سعدى علوه – السفير
هناك لا يسمّونه الليطاني. ليس لديهم غيره، ولذا يتحدثون عنه بصفة «النهر»، النهر الوحيد الذي يعرفونه، لا بل أنهم يغالون أحياناً بالتعبير عن شعورهم وكأنه ملكهم فيقولون نهر زوطر الشرقية أو الغربية، نهر كفرصير، نهر قعقعية الجسر…وهكذا.
قبل أن يتحوّل الليطاني إلى مجرور آتٍ من البقاع، وخصوصاً إلى مستنقع من الرمول المتحركة، كان أهالي الجنوب في قرى اتحاد بلديات الشقيف، وكلما أضاعوا شخصاً أو لم يجدوه في منزله، يقصدون النهر فيعثرون عليه. إلى هذه الدرجة كان الليطاني متنفَّسهم والمكان الأحبّ إلى قلوبهم.
بينما تنحدر السيارة على الطريق الملتوية من زوطر الشرقية نحو الليطاني في الوادي المتعرّج، يقول أبو محمد، حارس البلدية، إن الطريق عينها لم تكن تخلو من السيارات ولا تجدها فارغة كما هي عليه اليوم: «كانت الناس طالعة نازلة، بعضهم بسياراتهم، وبعض سيراً على الأقدام».
شدة انحدار الوادي الفاصل بين قرى النبطية والشقيف وبين الليطاني جنوباً يمنع توسّع القرى باتجاه ضفافه، ولكنه لم يحل على ما يبدو دون بناء بعض الأهالي منازل على ضفة النهر مباشرة. منازل تبدو مهجورة فيما الحشائش ابتلعت بعض الحدائق وعشش العشب على المصاطب المفتوحة على النهر، بعدما غاب أصحابها.
هناك تبدو معظم الاستراحات التي كانت تعجّ بالرواد صيفاً فارغة. بعض أصحاب المنتزهات رفضوا هجرها فتجدهم وحيدين يحرسون السكون المخيم ووحشته. وهناك كان أستاذ المدرسة علي حرب يرتب طاولاته في صباح نهاية الأسبوع وحيداً: «ما بحب الهشير ياكل المنتزه»، يقول ليبرر حرصه على زيارة منتزهه يومياً برغم عدم قدوم الزبائن: «صرت استحلي حدا يطل لإشرب معه فنجان قهوة»، يضيف شارحاً الإحساس بالوحدة الذي فرضه التلوث على النهر وناسه.
كانت طاولات حرب العشرين تمتلئ بقاصدينه كل نهاية أسبوع قبل شيوع الأخبار عن تلوث الليطاني، وبرغم عدم وجود كهرباء أو برادات لتخزين المأكولات «منجيب أغراضنا كل يوم بيومه، بس كان ماشي حالنا والشغل خير الله». اليوم يجلس حرب وحيداً وحزيناً. وحيداً بسبب اعتكاف الناس عن النهر، وحزيناً على الليطاني: «كنت أقضي وقت فراغي في صيد سمك البوري النهري بالصنارة، وكانت متعة لا تُضاهى، وكنت أؤمن لعائلتي وجبة سمك طازجة ونظيفة خلال نصف ساعة صيد فقط».
مع الوحول والرمول لم يتغيّر لون الليطاني فقط، بل وصلت سماكة الرمول إلى نحو نصف متر في المجرى المتروك، وتغيّرت البيئة المائية للنهر. سدّت الوحول والرمول الأوكار الصغيرة التي كانت تعشش فيها الأسماك الصغيرة وصار النهر ميتاً، تماماً كما البحر الميت يكاد يخلو من أي حياة.
هناك انقرضت السمكة المعروفة بـ «السميكة»، تصغيراً بسبب ضآلة حجمها: «هيدي سمكة بتنصح بس ما بتطول وبتكبر بتضل سميكة صغيرة ملونة ومبرقشة يعني مموّهة». أصيبت الأسماك بالعمى بعدما سدت الرمول عيونها.
يغرف حرب من ضفة النهر ويخرج يده ممتلئة بالرمول والوحول المتسخة التي منحتها مياه الصرف الصحي والنفايات الصناعية لوناً أسود ورائحة كريهة: «بأي نهر بدها تسبح العالم أو تترك أولادها تغطس؟». يسأل من دون أن تكون هناك إجابة، فالجواب هو في مشهد النهر المهجور.
من زوطر الشرقية إلى شقيقتها زوطر الغربية يحرس حسن عزالدين، عامل في البلدية، حديقتها العامة على ضفة النهر في أسفل الوادي. أرادت البلدية أن تنظم علاقة الأهالي بالنهر فأنشأت حديقة عامة تحتوي على 65 طاولة تتسع كل منها لأكثر من عائلة، وفتحتها مجاناً للناس.
يأتي المواطنون وكل شيء منظم ومرتب منعاً لتلويث النهر ورمي النفايات عشوائياً. تأخذ البلدية من الرواد الآتين من خارج البلدة عشرة آلاف ليرة أجرة كل طاولة. ومع ذلك كان هناك أكثر من عشر عائلات تحضر من دون أن تجد مكاناً حتى لفرش الحصر على الأرض. كانت الحديقة عامرة وتعجّ بالزوار.
بعد تلوث النهر اعتاد عزالدين على الوحدة. صار الرجل يطلب من أصدقائه أن يزوروه بين وقت وآخر لكي لا يمضي أيامه وحيداً. معه كانت تجلس عائلة صغيرة وقد جاءت بكل طعامها مغسولاً في المنزل وجاهزاً، فيما كان الأطفال يلعبون على المراجيح وكان والدهم يحاول عبثاً إقناع الصغير من بينهم أنه لا يمكنه السباحة في النهر «شوف لون المي يا بيي، بني وأسود وفي كتير أوساخ»، بينما يُصرّ الصغير باكياً ويقول إنه يشعر بالحر ويريد أن يلعب في النهر، كما كان يفعل دائماً.
يقول عزالدين إن بعض العائلات تأتي ببركة بلاستيكية صغيرة وتملأها من مياه نبع الحديقة ليلعب فيها أطفالها «لم يعُد أحد يتجرأ على السباحة بالنهر»، يؤكد.
قعقعية الجسر
في قعقعية الجسر يقفز محسن حيدر في النهر ليبرهن حجم الرمول المتراكمة والتي يصفها بـ «المتحركة». وفعلاً تغرق ساقي الرجل لغاية ركبه «شوفو نهرنا كيف صار والمسؤولين عم يتفرّجوا عليه».
مع الناس الذين غابوا يقول حيدر إن سمكة «الحنكليس» ربما انقرضت. يشبه «الحنكليس» الأفعى وهو خال من الحسك، ويصل طول فرخه إلى سبعين سنتمتر و «كلها فيليه»، يؤكد. بعض الناس تصطاد «الحنكليس» لتستهلكه، فيما يبيعه آخرون». تعيش الحنكليس في مغاور صغيرة تحت صخور النهر. اليوم ومع وصول الرمول إلى مستويات عالية ضاق مجرى النهر وسدّت مغاوره وأوكاره النهرية فاختفت فروخ «الحنكليس» أيضاً.
مع ارتفاع معدلات الإصابة بأمراض السرطان، خصوصاً في الأمعاء والبنكرياس والكبد في المنطقة، صار الناس يربطون بين استهلاك الخضار المروية من الليطاني وبين الأمراض وحتى مع الهواء الذي يتنفسون: «ما ذنبنا أن نموت من التلوّث»، يقول حيدر.
كان السمك على طول نهر الليطاني جنوباً، حيث النيابيع المتدفّقة تغذّي المجرى العامر، «يرقص» على وجه الماء، كما يوصّفون نهرهم. اليوم وعندما قلت كمياته وانعدمت بعض أنواعه تأكّدوا أن ليطاني الجنوب قد قطع مرحلة كبيرة نحو الموت على غرار ليطاني البقاع وبحيرته في سد القرعون.
في كفرصير، ينعى حسن ضيا استثماره ولقمة عيش عائلته وأولاده الذين يعتاشون معه من مردود منتزهه الضخم الذي دفع كل ما معه لينشئه على ضفة الليطاني. هناك، وعلى مد العين والنظر، تمتد نحو مئتي طاولة تتسع كل منها لنحو عشرة أشخاص. الطاولات جميعها فارغة إلا من واحدة في آخر الاستراحة جلس إليها شاب وفتاة وحيدَيْن. كانت طاولات ضيا تعج أيام الأحد «ما كنا نلاقي كراسي لنقعد أنا وأولادي»، فيما كان يستقبل في «أرض الأسبوع» أكثر من مئة طاولة يومياً: «اليوم صرنا في خبر كان، وصارت لقمتنا رهينة التلوّث والإهمال».
يقول ضيا إن أيام النهر ذهبت إلى غير رجعة «صار تحويل الاستثمار أكثر من ضروري وإلا فالموت». تحويل الاستثمار هنا يعني إنشاء مسبح «لأن الناس بدّها تنزل تبورد وما بقي في حدا بيقدر ينزل ع النهر».
على ضفة النهر في أرنون، لا يرغب صاحب تلك الاستراحة التي تمتد على نحو 500 متر أن يذكر اسمه «شو الفايدة؟ يعني رح يعوّضوا علينا؟»، يسأل. يقول الرجل أن إهمال الليطاني ودعم الملوثين والسكوت عنهم حوّل حياة الجنوبيين إلى جحيم: «شو عنا متنفس غير الليطاني؟ يعني المعامل والمصانع منتشرة بكل الدني لنشتغل؟ والحدايق وأماكن الترفيه موجودة حتى الناس تتنفس بالصيف؟»، يسأل هازئاً من كل الأداء الرسمي نحو قرى الجنوب.
«كان عنا هالنهر وقتلوه وقتلونا معه»، يقول الرجل فيما يتابع بحسرة: «ممكن حدا يخبرني كيف بسجّل أولادي ع المدرسة السنة؟ ومن وين بطعميهم بالشتا؟». كان يعمل في هذه الاستراحة نحو عشرة موظفين خلال موسم الصيف «اليوم أنا ومرتي وما عملنا طاولتين من أول الموسم حتى الآن». هؤلاء العمال يعيلون عائلاتهم أيضاً أو هم من الشبان الذين يعملون صيفاً ليكملوا دراستهم الجامعية شتاء، فانقطع رزقهم ايضاً.
عند آخر القضاء وتحديداً عندما يعبر النهر بين صير الغربية (شمال النهر) وطير فلسيه (جنوبه) يطلب علي ضيا من شقيقه الصغير أن يقفز في النهر ويسبح ليؤكد أن النهر ليس ملوّثاً. يضحك صديق ضيا من «جنون» رفيق الصغر، ويقول له «بدّك تقنع الناس والرواد مش نحن وإلا بتكون عرّضت خيك الصغير للخطر بلا جدوى».
يقول علي إن الليطاني مرغوب لكون نمط حياة الناس في الجنوب مرتبطاً به: «الأسعار رخيصة ومنتزهاته عائلية تناسب المجتمع وعاداته». اليوم، وبعد تلوث النهر، تبدو المنتزهات على الضفتين وصولاً إلى شحور في قضاء صور خالية من الزوار. هناك وقبل الزرارية يودع الجنوبيون الليطاني كمياه، حيث يحوّل مجراه إلى قناة الزرارية التي تروي الأراضي الزراعية من القاسمية وصولاً إلى المنصوري على الطريق نحو الناقورة «عم يخبروا المزارعين أنهم يجرون لهم مياهاً ملوثة للري؟»، يسأل أحد أبناء شحور بعد أن يقفل باب منتزهه الفارغ ويرجع عائداً إلى منزله.