل أوسع حملة لردم البحر في شمال لبنان، وفي وقف مجموعة من المراسيم التي تطوع من أجل تمريرها اكثر من وزير ونائب، قبل ان تتعارض مصالحهم ويقف جزء منهم ضد مشروع ردم شاطئ كفرعبيدا، الذي انطلق العمل على تمريره في العام 2007.
بعد سبع سنوات على محاولات الاغتيال المتكررة التي نجا منها شاطئ كفرعبيدا، تطل “شركة إنماء الشواطئ اللبنانية” برأسها مجدداً، شاهرة جرافاتها بوجه هذا الشاطئ، الذي يعد الاجمل على طول الساحل اللبناني.
ويشتمل شاطئ كفرعبيدا على نتوءات صخرية طبيعية وبرك بحرية وكهوف صغيرة يعود عمرها إلى آلاف السنين. ويمثل هذا الكيان الطبيعي، إضافة إلى رأس الشقعة والمنطقة القائمة بين البياضة ورأس الناقورة، آخر الشهود على ما كان عليه المنظر الطبيعي على الشاطئ قبل تعرضه لضغوط حركة العمران.
لماذا الآن؟ تفيد المعلومات ان موافقة مجلس الوزراء في جلسته الاخيرة على مشروع مرسوم يرمي الى تعديل خريطة المرسوم النافذ حكما رقم 955 تاريخ 21/11/2007، المتعلق بإشغال أملاك عمومية بحرية في منطقةكفرعبيدا العقارية وفقا لرأي وزارة المالية، لم يكن ليمر لولا تغيب وزير الخارجية جبران باسيل عن الجلسة.
فهذا المرسوم المدرج على جدول اعمال المجلس منذ فترة طويلة جداً، كان يقابل دائماً بفيتو وزراء التيار الوطني الحر، “الحماسة البرتقالية” ضد مشروع ردم الشاطئ في كفرعبيدا ، تتخذ طابع الخصومة المناطقية والسياسية مع وزير الاتصالات بطرس حرب المتحمس للمشروع والداعم له.
هذا في مجلس الوزراء، اما لناحية الشركة، فتفيد المعلومات ان اصحاب “شركة إنماء الشواطئ اللبنانية” قد تراجعوا عن المشروع في الفترة السابقة لاسباب عائلية، قبل ان ينجح الورثة في استعادة زخم نشاطهم الاستثماري، ويعودون الى طرح تنفيذ المرسوم “الاسود” الذي يحمل الرقم 955، والذي يعتبر وصمة عار على جبين كل من وزارة الاشغال العامة التي اجازته، ووزارة البيئة التي توهمت وأوهمت لجهة إمكانية تقليل ضرره من خلال تعديلات طالبت بإدخالها على خرائط المشروع، عبر دراسة الاثر البيئي، فوقعت “عن قصد” في المحظور، ووافقت حكماً على المس بشاطئ أوصت الخطة الوطنية لترتيب الاراضي بحمايته.
الحملة الاعتراضية ضد المشروع تتوسع، وسوف تعبر عن نفسها من خلال وقفة اعتراضية تحت عنوان “انقذوا كفرعبيدا” يوم السبت المقبل. ويتوقع ان يشهد هذا النشاط مشاركة كثيفة من مختلف المناطق اللبنانية، بمشاركة من اهالي المنطقة الرافضين للمشروع، اضافة الى جمعيات أهلية وبيئية.
اذاً، وفي وقت كان ينتظر اهالي كفرعبيدا إعلان شاطئهم محمية بحرية، تطوعت مجموعة من القوى السياسية وبمباركة من المجلس البلدي السابق والحالي من أجل “احياء” مراسيم ساقطة حكماً، لانه لم يتم تنفيذها ضمن المهل المحددة.
تعود قصة ردم شاطئ كفرعبيدا الى العام 2007، حين نجحت “شركة إنماء الشواطئ اللبنانية” في الحصول على مرسوم حكومي يجيز ردم 37 ألف متر من الشاطئ. بعد سنتين على تشريع “الجريمة”، قلصت وزارة البيئة مساحة الردم إلى 4 آلاف متر، في محاولة اعتبرتها الوزارة خطوة انقاذية، لكن هذه الخطوة لم تعجب الشركة الاستثمارية، وتداخلت مجموعة من العوامل أدت الى وقف المشروع.
ويمثّل المرسوم الرقم 955 الصادر في الجريدة الرسمية بتاريخ 23/11/2007 والذي يرخص بإشغال 37026 متراً من الأملاك العمومية البحرية في كفرعبيدا، نموذجاً للصفقات السياسية التي مُرّرت في مجلس الوزراء خلال أزمة الحكم التي امتدت منذ الاستقالة الجماعية لوزراء المعارضة عام 2006، وصولاً إلى “اتفاق الدوحة”.
جاء هذا الترخيص بناءً على استدعاء تقدمت به “شركة إنماء الشواطئ اللبنانية”، التي تمتلك ثلاثة عقارات على شاطئ كفرعبيدا تبلغ مساحتها الإجمالية 19357 متراً. ولقد سلك هذا الاستدعاء بسرعة طريقه في أروقة وزارة الأشغال العامة والنقل، ومر سريعاً على المجلس الأعلى للتنظيم المدني، ليجد طريقه إلى الإقرار في مجلس الوزراء، في الفترة التي كان رئيس الجمهورية الاسبق العماد إميل لحود، يرفض التوقيع على القرارات التي كانت ترده من مجلس الوزراء باعتبارها غير دستورية. لكن “غير دستوري” ليست الصفة الوحيدة التي يمكن أن تُلصق بجلسة مجلس الوزراء المنعقد بتاريخ 4/6/2007. فقرار إعدام شاطئ كفرعبيدا الذي اتخذ في هذه الجلسة هو نموذج لقوننة سرقة الساحل اللبناني، والتفريط بحق اللبنانيين بالوصول إلى كل الشواطئ التي تزيّنه وتحميه، وخصوصاً أن شاطئ كفرعبيدا هو واحد من أجمل المواقع الطبيعية وأندرها على المتوسط.
تعرض شاطئ كفرعبيدا لبعض التعديات خلال فترة الحرب الأهلية، لكن التعدي الأكبر الذي تخطط له “شركة إنماء الشواطئ اللبنانية”، يقضي بردم مساحات واسعة من البحر لإقامة كاسري أمواج يغطيان كامل المنطقة المنوي الاستثمار فيها، وطمر الشاطئ الصخري وتحويله إلى رملي وإقامة مرفأين للمراكب السياحية، على غرار تلك التي أقيمت في الضبية والنورمندي، علماً بأن الخطة الشاملة لترتيب الأراضي توصي بالحفاظ على مجموعة من المواقع الساحلية ضد أي تغيير في هيئتها الأصلية، ومن ضمنها شاطئ كفرعبيدا الذي أجاز مجلس الوزراء ردمه وتغيير معالمه واستملاكه من شركة خاصة.
المخالفة الاولى التي اقدمت عليها “شركة إنماء الشواطئ اللبنانية” انها لم تعرض مسبقاً خرائط المشروع على وزارة البيئة للحصول على موافقتها قبل اقرار مرسوم اشغال الاملاك العامة البحرية. وهذا الأمر يخالف التوصية التي تقدم بها المجلس الأعلى للتنظيم المدني الذي طالب بأن تجري دراسة الأثر البيئي للمشروع، بإشراف وزارة البيئة قبل صدور مرسوم الترخيص. لكن وزير الأشغال العامة الأسبق محمد الصفدي، المتسلح بعدم الزامية دراسة الاثر البيئي في حينها، آثر منح الترخيص بصيغته المقدمة من الشركة، وطلب منها تقديم دراسة تقييم أثر بيئي وإخضاعها لموافقة وزارة البيئة، قبل البدء بتنفيذ الأشغال. واليوم يجري تكرار هذا المخالفة، ولكن بشكل اكبر من قبل، اذ انه رغم الزامية دراسة الاثر البيئي من الناحية القانونية، يجري محاولة لتمرير المشروع بالاستناد الى الدراسة السابقة، في مخالفة لنص المادة 13 من المرسوم 8633 “أصول تقييم الأثر البيئي” الصادر في آب (أغسطس) 2012 التي تعتبر ان تقرير دراسة الاثر البيئي النهائي الصادر عن وزارة البيئة يعتبر صالحاً لمدة سنتنين في حال لم تتم المباشرة بتنفيذ المشروع، وعلى الوزارة بعد ان يبدي صاحب المشروع رغبته باستكماله ان تتحق من دخول عناصر جديدة تدعو لاجراء دراسة تقييم اثر بيئي جديدة او الفحص البيئي المبدئي مجدداً.
ومن المعلوم أن دراسة الأثر البيئي لأي مشروع استثماري يستند إلى التصاميم الهندسية التي تضعها الشركة المتعهدة، وفي حالة مشروع كفرعبيدا، فإن التصاميم لم تكن أصلاً مطابقة للشروط البيئية، لذلك فإن فريق وزارة البيئة خاض جولات عديدة من النقاش مع أصحاب المشروع ومع الشركة الهندسية المتعهدة من أجل التعديل في التصميم الأساسي.
وارتكبت وزارة البيئة خطيئة القبول بهذا المشروع تحت قاعدة تخفيض اضراره، علما ان هذا الامر مستحيل تنفيذه مهما اجريت تعديلات هندسية للمشروع. ومن التعديلات التي أدخلها فريق الوزارة على التصميم، إلغاء المرفأ الخاص برسو المراكب السياحية، وإلغاء الشاطئ الرملي المنوي إنشاؤه، والإبقاء على طبيعة الشاطئ الصخرية. وإلغاء كاسر الأمواج الخاص بالشاطئ الرملي بالكامل، وتقليص عرض كاسر الأمواج الخاص ببرك المياه الطبيعية وارتفاعه، إذ أصبحت مساحة كاسر الأمواج الجديد تعادل 30 بالمئة من المساحة الأساسية الواردة في الخريطة المرفقة بالمرسوم الصادر عن مجلس الوزراء. كما تضمن المخطط الجديدة إضافة 17 غرفة خشبية عائمة (Floating Bungalows) مع جسور وأرضيات خشبية على غرار تلك الموجودة في المشاريع السياحية في جزر المالديف. وبذلك تصبح الأملاك العمومية البحرية المجاز ردمها لا تتجاوز 4 آلاف مترا مربعا، من أصل الأملاك العمومية البحرية المرخص إشغالها من مجلس الوزراء والبالغة 37 ألف متر مربع.
نجحت مجموعة من العوامل حينها في عدم تنفيذ المشروع ضمن المهلة القانونية، وبذلك اصبح مرسوم الترخيص باطلاً لأسباب عديدة. فلقد أعطيت رخصة المشروع لمدة سنة واحدة قابلة للتجديد ضمناً، ولم تقم الشركة بالتجديد حسب الأصول المتبعة. كما أن المادة الرابعة اشترطت المباشرة بإقامة كل الردميات المخصصة للسنسول في الأملاك العمومية البحرية خلال مدة ثمانية عشر شهراً من تاريخ صدور هذا المرسوم. أما المادة الثالثة عشر فاشترطت حصول الشركة على ترخيص بالسماح بعبور طريق بيروت ــــ طرابلس الساحلي بواسطة نفق أو جسر، من أجل وصل عقارين كبيرين تملكهما في منطقة متاخمة للشاطئ مع العقارات التي تملكها على الشاطئ مباشرة. وبالفعل فلقد صدر مرسوم آخر يحمل الرقم 1020 بتاريخ 3/4/2008 يجيز إقامة هذا النفق، ضمن مهلة أقصاها سنة واحدة قابلة للتجديد ضمن مهلة شهرين فقط. وقد انقضت السنة ومهلة الشهرين للتجديد ولم تتقدم الشركة بطلب التجديد. وبذلك، يصبح مرسوم إشغال الأملاك العمومية ومرسوم إنشاء النفق باطلين حكماً. لكن “شركة إنماء الشواطئ اللبنانية” لا تكل ولا تمل، وها هي تنجح مجدداً في تجديد العمل بالمرسوم “الاسود” رقم 955 بعد موافقة الوزارات المعنية ومن ضمنها وزارة المالية!
ومن المتوقع ان يواجه المشروع اعتراضاً جديداً يقدم إلى مجلس شورى الدولة، ويضاف الى سلسلة طعون ومراجعات تقدمت في السابق.
ويطالب أهالي المنطقة والجمعيات البيئية بوقف المشروع برمّته، وصدور قانون يحمي الشاطئ في كفرعبيدا من جشع الشركات الاستثمارية التي لا تزال تبحث عن مخارج جديدة في أروقة الوزارات، وبدعم من عدد من النواب ورئيس البلدية طنوس الفغالي، الذي جدد ولاية جديدة لرئاسة المجلس البلدي في كفرعبيدا، علم ان الاخير له مآثر في التعدي على شاطئ البلدة حيث اقدم في العام ٢٠١٣ على اجازة استخدام جرافة لردم الشاطئ الصخري المقابل لمنتجع Playadorada، حيث أفرغ في المكان أتربة وحصى حوّلت الشاطئ الى مستنقع موحل، بذريعة ان المشروع مرخص من قبل وزارة الأشغال تحت مسمى “تأهيل الشاطئ”، قبل ان تبادر الوزارة لاحقاً الى وقف المشروع بعد إثارته في وسائل الاعلام.