بعد أن انتهت إناث قرود الـ “بونوبو” Bonobo في غابات “وامبا”  Wambaفي جمهورية “الكونغو الديموقراطية” the Democratic Republic of Congo من وجبة الإفطار، وكن يتجهزن لقيلولة قصيرة فوق الأشجار، وتحويل الأغصان إلى أسِرَّة نوم مريحة، كانت إحدى الإناث الصغيرات في السن في حالة شبق جنسي، وتتميز هذه الحالة بردف متورم بلون وردي استثنائي، وتحمس نتيجة لذلك أربعة من الذكور في المجموعة، وحاولوا التحرش بها، وتوالوا بالهجوم عليها والصراخ والتدلي من الأشجار، واستعراض أعضائهم الذكورية المنتصبة أمامها، في محاولة للتزاوج معها بالقوة.

عندها، وبشكل مفاجئ، صعدت ثلاث إناث أكبر سنا وأعلى تراتبيا وسلطة في المجموعة من الأنثى الفتية، مظهرات الغضب بأرجحة الأطراف ورفع فرو رؤوسهنّ الأسود، واندفعن جنبا إلى جنب مع الأنثى الصغيرة في هجوم وبضراوة على الذكور الأربعة، الذين ابتعدوا وتفرقوا، مع ارتفاع حدة صراخهم بشكل يصم الآذان، ليهرب ثلاثة منهم وتحاصر الإناث أحدهم وهو الذكر المسيطر الذي يسمى الذكر ألفا alpha male، المتمتع بصحة جيدة وجسد عضلي ويفوق أي من خاطفاته (الإناث) وزنا بحوالي 9 كيلوغرامات، ليهاجمنه، فيسقط من الشجرة ويهرب، ولم يظهر مجددا إلا بعد ثلاثة أسابيع وكان قد فقد أحد أصابع قدميه، هذه الرواية سردتها الباحثة الرئيسية اليابانية ناهوكو توكوياما Nahoko  Tokuyama  من معهد أبحاث الرئيسيات في  جامعة كيوتو في اليابان، خلال دراسة ميدانية، ويمكن مشاهدة ما حصل في مقطع الفيديو التالي.

وقالت توكوياما في رسالة “أن يُكْرَه الذكور بهذا الشكل من قبل الإناث هو أمر شديد الأهمية بالنسبة لهم”، وعلى الرغم من أن حادث قطع أخمص القدم كان متطرفا إلى حد ما، ولكنه ليس حادثا  فريدا من نوعه، وفي سياق الدراسة، وصفت توكوياما هذه الملاحظات بشكل مفصل في عدد سبتمبر (أيلول) من دورية “سلوك الحيوان” Animal Behaviour، وذكرت وزميلها تاكيشي فورويتشي Takeshi Furuichi أن إناث البابون أو البونوبو تتجمع في كثير من الأحيان معا لدرء عدوان الذكور، وفي أنماط تختلف وتتحدى المعايير المعروفة لدى الرئيسيات بشكل عام، كون بقية الأنواع يسيطر فيها الذكور لا الإناث.

 

البونوبو والسيطرة الأمومية

 

البونوبو أو البابون، ويسمى أيضا “الشمبانزي القزم”pygmy dwarf chimpanzee وهي تسمية خاطئة، وهي من الرئيسيات المدهشة لأسباب عدة، بالإضافة إلى أنها تعيش في جماعات تهيمن عليها الإناث، نجد في البحث الأخير أن طبيعة البابون الأخوية sororal  والسند الأخوي بين الإناث اعتمادا على الظروف، هو الرادع الأكثر فعالية لتحرش الذكور.

والمثير للدهشة بشكل ملحوظ، تعاون الشريكات الإناث في حشد أنفسهن، على الرغم من غياب أي روابط دم أو حتى صداقة وثيقة بينهن، خصوصا وأنه يتوجب على إناث البابون مغادرة أماكن ولادتها قبل سن البلوغ، وإيجاد مجموعة اجتماعية أخرى للانضمام إليها، وهو ما يعني أن أيا من الإناث البالغات في مجتمع البونوبو لا يمتون لبعضهن البعض بصلة، كما أن إناث البابون نادرا ما يقمن علاقات مع إناث نشأن معهن (أي تعاملن معهن، وقمن بتنقية وتفلية بعضهن البعض من الحشرات)، بل وجد الباحثون أن هذه التآلفات تحدث عندما تميل الأنثى الأكبر سنا لمساعدة أنثى صغيرة عند هجوم ذكر مقيم في المجموعة، وبهذا تظهر أنها الأنثى المسيطرة وفي أوج سلطتها وتشق طريقها نحو السيادة، وأضافت توكوياما “ربما اكتشفنا طريقة تبوّء الأنثى الرئيسية السلطة”.

وخلال أربع سنوات من المراقبة، وجد الباحثون أن جميع الائتلافات بين الإناث تشكلت لمهاجمة الذكور، وعادة ما تحدث بعد تصرف الذكور بعنف نحو واحدة أو أكثر من الإناث، ووجدوا أيضا أن الإناث الأكبر سنا لديهن فرص أفضل للفوز على الذكور.

وتضيف هذه النتائج عمقا وتعقيدا في فهم القرد الرشيق الغامض ذي العيون السوداء البونوبو”بان بنيسكس” Pan paniscus والذي لا يعيش سوى في جمهورية الكونغو الديموقراطية والمهدد بالإنقراض بشكل كبير، وتنتمي قردة البونوبو إلى نوع شقيق للشيمبانزي “بان تروغلويدتز” Pan troglodytes، وعلى الرغم أن النوعين يشتركان في كونهما من الرئيسيات الأقرب للبشر، إلا أن الشيمبانزي اتبع مسارا سلوكيا تطوريا مختلفا، حيث يهيمن الذكور على مجتمع الشيمبانزي ويتميز بروابط قوية بين الذكور وعلاقات ضعيفة بين الإناث، وعلى النقيض من ذلك، ففي مجتمع قردة البونوبو تسود الصداقة بين الإناث بينما تضعف الروابط بين الذكور.

 

نظاما أموميا

 

وقالت عالمة الرئيسيات في جامعة جنوب كاليفورنيا the University of Southern California إيمي باريش  Amy Parish”في عالم البونوبو، على نقيض الشيمبانزي، تسود المودة بين الإناث، في حين أن الروابط بين الذكور ضعيفة”، وأضافت: “انه نظام أمومي، فالإناث يسيطرن على المشهد”.

وقالت توكوياما في هذا المجال أن “هذا يعطي الأنثى المسيطرة مجموعة من الإناث الفتيّات اللاتي يحتمين بها فرصا أكبر ليتزاوج إبنها منهن، وهذا النمط من الشراكات في الحقيقة قد يكون العامل نفسه الذي يعزز الإلفة والتسامح بين الإناث”.

وقال عالم الرئيسيات في جامعة أريزونا الحكومية Arizona State University جون سيلك “أتخيل أحيانا أن البونوبو، تجلس في الليل تقرأ الإكتشافات عن الرئيسيات لتقوم بفعل نقيضها تماما”، وأضاف:”إنها حيوانات غير عادية للغاية”.

وتشتهر هذه القردة بفرط الرغبة الجنسية، فضلا عن استخدامها للجنس باعتباره حلا للمشاكل، وفي كل الحالات، وبشكل تبادلي وتشاركي، فعلى سبيل المثال عندما يحصل أحد أفراد البونوبو على قطعة فاكهة كبيرة وترتفع حدة التوتر على أولوية التغذية، فإنه يفرك أعضاءه التناسلية بأعضاء الآخر، وتحدث هذه الأفعال بين الجميع دون تمييز الذكور والإناث، والذكور والذكور، والإناث والإناث وبين اليافعين والبالغين أيضا.

ووفقا لتقرير صدر العام الماضي من معهد ماكس بلانك لعلم الأنثروبولوجيا التطوريMax Planck Institute for Evolutionary Anthropology ، في ألمانيا، أشارت الباحثتان باميلا دوغلاس Pamela Douglas وليزا موسكوفيتشي Liza Moscovice إلى أن إناث البونوبو في غابة لوكوتيل LuiKotale في الكونغو تستخدم إيماءات جنسية معينة للتعبير عن رغبتها في علاقة بين أنثى وأنثى ،حيث تقوم الأنثى بالإشارة إلى الوراء نحو التورم الجنسي لديها، ثم تقوم بهز ردفيها لتتجاوب معها الأنثى الثانية.

وأضافت باحثة البونوبو في الجمعية الملكية لعلوم الحيوان في بلجيكا باربرا فروث Barbara Fruth “إنها حالة إقرار، وهنا كأن الأنثى تقر للطرف الآخر أنها أعلى رتبة منها، وكأنها تقول: أود الجلوس بالقرب منك وربما مشاركتك غذائي”، وأشار أستاذ الأنثروبولوجيا البيولوجية biological anthropologist في جامعة ولاية أوريغونThe University of Oregon فرانسيس وايت Frances White إلى أن “البونوبو يستخدمون قبلة اللسان، ويمارسون الجنس عن طريق الفم”، وشاهد وايت ذات مرة أنثى تستخدم عصا بشكل عقدي لتداعب نفسها، مضيفا: “إن تصرفات هذه القرود غير مناسبة للمشاهدة الأسرية دوما”.

 

القرد “الهيبي”

 

وهذه التصرفات الغريبة المثيرة لهذا النوع من القرود أكسبها لقب “القرد الهيبي” hippie apes، وهي تسمية يقول الباحثون أنها تعطي فكرة خاطئة عن الذكاء الإستراتيجي لهذه الرئيسيات وقدراتها الوحشية، وكانت الدكتورة باريش، قد درست البابون في الأسر، وشهدت مجموعة من الإناث المهيمنة تفرض قوتها على الإناث الأقل منزلة، فتفتح لها أفواهها لتخرج الطعام منها.

كما تناولت باريش حادثة في حديقة الحيوان في شتوتغارت في ألمانيا عندما هاجمت إثنتان من القردة ذكرا وقضمت قضيبه إلى النصف، قالت: “لحسن الحظ تولى جراح على الميكروسكوب microsurgeon إصلاح الأضرار واستطاع القرد التكاثر في ما بعد”.

مع ذلك، فإن البابون أقل عنفا من الشيمبانزي، والإناث يستفدن بشكل واضح من الحياة في ظل السيطرة الأنثوية، وفي حين لا يمكن للشيمبانزي الأنثى انتقاء واختيار الشريك من بين الذكور المتاحة، ويجب أن تتزاوج مع كل منهم، فإن البابون الأنثى يمكنها رفض الخاطبين دون خوف على حياتها، كما أن قتل الصغار أمر شائع بين الشيمبانزي، ولكن لم يلاحظ أبدا لدى البابون.

الناشر: الشركة اللبنانية للاعلام والدراسات.
رئيس التحرير: حسن مقلد


استشاريون:
لبنان : د.زينب مقلد نور الدين، د. ناجي قديح
سوريا :جوزف الحلو | اسعد الخير | مازن القدسي
مصر : أحمد الدروبي
مدير التحرير: بسام القنطار

مدير اداري: ريان مقلد
العنوان : بيروت - بدارو - سامي الصلح - بناية الصنوبرة - ص.ب.: 6517/113 | تلفاكس: 01392444 - 01392555 – 01381664 | email: [email protected]

Pin It on Pinterest

Share This