يدفع كثير من خبراء القانون الدولي باتجاه عرض المسؤولين عن الجرائم البيئية الكبرى على المحكمة الجنائية الدولية، هذا “الحلم” الذي راود المدافعين عن البيئة لسنوات طويلة، قد يصبح حقيقة بعد ان قررت المحكمة النظر في هذا النوع من الجرائم، في تحدٍ جديد لفعالية هذه المحكمة، التي تأسست في لاهاي في هولندا عام 2002، وذلك بعد التوقيع على ميثاق روما عام 1998.
هل يمكن اعتبار الجرائم التي تشمل التدمير البيئي والاستيلاء على الاراضي بحجة اقامة مشاريع استثمارية ضخمة، تؤدي الى هجر وتدمير موائل آلاف السكان، من الجرائم التي تدخل في نطاق المحكمة الجنائية الدولية باعتبارها جرائم ضد الانسانية؟ وبالتالي هل يجب ان يحاكم المسؤولون عنها امام هذه المحكمة؟
يستلزم البحث في المسؤولية الجنائية الدولية عن تلوث البيئة بالضرورة، إلى البحث عن دور القضاء الجنائي الدولي الذي ارسى دعائم المسؤولية الجنائية الدولية للأفراد، فضلاً عن بيان الدور الذي يلعبه القضاء الجنائي الدولي في ملاحقة ومحاكمة ومعاقبة مرتكبي الجرائم الدولية المتعلقة بتلوث البيئة.
وجهت الى المحكمة الجنائية الدولية العديد من الإنتقادات كونها فشلت في سوق المجرمين الى العدالة، بسبب نظامها الداخلي المحكوم بسيطرة مجلس الأمن الدولي، خصوصاً في حالة عدم مصادقة الدولة التي ارتكب الجرم فيها على نظام المحكمة. ورغم تسجيل العديد من الدعاوى في قلم المحكمة تشتمل على عناصر جرمية تتعلق بتدمير البيئة والمعالم الثقافية النادرة، فإن المحكمة امتنعت في السابق عن النظر في هذه الجرائم كونها لا تدخل ضمن اختصاصها.
ومن الامثلة التي يقدمها المتحمسون لتوسيع ولاية ونطاق المحكمة الجنائية الدولية لتشمل الجرائم البيئية، تلك التي تتعلق باليورانيم المنضب الذي استخدم من قبل الولايات المتحدة الاميركية في العراق، فمخاطر الاشعاعات الناتجة عنها تتجاوز بحسب الخبراء بمئة مرة مخاطر اشعاعات كارثة “تشرنوبل”.
النقلة النوعية في صلاحية المحكمة الدولية تجاه الجرائم البيئية، حدثت اول من امس، مع اعلان المحكمة انها سوف تضع في قائمة اولوياتها النظر الى الجرائم المصنفة في خانة “تدمير البيئة، استغلال المصادر الطبيعية، والسلب غير القانوني للاراضي”. وقدمت المحكمة اشارة صريحة الى ان الجرائم البيئية تشمل ايضاً الاستيلاء على الاراضي.
ولا يعني هذا الاجراء التوسيع في الصلاحيات القضائية الممنوحة للمحكمة بحسب اتفاقية روما فحسب، بل التوسع في تعريف وتصنيف الجرائم ضد الانسانية، لتشمل هذا النوع من الجرائم البيئية، والتي كان يجري استبعادها عن كونها جرائم ضد الانسانية في السابق.
وصدرت التوصية بضم الجرائم البيئية بناء على ورقة سياسات اصدرتها فاتو بنسودا المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية بعنوان “اختيار الدعاوى والاولويات”، وتقول بنسودا ان جرائم الاستيلاء على الاراضي اصبحت شائعة في العديد من المناطق حول العالم.
وترتكب هذه الجرائم من قبل الشركات الاستثمارية الخاصة بتسهيل ومساندة من قبل الحكومات المحلية، ما ادى الى مصادرة عشرات الملايين من الهكتارات خلال السنوات العشر الماضية. ولقد ادى هذا الامر الى تهجير الآلاف من الاشخاص والتسبب بجرائم ابادة ثقافية لمجتمعات السكان الاصليين. كما تضم ورقة السياسات العديد من الجرائم التي تعتبر المحكمة انها ستضعها ضمن اولوياتها، مثل جرائم الاتجار بالبشر، والارهاب، والاتجار بالسلاح، والجرائم المالية.
ولعل ابرز الامثلة على الجرائم البيئية سد Belo Monte الذي تنوي البرازيل اقامته، وتبلغ تكاليفه الإجمالية 14 مليار دولار. ويقع هذا السد الذي يعتبر أضخم موقع بناء في البرازيل على بعد 3000 كلم إلى الشمال في ولاية بارا وفي أعماق حوض الأمازون. وتقوم جماعات الخضر والسكان الأصليين من عرق “الأميرينديانز” بحملات احتجاج ضد هذا السد، وتقوم مجموعة مناهضة للمشروع تطلق على نفسها “زينغو فيفو” بعرض تعليقات ناقدة من مؤيدين لحملتها من شتى أنحاء العالم في مقر المجموعة الواقع في بلدة ألتاميرا. وقد قارن المخرج السينمائي الأميركي جيمس كاميرون بناة السد البرازيلي بأنهم يحاكون أشرار فيلمه الشهير الذي عرض تحت عنوان “أفاتار”.
ومن شأن الخطوة الجريئة من قبل المحكمة الجنائية الدولية، ان تؤدي قريباً الى سوق شركات القطاع الخاص الى العدالة بسبب الجرائم التي ترتكب من قبيل مصادرة الاراضي وتدمير الغابات وتسميم وتلويث مصادر المياه، خصوصاً في مشاريع التنقيب عن النفط وبناء السدود، وغيرها من المشاريع التي تسبب تدميراً واسعاً للنظم البيئية.
وهذا يعني ان ما كان يعتبر سابقاً مجرد سعي لتحقيق الارباح في وقت السلم، قد يرقى الى اعتباره مشابه للجرائم ضد الانسانية التي ترتكب في اوقات الحروب.
ومؤخراً رفع المحامي Richard Rogers دعوى امام المحكمة الجنائية الدولية بالنيابة عن عشرة مواطنين كمبوديين، يدعون ان شركات القطاع الخاص في البلاد وبالتواطوء من الحكومة المركزية قد ارتكبت جرائم بيئية ادت الى مصادر اراضي ما يقارب ٣٥٠ الف شخص منذ العام ٢٠٠٢. ومن المتوقع ان تشكل هذه الدعوى في حال بدأت المحكمة بالنظر فيها، اولى الدعاوى القانونية التي تناقش تحت قوس محكمة لاهاي، من منظار الجرائم البيئية التي ترقى الى مصافي الجرائم ضد الانسانية.
ويفترض بالمحكمة ان تنظر الى هذه القضية لتسببها بزيادة وتيرة تغير المناخ، كون مصادرة الاراضي وتدمير البيئة، يسهمان في ارتفاع حرارة الارض عن طريق تقليص رقعة الغابات التي تمتص ثاني اوكسيد الكربون المسبب الرئيسي للاحترار العالمي.
ويمكن للمحكمة الجنائية الدولية ان تنظر في الجرائم البيئية التي تقع في ١٣٩ دولة صادقت على اتفاقية روما الخاصة بالمحكمة، او اذا رفع مجلس الامن توصية الى المحكمة للنظر في جريمة ارتكبت في دولة ليست عضوا في اتفاقية روما، التي دخلت حيز النفاذ في ١ تموز (يوليو) ٢٠٠٢ ، ما يعني ان الجرائم المرتبكة قبل هذا التاريخ لا تدخل في اختصاصها.
وتزامنت خطوة المحكمة الجنائية الدولية، مع اعلان دولة الاحتلال الإسرائيلي أنها تدرس بالإيجاب السماح لممثلي مكتب المدعية في المحكمة الجنائية الدولية بزيارة الاراضي المحتلة خلال الأسابيع القريبة، حسب ما قاله مسؤولون إسرائيليون. واشار هؤلاء الى أن ممثلي المدعية العامة في المحكمة يريدون الحضور في إطار التحقيق التمهيدي الذي تجريه المدعية في موضوع الشكوى الفلسطينية ضد إسرائيل بشأن الحرب على غزة والبناء في المستوطنات. لكن حتى إذا صودق على الزيارة، فهذا لا يعني حدوث تقدم في الفحص التمهيدي. وبحسب مسؤولين إسرائيليين فإن رئيس الحكومة الاسرائيلية بنيامين نتنياهو لم يصادق بعد على الزيارة وإن القرار سيصدر قريبا. وليس من المعروف ما اذا كان سيسمح للوفد بزيارة غزة أيضا.
وتسبب اعمال الاستيطان الاسرائيلية بأوسع عملية لمصادرة الاراضي الفلسطينية وتهجير السكان الاصليين، وعادة ما تترافق اعمال الاستيطان مع جرائم بيئية من قبيل مصادر الاراضي الزراعية وتجفيف ينابيع المياه وتسميمها، واقتلاع الاشجار، لا سيما اشجار الزيون المعمرة.
وأثارت السلطة الفلسطينية غضب إسرائيل عندما طلبت من المحكمة الجنائية الدولية العام 2015 التحقيق في اتهام الدولة العبرية بارتكاب جرائم حرب خلال حرب غزة في 2014.
ورفضت إسرائيل التي لم توقع معاهدة إنشاء المحكمة بشدة المساعي الفلسطينية لفتح هذا التحقيق. لكن مسؤولين إسرائيليين قالوا إنهم سيتعاونون مع الفريق، في محاولة لتلميع صورة القضاء الاسرائيلي، والايحاء انه يعمل بشكل لا يستدعي رفع اي جريمة مرتكبة في نطاق ولايته الى محكمة دولية.

الناشر: الشركة اللبنانية للاعلام والدراسات.
رئيس التحرير: حسن مقلد


استشاريون:
لبنان : د.زينب مقلد نور الدين، د. ناجي قديح
سوريا :جوزف الحلو | اسعد الخير | مازن القدسي
مصر : أحمد الدروبي
مدير التحرير: بسام القنطار

مدير اداري: ريان مقلد
العنوان : بيروت - بدارو - سامي الصلح - بناية الصنوبرة - ص.ب.: 6517/113 | تلفاكس: 01392444 - 01392555 – 01381664 | email: [email protected]

Pin It on Pinterest

Share This