رياض صادق – السفير
سبق انعقاد مؤتمر قمة العشرين بداية الشهر الماضي في مدينة هانغتشو الرائعة في الصين، انعقاد المؤتمر العالمي الثامن للهربتولوجيا (علم الزواحف والبرمائيات) في المدينة
نفسها، لكنه نقل الى منطقة مجاورة بسبب الإجراءات الأمنية الصارمة تحسبا لمؤتمر العشرين.
تابعنا في المؤتمر آخر التطورات والاهتمامات والقضايا الساخنة في الأمور «الهربتولوجية». طرحت مواضيع ذات أهمية علمية وأكاديمية (جينية وفيزيولوجية على سبيل المثال) تهم المختصين مباشرة ولو كانت مفاعيلها علمية وبيئية. كذلك طرحت أبحاث ونقاشات عدة في قضايا تمس مباشرة مسائل التنوع الحيوي والانقراض والحفاظ على الأنواع وما قد يتعلق منها بالبيئة والمناخ. عالج البحث الذي قدمناه دراسة عن تحركات بعض أفراد من نوع أفعى جبال لبنان Mount Lebanon Viper Montivipera bormuelleri في موطنها وهذه الأفعى مهددة بالانقراض ويقتصر وجودها جغرافيا في لبنان وبقع أخرى محدودة.
قبل تغيّر المناخ
كان واضحًا من خلال الأبحاث المقدمة في المؤتمر أن أنواعًا عدة، وخاصة البرمائيات، لا تزال تعاني من التدهور عالميًا، فقد أظهرت بعض الدراسات أن عدد أنواع البرمائيات المهددة يفوق عدد الأنواع المهددة من الطيور أو الثدييات. هناك من العامة والهواة من الناشطين البيئيين من ينسب تدهور أوضاع الكائنات الى التغيرات المناخية فينفضون أيديهم وأيدي المجتمع ومؤسساته من أي مسؤولية عن اقتراب بعض الانواع من الانقراض أو انقراضها بالفعل.
تخصصت بعض المحاور في المؤتمر في نقاش التأثيرات المناخية على جماعات الزواحف والبرمائيات وعلى تكيفاتها الفيزيولوجية، لكن دراسات أخرى ركزت على عوامل عدة ثبت أنها تؤدي الى الانحدار في أعداد الحيوانات وفي تآكل التنوع الحيوي للزواحف والبرمائيات. أظهرت الدراسات أن تغير المناخ يأتي في مرتبة متأخرة كعامل مؤثر في انقراض الأنواع بعد الزراعة والحرائق والتمدد الحضري وتدمير الموطن ومشاريع استخراج المعادن والأحجار والرمل والتلوث وما شابه. لا يمكن الاستهانة أبدًا بتأثير التغيرات المناخية على بقاء الأنواع وحالة الانقراض غير المسبوقة التي ستعاني منها الكثير من الأنواع في هذه الحقبة وفي المستقبل. لكن الانقراض في كثير من البلدان، وخاصة في لبنان، عملية بدأت قبل تغير المناخ بزمن طويل وساهمت ولا تزال تساهم فيها مساهمة متزايدة عوامل عدة تجب مواجهتها، ولا يعدو التغير المناخي كونه عاملا إضافيا يزيد من سوء الحال وليس المسبب الاصلي.
آخر اللعنات
هذه الأنواع تعاني من عوامل تهدد وجودها، أهمها الانحدار المتواصل في كمية ومساحات ونوعية أجسام المياه العذبة. هذا الانحدار ناجم عن الاستهلاك الكيفي غير المنظم للموارد المائية في كل مناطق لبنان (وهذا يؤثر على كل أنواع البرمائيات في لبنان). وهناك التلوث الذي يمعن تخريبًا في كل المسطحات المائية والأنهار الناتج من تدفق مياه المجارير الى كل الأنهار، والممارسات الزراعية السيئة التي تستبيح كل الأنهار بمبيداتها وسمادها العضوي والكيميائي ومخلفات مزراع المواشي والدواجن… من دون أن ننسى الأثر القاتل للمصانع على أنواعها.
«علجوم الصخور النهري»، مثلا، موجود في أماكن محدودة في لبنان مرشحة لأن تغرق تحت مياه السدود المقترحة وبعضها في طور التنفيذ. نفهم أن تقيم بعض الدول سدودا لتجميع المياه. لكن وبالنظر الى أحوال أنهارنا السيئة أصلا، ما لا نفهمه هو الحاجة الى بناء سدود لتجميع مياه المجاري. فحالة نهر الليطاني وسد القرعون مثال حي على هذا الوضع البائس وعلى ما ستؤول اليه المشاريع الآتية. أما التغير المناخي فسيكون آخر اللعنات التي ستزيد من الأمر سوءا من دون أن تكون المسبب الأساس لأزمات أنظمتنا البيئية النهرية وانقراض أنواع الكائنات الحية فيها.
الوزارة لا تكفي
قد يكون من المفيد وجود مركز علمي متخصص لدراسة التغيرات المناخية ينشأ في الجامعة الوطنية أو في مجلس البحوث العلمية (أسوة بمركز الدراسات البحرية أو مركز الدراسات الجيولوجية) لتقييم الأثر البيئي للتغيرات المناخية ووضعه في حجمه الطبيعي بدل ترك الأمور في أيدي الهواة من المنظمات غير الحكومية. وفي هذا السياق لفت نظرنا ان بعض الجامعات في الصين خصصت، الى جانب الكليات التقليدية مثل العلوم والآداب والطب والهندسة، كلية لـ «علم البيئة» (Faculty of Ecology) قائمة بحد ذاتها.
يكثر الكلام عالميا عن الأوضاع البيئية في الصين المواكبة للتطور والتمدد السكاني والصناعي والزراعي. لكن اللافت أن حجم الخراب البيئي في الصين ليس كما قد يتوقعه المرء في بلاد يبلغ عدد سكانها مليارا و400 مليون نسمة. هناك مساحات شاسعة وهائلة من المناطق الطبيعية التي لا تزال على طبيعتها، وكثير منها في محيط المدن. لم يغن ذلك عن مساحات خضراء كبيرة داخل المدن نفسها ومنها ما يحتوي على الملايين من البشر.
الأرض في الصين لا تزال كلها ملكا للدولة (بينما تكون المباني والمساكن ملكا لساكنيها).
ونظرا لحجم الدمار البيئي الحاصل في لبنان، لا مجال للوثوق بقطاع خاص متفلت من كل عقال، ودولة مستقيلة من مسؤولياتها وواجباتها التنظيمية والرقابية. لا يكفي إنشاء وزارة للبيئة مع كل مشاريعها لتغيير هذا الواقع، ولنا على هذا الكلام الكثير من الشواهد.
أستاذ مادة البيولوجيا في الجامعة الأميركية في بيروت