سعدى علوه – السفير
نشرت «السفير»، وعلى مدى ثلاثة أسابيع، سلسلة حلقات تضمّنت مسحاً ميدانياً حياتياً واجتماعياً واقتصادياً وبيئياً وصحياً ومعيشياً لحوض نهر الليطاني الذي يمتدّ على نحو ربع مساحة لبنان.
جاء التحقيق إثر جولة ميدانية على مساحة 2180 كيلومتراً مربعاً (20.8 في المئة من مساحة لبنان) منها 1468 كيلومتراً مربعاً في البقاع الذي يشكّل 80 في المئة من المجرى، فيما يجري 20 في المئة من الليطاني في الجنوب، وهو ما يشكل 170 كيلومتراً، هو الطول الإجمالي لمجرى النهر. يعيش في هذه المساحة نحو مليون ونصف مليون مواطن.
ترافقت الجولة الميدانية مع الناس والنهر وقراه مع جولة بحثية شملت الدراسات والأبحاث المنجزة حول حوض الليطاني والنهر وصحة المواطنين القاطنين في مناطقه على الضفتين، بالإضافة إلى عرض لخطة المعالجة المقترحة من اللجنة الوزارية التي شكلت لوضع خطة إنقاذيه لليطاني بالتعاون مع المجلس الوطني للبحوث العلمية. قدمت الخطة إلى مجلسَي النواب والوزراء والوزارات المختصة.
سعت «السفير» من خلال هذه التحقيقات إلى توثيق مهني وعلمي قدر الإمكان، خصوصاً إنساني أيضاً، للقول إن الليطاني ليس مجرد نهر ومجرى، هو حياة متكاملة لنحو مليون ونصف مليون مواطن يعيشون في حوضه بقاعاً وجنوباً، وهو ثروة بيئية ومائية بحد ذاته جرى إهمالها مع ناسها إلى درجة الحكم على النهر والناس بالإعدام.
تنفيذ حكم الإعدام بحوض الليطاني، نهراً وناساً لم يكن كلاماً من فراغ، إذ أثبتت النتائج الأولية لدراسة الجامعتين اللبنانية والأميركية في بيروت بالتعاون مع الهيئة الوطنية الصحية (الدكتور إسماعيل سكرية) أن نسب الإصابة بالسرطان في بعض قرى الليطاني وبحيرة القرعون تصل إلى ما بين ثلاثة الى خمسة أضعاف المعدل العام في لبنان.
وتقول الدراسات الحديثة التي أجريت في العام 2016 أن «نهر الليطاني وبحيرة القرعون ماتا سريرياً» (المجلس الوطني للبحوث العلمية)، وأن «كل ينابيع لبنان وآباره الجوفية ملوّثة بنسبة 80 إلى 100 في المئة، بما فيها تلك الموجودة على الجبال والتلال في حوض الليطاني» (مصلحة الأبحاث الزراعية في تل عمارة)، وأن «فحوص المياه والتربة والخضار في مختلف مواقع الليطاني ونهر الغزيل في البقاع تحتوي كلها على الحد الأقصى من التلوّث الجرثومي، وأن مياه القرعون والليطاني بقاعاً وجنوباً غير صالحة للري لاحتوائها على جراثيم ضارة. كما تمّ كشف وجود معادن ثقيلة سامة في التربة المرويّة من الليطاني، وكذلك في البقدونس والنعنع المروية من مياه نهر الغزيّل والليطاني يصل بعضها إلى 42 ضعف النسبة المسموح بها» (مصلحة الأبحاث الزراعية ـ تل عمارة أيضاً).
كل ذلك ناتج بقاعياً عن جرّ الدولة كل شبكات الصرف الصحي من حزين في غرب بعلبك إلى قرى بحيرة القرعون في البقاع الغربي إلى مجرى الليطاني من دون أية معالجة. ويصل حجم الصرف الصحي إلى نحو خمسين مليون متر مكعب، تضاف إليه النفايات الصناعية السائلة لـ 650 مؤسسة صناعية في البقاع، ومعها النفايات الصلبة لثمانية مكبات رسمية على ضفة الليطاني في الحوض الأعلى، عدا عن النفايات الطبية لثمانية مستشفيات ومخلّفات الملاحم والمطاعم ومخيمات اللاجئين على ضفة النهر.
جنوباً، ومع فتح مياه سد القرعون بغزارة أربعة أمتار مكعبة في الثانية نحو ليطاني الجنوب، وتسليط كل شبكات الصرف الصحي التي أنجزت في العديد من قرى الحوض الأسفل إلى النهر، ومع وجود نحو 15 مرملة وكسارة ومغسل رمول متروكة إلى المجرى، ليس حال ليطاني الجنوب بأفضل كثيراً من البقاع. تقول ذلك الأبحاث وتحاليل العينات ومنها على سبيل المثال لا الحصر، تلك التي أجرتها بلدية زوطر الشرقية وتعطلت معها بداية آلة الفحص بسبب الوحول، ومن ثم جاءت نتائج العينة الثانية لتثبت تلوث النهر جنوباً.
لا يوجد نهر ليطاني صيفاً في البقاع بعدما سحبت الآبار الارتوازية ما بقي من ينابيع جوفية وروافد النهر، ومعها شح سنوات الجفاف الأخيرة. هناك مجرد مجرور للمياه الآسنة والنفايات الصناعية، ينشر الأمراض والروائح الكريهة على ضفتيه، ويستعمله المزارعون للري.
أما جنوباً، حيث لا يزال الليطاني محافظاً على شكل النهر، فقد صار السمك النهري مهدّداً بالانقراض، فيما هجر الجنوبيون متنفسهم الوحيد ومعه انقطعت أرزاق نحو خمسة آلاف عائلة كانت تعيش من المتنزّهات والاستراحات.
كل ذلك والدولة مستمرة عبر المصلحة الوطنية لنهر الليطاني بتنفيذ مشاريع لجر المياه الملوثة إلى الناس. لم يعن للمسؤولين شيئاً أن أهالي القرعون ردموا القناة 900 التي تروي البقاع الجنوبي بسبب تلوثها وتسببها بقتل الأهالي بالسرطان، فيما اضطرت المصلحة لإقفال نفق المياه من بحيرة القرعون نحو القاسمية عبر مجرى ليطاني الجنوب بسبب تهديد أهالي يحمر بتكسير منشآت المصلحة بعدما هجّرتهم روائح المياه الكريهة والتلوث.
وفي ظل كل هذه الكوارث ما زالت الدولة تقود اليوم مشاريع سدود لا تقل كلفتها عن مليار دولار (من دون قنوات الجر والمحطات وكل التجهيزات الأخرى التي تفوق كلفتها كلفة السدود) لجر مياه الليطاني «القاتلة» إلى بقية أراضي الجنوب عبر القناة 800 وسدَّي الخردلي والشومرية، بالإضافة إلى سحب مياه الشفة إلى بيروت من سد بسري.
لم يشعر المسؤولون أنهم معنيون بكل هذا التوثيق الذي قدّمته «السفير» عن اغتيال الليطاني وناسه، مع تحديد المسؤوليات وفق القوانين التي تثبت أن وزارات الدولة وإداراتها مسؤولة عما جرى ويجري منذ الاستقلال وحتى اليوم.
على مدى شهر ونصف من العمل ونشر حلقات التحقيق وأرقام الموت وتفاصيل معاناة المواطنين، أخفى المعنيون رؤوسهم في الرمال على طريقة سياسة النعامة. فهل يحاسب الناس، أولئك الذين يقتلهم الأداء الرسمي تجاه النهر، المسؤولين عن الحكم عليهم بالإعدام، وتنفيذ هذا الحكم بكل دم بارد؟