ستنتهي في الأشهر القليلة المقبلة أشغال ردم 550 ألف متر مربع من البحر في طرابلس، حيث ستقام المنطقة الاقتصادية الخاصة، التي أنشئت بموجب قانون خاص عام 2008. حتى اليوم أُنجزت أعمال الردم بنسبة 85%، بذريعة إقامة منطقة «جاذبة» للاستثمارات الخارجية. «جاذبة» على حساب البيئة والأملاك العامة وحقوق العمال، الذين لن يتمتعوا بأي حماية أو تنظيم قانوني عند تعاقدهم مع أي شركة ستعمل في المنطقة المذكورة
مع بداية الفصل الأول من السنة المقبلة تنتهي أعمال الردم على مساحة 550 ألف متر مربع من البحر، حيث ستقوم المنطقة الاقتصادية الخاصة في طرابلس. بعدها تبدأ المرحلة الثانية بإنشاء البنى التحتية.
حتى اليوم رُدم ما يقارب 85% من المساحة المطلوبة، وهذا “الإنجاز” تحقق بظرف سنة، حسبما تقول رئيسة مجلس إدارة المنطقة الاقتصادية الخاصة في طرابلس، وزيرة المال السابقة، ريا الحسن، في الحوار الذي نظمه المنتدى الدائم للحوار الاجتماعي والاقتصادي لمناقشة المناطق الاقتصادية الخاصة، وتحديداً منطقة طرابلس. تقول الوزيرة السابقة بفخر: “تمكنا من إنهاء ردم البحر خلال سنة واحدة فقط، وهذا دليل على الوتيرة السريعة للأعمال التي تجري في المشروع”. والبداية من هنا: ماذا يُنتظر من مشروع انطلق بتدمير النظام البيئي للمنطقة الذي شكّل على مرّ التاريخ الهوية الأساسية لطرابلس؟ بمعنى آخر، ماذا يُنتظر من مشروع بدأ بردم البحر؟
«جنّة» المستثمرين
يقوم المشروع على مفهوم خلق “جنّة” للمستثمرين، حيث لا ضرائب على الأملاك المبنية وتراخيص البناء، ولا ضرائب على الدخل وعلى القيمة المضافة وعلى الأسهم والسندات التي تصدرها الشركات داخل المنطقة وعلى المنتجات المعدة للتصدير. وهناك إعفاءات من رسوم تأشيرة الدخول للعمال الأجانب، ورسوم الجمارك على الواردات، ورسوم الاستيراد على المواد الأولية، ورسوم الاستيراد لمواد البناء والمعدات والآلات المكتبية وقطع الغيار…
بحجة جذب استثمارات خارجية، تتولى المنطقة إدارة ذاتية تعود للإدارة الحكومية، مثل إمكانية إعطاء تراخيص لمشغلي الخدمات، إمكانية تملك الأجنبي لـ 100% من الشركات، وإلغاء الشروط على جنسية ممثلي مجلس إدارة الشركات المستثمرة… ومن ناحية التسهيلات التشغيلية يضرب القانون عرض الحائط بكافة مكتسبات العمال، فيقر أنظمة عمل مرنة، ويعفي الشركات من تسجيل العاملين في الضمان الاجتماعي، ويعفيها أيضاً من التزام الحد الأدنى للأجور، لا قيود على مبيعات السوق المحلية كنسبة مئوية من الإنتاج، لا قيود على الموردين المحليين لبيع مواد أولية ومنتجات للشركات العاملة في المنطقة، ولا حد أدنى لحجم الصادرات. هكذا يصبح تجاوز القوانين وسلب حقوق العمال جزءاً من عملية جذب المستثمرين، فتجري المساومة عليها بأسلوب وقح.
في ظل كل ذلك، لا تخضع هذه المنطقة لرقابة التفتيش المركزي، ولا لسلطة مجلس الخدمة المدنية، بل تخضع فقط لرقابة ديوان المحاسبة المؤخرة، لا المسبقة.
إيديولوجيا ضد العمال
تُعرِّف الحسن المشروع بأنه “الأول من نوعه في لبنان، هدفه إنماء الاقتصاد وتطويره من خلال خلق فرص عمل جديدة، تدريب اليد العاملة ونقل الخبرات، تنويع النشاطات الاقتصادية، تحديث البنى التحتية للمناطق المحيطة وتحديث بيئة الأعمال”. تقول إن المنطقة ستستوعب نحو 70 شركة وستخلق بين 5 آلاف و6 آلاف فرصة عمل، لكن لمن؟ وضمن أي شروط؟ وهل تعطي العمال حقوقهم؟
في الواقع، اعترفت الحسن بأنها “تناصر أيديولوجيا مغايرة للأيديولوجيات التي يحملها ممثلو العمال”. هي تعلم أنهم ضد هذا النموذج كوسيلة للتنمية، لكن برأيها “يجب أن نكون منفتحين على نماذج غير التي نعرفها”، مثل أن نخلق فرص عمل من دون أي ضمانات للعمال، لا بالأجر ولا بالحماية الاجتماعية ولا بالحق في التجمّع والحقوق الأخرى، وكأن الهدف من فرص العمل هو توفير عمل فقط، لا تأمين حياة لائقة ومستقرة للعامل.
تبرر الحسن انتهاك حقوق العمال بأنها “تعي أن هذا الأمر قد يسبب مشاكل في حال حصول استغلال من قبل الشركات العاملة في المنطقة للعاملين، لذلك يجب العمل على إطار يضمن حقوق العاملين وسلامتهم، ونحن تواصلنا مع منظمة العمل الدولية ونعمل معهم لتوعية مجلس الإدارة ووضع نظام لحفظ حقوق العاملين”. لا ذكر لالتزام الحد الأدنى للأجور، ولا حتى للحماية الاجتماعية، فبنظر رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة، الذي وقّع مشروع القانون، يمكن اختصار الحماية الاجتماعية بـ “منح تقديمات صحية (عبر شركات التأمين الخاصة)” على ما تنص المادة 31 من القانون.
أعجبكم الأمر أو لا
نجحت أستاذة القانون في الجامعة اللبنانية، الدكتورة عزة الحاج حسن في صياغة قراءة نقدية للقانون بنحو مفصَّل، والإضاءة على أبرز الانتهاكات فيه، بدءاً من مخالفة مبادئ قانون العمل، وصولاً إلى مخالفة حقوق الإنسان عبر تحديد الأعمال المحظورة على المستخدمين، مثل الإضراب عن العمل! تلفت الحاج حسن إلى أنه حتى اليوم لم يصدر المرسوم المتعلق بالمخالفات والعقوبات، ما يجعل أي مخالفة غير قابلة للعقوبة تطبيقاً لمبدأ الشرعية، وبناءً عليه في حال تجاوُز القوانين المحلية بما لا يخالف مصلحة المنطقة كيف يمكن محاسبة المرتكب؟
تُدرك وزيرة المال السابقة الثُّغَر الموجودة في القانون رقم 18 الصادر عام 2008، وهو القانون المتعلق بإنشاء منطقة اقتصادية خاصة في طرابلس، والمراسيم التطبيقية الصادرة عام 2009، لذلك تقول إن “لديها تحفظات عن الإطار القانوني والتنظيمي للمنطقة، وهناك خلل ونقص يجب معالجته عبر إدخال بعض التعديلات على القانون”، لكن برأيها “هذا القانون بات أمراً واقعاً، سواء أأعجبكم الأمر أم لا، وما يمكن فعله اليوم هو تعديله، أما إلغاؤه فبات مستحيل”.
مقابل كل هذه الإعفاءات والمخالفات تبرز أسئلة عدة يطرحها المشاركون في الحوار: كيف ستُسهم المنطقة في خلق فرص عمل في ظل تسهيلات الحصول على تأشيرات عمل للأجانب وإعفاءات من الرسوم؟ وكيف ستُسهم المنطقة في توفير موارد للدولة، وهي لن تُسهم في الضرائب والرسوم والجمارك؟ وما الذي يضمن دخول المنتج إلى الأسواق المحلية، لا للتصدير فقط؟ وما هي عائدات التصدير؟
في ظل تصفيق القطاع الخاص بنحو دائم لهذا المشروع، يطرح المدير التنفيذي للشبكة العربية للمنظمات غير الحكومية للتنمية، زياد عبد الصمد، نقطة مثيرة للاهتمام، فإذا كان 85% من الشركات في لبنان مؤسسات صغيرة ومتوسطة، فهذا يعني أننا نعرّض القطاع الخاص لمنافسة غير عادلة، لأننا نوجِد جنة للشركات الكبرى داخل المنطقة، في حين أن الشركات القائمة خارج المنطقة لديها التزامات تاريخية، فهل لحظ ممثلو القطاع الخاص هذا الأمر؟
يتابع عبد الصمد بإثارة مسألة خطيرة: “نحن نقوم بفتح مكان لاستثمارات أجنبية وعربية ومحلية، وخلقنا مرونة سينتج منها حكماً انتهاكات، وسيُحدث نزاعات بين العمال والشركات، بين الشركات والمنطقة، وبين الشركات والدولة. لكننا بالمقابل عزلنا المنطقة عن القضاء اللبناني، فما هي آليات فضّ النزاعات التي ستُعتمد؟ هل هناك تصور لكيفية فضّ النزاعات؟ ومن هو المرجع الذي يعود إليه فض النزاع؟”. أمّا التخوّف الرئيسي الذي يبرز، فهو تحوّل هذه المنطقة إلى جنّة للتهرب الضريبي، في ظل غياب كافة أجهزة الرقابة.
قانون «غير قانوني»
يشرّع القانون رقم 18 في فصله السادس انتهاكات صارخة لحقوق العمال، بحيث يحرمهم أي حماية، إذ تنص المادة 28 منه على أنه “خلافاً لأيِّ نص آخر، تخضع علاقات العمل بين الأجراء والمؤسسات العاملة في المنطقة والمتعلقة بشروط الأجر والصرف من العمل للاتفاقات التعاقدية الناشئة بين الفرقاء”، أي لا سلطة لقانون العمل على أصحاب العمل في المنطقة، ما يعني أن لا التزام بالحد أدنى للأجور ولا بساعات العمل ولا بحق العمال في الإضراب والتجمّع وغيرها من الحقوق.
كذلك تنص المادة 31 على أنه “يستثنى من أحكام الضمان الاجتماعي المستخدمون والأجراء العاملون في المؤسسات الاستثمارية المنشأة في المنطقة. يعفى أصحاب العمل الذين يستخدمون هؤلاء الأجراء في المنطقة من موجب التصريح والتسجيل ودفع الاشتراكات المستحقة للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. يجب على أصحاب العمل المعنيين بالاستفادة من الإعفاءات المبينة أعلاه توفير تقديمات صحية لأجرائهم ومن هم على عاتقهم، مماثلة أو تفوق تلك التي يوفرها الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي للمنتسبين إليه”، بمعنى آخر، تجريد العمال من أي حماية اجتماعية وحصر الضمان الاجتماعي الذي يوفر تعويضات نهاية الخدمة وضمان المرض والأمومة، والتعويضات العائلية، وضمان حوادث العمل… بالتقديمات الصحية فقط.
القطاعات والصناعات
لن تكون المنطقة الاقتصادية الخاصة منصة للصناعات الثقيلة أو الصناعات المنخفضة الكلفة، بل ستكون منصة لجذب:
– الصناعات ذات القيمة المضافة التي تركز على التصاميم والأساليب المبتكرة.
– الصناعات التي تعتمد على الموقع الاستراتيجي للمنطقة الاقتصادية خاصة لوجودها بمحاذاة مرفأ طرابلس كالصناعات البحرية، التخزين والخدمات اللوجستية.
– الصناعات الخفيفة والمتوسطة مع إمكانية تصدير عالية كالبلاستيك والكيماويات والورق وتصنيع المعادن.