بدأت بلدية بيروت اولى خطواتها العملية لترجمة قراراها الصادر في حزيران (يونيو) الماضي، تلزيم اعمال تحويل النفايات المنزلية في مدينة بيروت الى طاقة، عبر تقنية التفكك الحراري (الحرق).
ينتظر هذا القرار موافقة مجلس الوزراء، ولا يزال دونه العديد من العقبات القانونية والادارية والمالية والتقنية، لكن بلدية بيروت اعطت امس إشارة حاسمة بأنها تنوي المضي قدماً في المشروع، من خلال توقيع مذكرة تفاهم بين رئيس بلدية بيروت جمال عيتاني ورئيس بلدية كوبنهاغن فرانك جنسن الذي شارك الى جانب وفد دنماركي كبير في ورشة عمل بدعوة من بلدتي بيروت وكوبنهاغن في “فندق موفنبيك” في بيروت امس.
عيتاني اكد في كلمة القاها في مستهل الورشة، ان المجلس البلدي يعتزم اطلاق مناقصة تحويل النفايات الى طاقة في غضون الاشهر المقبلة، وستكون اولى مراحل هذه المناقصة دعوة الشركات الراغبة الى تقديم ملفاتها، ضمن ما يعرف بمرحلة التأهيل المسبق للشركات، والتي تعتبر الزامية في هذا النوع من المناقصات. كما اعلن عيتاني ان المجلس البلدي بصدد اطلاق مناقصة الكنس والجمع لنفايات العاصمة في الاسابيع المقبلة، ضمن دفتر شروط يراعي نظام جمع النفايات دون كبسها في شاحانات الجمع المعتمدة حالياً
وكان “مجلس الانماء والاعمار” استبعد بناء على طلب وزارة الداخلية، مدينة بيروت، عن مناقصة جمع النفايات التي تم ترسيتها لصالح ائتلاف “شركة رامكو للتجارة والمقاولات” (المملوكة من وسام عماش) مع شركة Atlas Yapı San التركية، وشملت نفايات قضاءي كسروان والمتن فقط.
ما مصير ملفات التأهيل المسبق التي استقبلها “مجلس الانماء والاعمار” وضمت ٣٤ شركة أجنبية؟ الجواب ان هذه الملفات لا تصلح للمناقصة التي ينوي المجلس البلدي لبيروت اطلاقها، كونها تعتمد نموذج انشاء محرقة تستوعب ٢٠٠٠ طن من النفايات، في حين ان بلدية بيروت تنوي استدراج عروض من قبل شركات قادرة على انشاء محرقة تستوعب ٦٠٠ طن فقط، ما يوسع مروحة الخيارات، ويفتح المجال امام عشرات لا بل مئات الشركات الدولية التي لديها قدرة على التأهل لهذا النوع من المناقصات.
وفي حال نجحت بلدية بيروت في تعجيل الخطوات المتعلقة بإطلاق مناقصة تحويل النفايات الى طاقة، فمن المتوقع ان تمعن الحكومة في غض الطرف عن بدء الاجراءات التنفيذية لتلزيم مشاريع تحويل النفايات الى طاقة على نطاق وطني، فمنذ ان اعلن مجلس الوزراء في الجلسة التي عقدت في 27 نيسان (ابريل) الماضي، عن تشكيل لجنة وزارية برئاسة رئيس الحكومة لدراسة دفتر الشروط العائد للمحارق المتعلقة بمعالجة النفايات، لم تجتمع هذه اللجنة ولو لمرة واحدة، ما يعني عملياً نسف كامل للجدول الزمني الذي سبق واعلن عنه “مجلس الانماء والاعمار” لإطلاق مناقصة المحارق التي كانت مقررة في 11 تموز (يوليو) 2016.
وكان المجلس البلدي لبيروت قد اجتمع بتاريخ 15 حزيران (يونيو) 2016، وتمنى بإجماع اعضائه على وزير الداخلية والبلديات نهاد المشنوق، الاجازة لبلدية بيروت تلزيم اعمال تحويل النفايات المنزلية في مدينة بيروت الى طاقة عبر تقنية التفكك الحراري، وفقاً للاصول. وعطفاً على قرار بلدية بيروت رقم 375، قرر وزير الداخلية الموافقة على مضمونه، وإحالته إلى الامانة العامة لمجلس الوزراء التي ادرجته ضمن البند 24 من جدول اعمال جلسة مجلس الوزراء. واقترح المشنوق في طلب الاحالة الى مجلس الوزراء، الموافقة على اقتراح بلدية بيروت لجهة تعديل القرار رقم 46 الصادر عن مجلس الوزراء عام 2014، عبر السماح للبلدية بإجراء هذه المناقصة بشكل مستقل، وبمعزل عن التكليف المعطى لمجلس الانماء والاعمار. لكن مجلس الوزراء قرر احالة الملف الى الدرس عبر لجنة النفايات التي يرأسها الوزير اكرم شهيب، ليتبين لاحقاً ان هذه اللجنة المسماة ضمن قرار مجلس الوزراء “الفريق الفني المركزي” لا يزال يرأسها الوزير مشنوق نفسه، وان اللجنة التي يرأسها شهيب يتعلق عملها حصراً بالاشراف على مناقصات المرحلة المؤقتة التي يجريها “مجلس الانماء والاعمار”! وفي المحصلة فإن مجلس الوزراء لم يتخذ بعد قراراً نهائياً في ما يتعلق بطلب بلدية بيروت اطلاق مناقصة المحارق.
بالعودة الى وقائع ورشة العمل اللبنانية – الدنماركية، عرض الكثير من المعطيات التقنية المتعلقة بتقنية تحويل النفايات الى طاقة، بينها مداخلة المديرة التنفيذية لمؤسسة “أي أر سي” Ulla Röttger المسؤولة عن تنفيذ مشروع تحويل النفايات الى طاقة في كوبنهاغن، حيث تبين ان هذه المؤسسة لا تتوخى الربح، ولقد انشئت لادارة محطات تحويل النفايات الى طاقة من قبل بلدية كوبنهاغن بسعر زهيد (٣٠ دولارا للطن)، ثم يصار الى بيع الكهرباء من الطاقة، والاهم بيع بخار الماء الساخن الذي يتم ضخه لاعمال التدفئة في المدينة التي تمتاز بشتائها القارس.
لكن ابرز مداخلتين قدمتا في الورشة كانتا لممثل برنامج الامم المتحدة الانمائي ادغار شهاب ولممثل شركة رامبول الاستشارية الدنماركية يورغن هايكوهل. تناقض واضح في مقاربة كل من شهاب وهايكوهل لجهة مسار ادارة النفايات المنزلية الصلبة باعتماد تقنية التفكك الحراري!
بالنسبة لشهاب، فإن بلدية بيروت طلبت رأي الـ UNDP حول الموضوع، فأعد دراسة قائمة على الهرم المعتمد في ادارة النفايات، والموصى به من قبل الامم المتحدة، يقوم على الادارة المتكاملة للنفايات من خلال التخفيف، والفرز من المصدر، والتدوير، والمعالجة البيولوجية المكانيكية، ثم حرق (الافناء الكامل) لما تبقى، واستخدام الرماد السفلي في اعمال الطرق عبر خلطه مع الاسمنت، وكبس الرماد العلوي (المتطاير) بالباطون وطمره في مطمر مخصص للنفايات الخطرة، على ان يتم اعتماد معايير مراقبة صارمة لانبعاثات أوكسيد النيتروجين (NO)، وثاني أوكسيد الكبريت (SO2)، والمعادن الثقيلة والديوكسين، وغيرها من الانبعاثات.
برأي شهاب، إن اي حل يجري الترويج له، قائم على حرق النفايات دون التخلص المسبق من كمية كبيرة من النفايات العضوية عن طريق المعالجة الميكانيكية الحيوية Mechanical Biological Treatment – MBT، يزيد كلفة الحرق ويعقد العملية ولا يضمن استدامتها ونوعيتها. ويضم هذا النظام (المعالجة الميكانيكية الحيوية MBT) وحدة لفرز النفايات ووحدة للمعالجة الحيوية للنفايات عن طريق الهضم اللاهوائي (Anaerobic digestion). ويؤكد شهاب ان القيمة الحرارية للنفايات اللبنانية لا تتجاوز ٧.٦ ميغا جول/الكيلو، وان المطلوب رفعها الى ما لا يقل عن ١٠ ميغا جول/الكيلو لضمان الجدوى الاقتصادية والقدرة التقنية لحرقها دون استخدام وقود، وهذا لا يتم إلا عن طريق المعالجة الميكانيكية الحيوية، لافتاً الى امكانية حرق ما ينتج عن المعالجة الميكانيكية الحيوية في حال تبين انها غير صالح للاستخدام في اعمال تحسين التربة، نتيجها اختلاط المواد العضوية بمواد اخرى مثل الزيوت والمعادن الثقيلة وغيرها.
بالنسبة لهايكوهل، فإن القيمة الحرارية للنفايات اللبنانية قابلة للحرق بوضعها الحالي! وهذا ما يتعارض مع ما اوصت به “رامبول” في الدراسة التي اعدت لصالح الدولة اللبنانية عام ٢٠١٠، فماذا تغير اذا؟ وهل ثمة محاولة لإمرار منشأة لحرق النفايات فقط، دون مراعاة الادارة المتكاملة للنفايات قائمة على الهرم المعتمد عالماً.
وحرصاً من موقع greenarea.info على فتح النقاش العلمي حول المداخلات التقنية التي عرضت في الورشة، فإننا ننشرها كاملة على موقعنا، ليطلع عليها اصحاب الاختصاص، آملين في فتح نقاش وتلقي ردود وتعليقات حول قضية بالغة الاهمية، من شأنها في حال تم اعتمادها وتلزيمها ان تكرس واقعا طويل الامد لادارة نفايات العاصمة بيروت.
- مداخلة المديرة التنفيذية لمؤسسة “أي أر سي” Ulla Röttger
- مداخلة ممثل برنامج الامم المتحدة الانمائي ادغار شهاب
- مداخلة ممثل شركة رامبول Joergen Haukohl
- مداخلة المستشار الدنماركي الخبير في ادارة النفايات Ib Larsen
وبعيداً عن المعطيات التقنية واستنتاجاتها، فإن المعطيات القانونية والادارية والمالية واللوجستية، هي التي يفترض ان تطغى على النقاش حول جدوى مشروع بلدية بيروت لادارة النفايات، ومدى جدية تطبقيه. المعطى الاول يتعلق بحسم مجلس الوزراء قراره لجهة السماح لبلدية بيروت باطلاق هذه المناقصة، وما اذا كان سيمر في مجلس الوزراء وموقف الاطراف داخل الحكومة منه. دون ان ننسى مسالة حصرية توزيع الكهرباء من قبل شركة كهرباء لبنان وتحكمها بسعر الكيلو واط، فهل الجدوى الاقتصادية والمردود المنشود من هذا المشروع قابل للصرف، وهي فعلاً يمكن ان نسترد ٤٠ دولار من كل طن من النفايات عن طريق بيع الكهرباء؟
لكن السؤال الاهم اين سيتم تركيب هذه المحرقة؟ يتهرب رئيس المجلس البلدي جمال عيتاني من الاجابة الدقيقة عن هذا السؤال، رغم ان كل المعطيات تشير الى ان العقار الحالي الذي تملكه البلدية في الكرنتينا هو العقار المستهدف من المشروع. ماذا عن الاعتراض الطائفي والمناطقي من قبل سكان الاشرفية والرميل والمدور والكرنتينا على المشروع؟ وهل يمكن اقناع اهالي هذه المناطق بقبول تركيب هذه المحرقة في نطاقهم السكني؟ وماذا عن تحديد مطمر لادارة النفايات الخطرة الناتجة عن الرماد المتطاير الناتج عن حرق النفايات، اي ما نسبته 3 بالمئة من اجمالي النفايات تصنف موادا سامة ينبغي معالجتها وفق طرق خاصة قبل طمرها
تقول بلدية بيروت انها سوف تعمد الى وضع الرماد المتطاير في مكعبات باطون وتخزينه فوق الارض في عقار تملكه البلدية، ويصلح للتخزين لفترة تمتد لاكثر من 25 عاماً! كما انها تدرس خيار ترحيله الى النروج كما تفعل الدنمارك حالياً! هنا يطرح سؤال حول الكلفة الاضافية لهذا الاجراء، وبالتالي فاذا كانت بلدية بيروت قادرة على اقناع مستثمر بتمويل المشروع وتركيبه وتجهيزه، فهل ستكون قادرة على دفع كلفة الطن التي ستتجاوز في هذه الحالة ١٨٠ دولارا اميركيا وربما تتجاوز ٢٠٠ دولار اميركي. وبالتالي ستستنزف جميع العائدات المحصلة من الضرائب التي تجمعها الدولة لصالح البلدية وتوزعها عبر الصندوق البلدي، وهل تفكر بفرض ضريبة اضافية مباشرة على المكلفين مقابل معالجة النفايات؟ وماذا عن دين بلدية بيروت لصالح هذا الصندوق البالغ قرابة ٣٠٠ مليون دولار؟ هل ستشطب مع بقية الديون المترتبة على بلديات محافظة جبل لبنان والبالغ مجموعها ٣٠٠٠ مليار ليرة لبنانية؟
اسئلة ينبغي الاجابة عليها قبل مذكرة تفاهم لا تسمن ولا تغني من جوع، وقبل اطلاق وعود بأن محرقة الكرنتينا ستكون جاهزة عام ٢٠٢٠، اي في الموعد المضروب لانفاذ الطاقة الاستيعابية لمطمري برج حمود والكوستابرافا التي تستنفذ قبل هذا الموعد على الارجح!