سعده علوه – السفير
حل شهر آب الماضي وكانت بحيرة القرعون تقفل على كارثتها التلويثية في الظاهر. تلك الأنفاق التي تغلق أسفل سد القرعون نحو الجنوب لتسمح للبحيرة بتخزين مياه الحوض الأعلى في البقاع، كانت ناشفة، وكان مجرى الليطاني من القرعون نحو ليطاني الجنوب عبر يحمر وسحمر وقرى البحيرة على الكتف الجنوبية، جافاً وخالياً من أي نقطة ماء.
هذا المشهد يساعد في تفهم نظرة الجنوبيين إلى نهر الليطاني في حوضه الأسفل. هناك في الوادي الذي ينساب من خراج مشغرة في آخر البقاع الغربي في سلسلة جبال لبنان الغربية وبين يحمر وسحمر في الجزء الشرقي، يبدأ نهر الليطاني بالانحدار نحو الوادي الأضيق والأكثر تعرجاً في مساره، متجهاً جنوباً.
بعد مئات الأمتار من الوادي الفاصل بين خراجي مشغرة ويحمر وسحمر، وبانحدار يصل إلى 19 درجة، شقت بلدية يحمر طريقاً متعرجة نحو مجرى النهر وصولاً إلى نبعه العذب الأول: «عين الزرقا»، وعلى يسار الطريق تبدو عيون الماء الواقعة في «البطن» الغربي للوادي، وأبرزها عين ناصيف.
من عين الزرقا إلى أسفل قليا مرورا بأودية زلاية والدلافة، حيث يكمل ليطاني الجنوب رحلته نحو أودية قرى قضاء جزين، تنتشر المتنزهات العامرة بالرواد والناس وينعم مجرى النهر بكمية لا بأس منها من المياه التي تبدو من بعيد غير ملوثة مقارنة بما يحتويه مجرى الليطاني البقاعي.
الانطباع بنظافة ليطاني الجنوب يعبر عنه حكمت علي عبدالله، ابن قليا، الذي كان مشغولاً مع عائلته والعاملين معه في تأمين طلبات زبائنه الكثر. زبائن يفوق عددهم المئة شخص جاؤوا يسبحون في النهر ويستجمون عنده.
تسأل عبد الله عن مدى علم الرواد بتلوث النهر فيستنكر السؤال من أساسه «ليطاني الجنوب مختلف عن ليطاني البقاع، مياهنا هنا لا علاقة لها بمياه النهر بقاعاً»، وفق ما يرى.
وبالفعل، تجد الناس في الجنوب، وتحديداً في أودية يحمر وسحمر وزلاية والدلافة لجهة النهر، يسبحون مع أطفالهم في النهر ويغسلون فيه خضارهم والفواكه التي يتناولونها، وكأن شيئاً لم يصل إلى مسامعهم.
هناك، ما قبل أودية قضاء جزين، حيث تقوم المرامل والمقالع ومغاسل الرمول بتوسيخ النهر بأوحالها، يبدو لون النهر أخضر إلى أزرق، قبل أن يصبح بنياً موحلا. لا روائح كريهة تنبعث إلى البعيد على غرار ما هو حاصل في البقاع. المشهد يخدع فعلياً أي إنسان غير متابع بالتفاصيل، ولا يعرف حقيقة ما يحدث بعد بحيرة القرعون. «لم يتأثر رواد المقاهي هنا»، يؤكد عبد الله: «وموسمنا السياحي جيد كما كل عام».
الحال في متنزه عبد الله ينسحب على المتنزهات الممتدة من منطقة عين الزرقا إلى أول أودية قرى قضاء جزين. بعض المتنزهات أقامت أحواض سباحة ومسابح لكي تلبي إقبال الناس على السباحة بعيداً عن مجرى النهر، ولكن يتفق الجميع أن ليطاني الجنوب ناج من تلوث البقاع.
هذا الكلام يقوله عامة الناس، لكن المخاتير ورؤساء البلديات يعرفون أنه غير صحيح. ها هو مختار زلاية حسن محمد عباس يقاتل من موقعه لكي لا يتم سحب مجارير قريته باتجاه النهر: «لا نريد مزيداً من التلوث على الليطاني»، قال المختار في اجتماع عقد في زلاية، ووقف في وجه المشروع: «لا نقبل بجر مياه الصرف الصحي لزلاية إلى الليطاني إلا إذا استحدثوا محطة تكرير لمعالجة الملوثات»، يقول.
يحمد «المختار» الله لأن زلاية غنية بالينابيع «نحن نعطي الليطاني ولا نأخذ منه»، يقول. يستشهد عباس بما قاله وزير الصحة وائل أبو فاعور عن وصول مياه بحيرة القرعون الملوثة إلى مجرى ليطاني الجنوب ليؤكد «أن النهر ملوث ولكن تدفق نحو سبعة ينابيع من عين الزرقا ومعها عين ناصيف وينابيع زلاية (عين فارس وعين جران ومغرة الملح التي تتفجر شتاء) تقوي النهر وتذيب ملوثاته في قلب مياهها العذبة». يؤكد «المختار» أن زلاية لا تروي أراضيها من الليطاني ولا تستعمله حتى لمياه الخدمة.
إحجام زلاية عن إلحاق الضرر بالليطاني لم تلتزم مثله يحمر وسحمر. هناك في الطريق المنحدرة نحو النهر، وتحديداً قبل الوصول إلى عين الزرقا، تبدو قنوات مجارير البلدتين مسلطة نحو الليطاني. تعذّب أصحاب القرار ومدوا شبكة مجارير في يحمر وسحمر إلى الليطاني من دون إنشاء محطة تكرير لمعالجتها، ليسجلوا الاعتداء الأول على ليطاني الجنوب.
رئيس بلدية يحمر السابق سليمان مزاحم يؤكد هذا الأمر «نعم مجارير يحمر وسحمر مسلطة على ليطاني الجنوب». يقول مزاحم إن «تلوث المجارير هنا يصبح ثانوياً أمام النفق الذي تضخ منه مصلحة الليطاني مترين مكعبين إلى مجرى النهر بعد نبع عين الزرقا».
وفعلاً في عين الزرقا يبدو ارتكاب الدولة واضحاً. هناك في حرم ينبوع عين الزرقا الذي يعتبر الأغزر على مجرى الليطاني متفجراً من أسفل السلسلة الغربية لناحية وادي مشغرة وعلى ضفة الليطاني مباشرة، تجد تلك المياه الصافية التي يسبح السمك النهري فيها وقد سحبت بنفق نحو جزين لتوليد الطاقة الكهرومائية. بالقرب من عين الزرقا، وتحديداً قبل الوصول إليها بنحو مئة متر، تجد نفقاً يضخ بقوة مترين مكعبين في الثانية. لا يمكن للعابرين أن يقفوا لدقيقة واحدة قرب النفق بسبب روائحه الكريهة. يمكن للعابر في ليطاني البقاع أن يعرف هذه الرائحة جيداً: إنها رائحة المجارير والنفايات الصناعية، وهذا التلوث العالق بحجارة النهر يشبه تلوث ليطاني البقاع. وعلى الفور يقول أبو علي، ابن الدلافة: «هذه مياه القرعون يضخونها إلى ليطاني الجنوب لري القاسمية». هذا الكلام يؤكده رئيس مصلحة الليطاني المهندس عادل حوماني لـ «السفير»: نبدأ عند اللزوم بضخ مترين مكعبين في الثانية من البحيرة عبر نفق مركبا إلى ليطاني الجنوب بهدف تأمين المياه للري».
هذه الحقيقة لا يعرفها معظم أهالي الجنوب الذين يسبحون في الليطاني قبل تلوثه بالمرامل ومغاسل الرمول والمقالع، هم يعتبرون أن نهرهم نظيف قبل وحول المرامل غير عالمين بمجارير يحمر وسحمر وبالمياه الملوثة التي تختلط بمياه ينابيع الجنوب.
يقول أبو علي، ابن الدلافة، إن قريبه يشتغل على دراسات لها علاقة بليطاني الجنوب، وانه هو من أخبره أن «عين الزرقا نفسها ملوثة وأن نسبة الإكولاي فيها، وهي جرثومة مرتبطة بمياه الصرف الصحي والملوثات الأخرى، تصل إلى 280 في المليليتر، بينما المعدل يجب ان يكون صفراً».
هذا الكلام ينطبق على ما قاله الخبير البيئي الدكتور كمال سليم لـ «السفير» عن أثر بحيرة القرعون على الينابيع الجوفية وآبارها ايضاً «نعتقد أن البحيرة وبسبب طبيعة أرضها التي تمتص المياه هي التي تلوث الينابيع الجوفية في المنطقة المحيطة بها». ونبع عين الزرقا هو الأقرب إلى بحيرة القرعون إذ يقع في أسفلها.
لكن أواخر آب حملت إلى الليطاني مزيداً من التلوث بعدما أوقفت مصلحة الليطاني ضخ المياه إلى المعامل الثلاثة لتوليد الكهرباء وفتحت من أسفل سد القرعون قبل نحو عشرين يوماً مترين مكعبين إضافيين من البحيرة مباشرة إلى مجرى الليطاني نحو يحمر «بهدف ري القاسمية»، وفق ما أكد مدير مصلحة الليطاني لـ «السفير» عادل حوماني. وعليه، تصبح حصيلة ليطاني الجنوب من ملوثات بحيرة القرعون نحو أربعة أمتار مكعبة في الثانية حالياً.
وقبل ثلاثة أيام، وإثر احتجاج أهالي يحمر هلى الروائح الكريهة والقاتلة للمياه المفتوحة من أسفل سد القرعون وتهديدهم بتكسير منشآت المصلحة، أقفلت مصلحة الليطاني المترين المكعبين من البحيرة نحو الجنوب، وفق ما أكد حواني لـ «السفير».
بينما الجنوبيون يسبحون في أعلى حوض الليطاني في الجنوب، وتحديداً في المجرى الواقع في أودية القرى الواقعة على الكتف الجنوبية، يؤكد مختار زلايا ومعه أبناء القرى من المتابعين أنهم لا يضعون حتى أرجلهم في النهر ولا يقصدونه حتى «الأمراض تنتشر بين الناس كالنار في الهشيم، وهم عن التلوث ساهون»، يقول أبو علي ليترحم على الأيام التي كان الجنوبيون يقصدون فيها الليطاني «لملء جرارهم من مياهه التي كانت كدموع العين». أيام صارت مجرد ذكرى لدى كبار السن.
يوم وطني لليطاني.. وحملة
شكلت كارثة تلوث نهر الليطاني محور المباحثات التي أجراها رئيس مجلس النواب نبيه بري مع زائره النائب علي فياض بحضور مسؤول الشؤون البلدية في حركة «أمل» بسام طليس.
وأشار فياض بعد اللقاء إلى انه وضع بري «في اجواء التحضيرات التي تجري في ما يتعلق بالحملة الوطنية لحماية حوض الليطاني، وكذلك عقد لقاء وطني أولا، ومن ثم يوم وطني من اجل حماية النهر».
ونقل فياض اهتمام بري الذي هو «بصدد القيام باتصالات مع رئيس الحكومة لوضعه في الأجواء، ولكي تكون هناك مشاركة فاعلة في اللقاء الوطني الهادف لإيجاد اطار للتنسيق والتعاون على المستوى الشعبي والرسمي وكل المستويات الاخرى كي نصل الى نتيجة في اسرع وقت ممكن».
وقال فياض: «لن نكتفي فقط بتحريك اقتراح القانون الموجود في مجلس النواب لحماية حوض الليطاني، وقد وعد الرئيس بري بأن يكون في اول جدول الاعمال عندما يحين أوان انعقاد الهيئة العامة للمجلس النيابي في العقد التشريعي العادي، اضافة الى ذلك ستكون هناك حملة نظافة ومسعى مع الوزارات المعنية لإقفال 126 مجرورا يصبون في النهر من قبل المتنزهات، و4 شبكات صرف صحي تصب في المجرى ايضا، والانتقال الى المعالجات الاستراتيجية التي لها علاقة بالبقاع بصورة عامة».