مع تقدّم السنين، خيّل الينا ان الاوبئة التي انتشرت على عهد أجدادنا ولّت الى غير رجعة، الا ان الواقع يثبت عكس ذلك، فالتغيّر المناخي أرخى بتداعياته السلبية على مختلف النواحي وأولها التنوّع البيولوجي الذي بات يضمّ انواعاً جديدة من الحياة الحيوانية ومنها الحشرات، فضلاً عن عودة انتشار اوبئة بسبب كثرة الاعاصير والزلازل وما يرافقهما من تلوّث يطاول البنى التحتية والمياه الجوفية.
فبعد التحذيرات من فيروس زيكا الذي اجتاح العالم والذي ينقله “بعوض النمر” المنتشر في بعض الدول العربية، توالت تحذيرات جديدة بانتشار وباء الكوليرا، مع الإشارة إلى أنه سجّلت في سوريا العام الماضي حالات عديدة نظراً لواقعها الانمائي والبيئي الملوّث. فما الذي يمنع وصوله الى لبنان مع انتشار النفايات على الطرقات واقتراب موسم الامطار والسيول؟
ما بين عام 1816 وحتى نهاية السبعينيات من القرن العشرين اجتاح وباء الكوليرا العالم سبع مرات حاصدا أرواح الملايين، وسجّل أكبر حصيلة من الضحايا بين عامي 1852 و 1860، حيث تجاوز العدد مليون شخص في روسيا. فيما ظهر في جنوب آسيا في عام 1961 ووصل إلى أفريقيا في عام 1971 وإلى الأميركيتين في عام 1990، قبل أن يستوطن العديد من بلدان العالم اليوم، فظهر مجدداً العام الماضي في سوريا وينتشر اليوم في العراق، البحرين، الكويت، اليمن، السودان، تنزانيا وهاييتي!
تقدر منظمة الصحة العالمية عدد حالات الكوليرا بما يتراوح بين 3 و5 ملايين حالة، وعدد الوفيات الناجمة عنها يتراوح بين 000 100 و000 120 وفاة في كل سنة. ويذكر ان الكوليرا عدوى معوية حادة تنشأ بسبب تناول طعام أو شرب ماء ملوث ببكتيريا الضمة الكوليرية. تسبب خسائر فادحة في سوائل الجسم، ويمكن أن تتسبب في الوفاة في حل عدم تلقي العلاج. وتفيد المنظمة أنه “من بين الأشخاص الذين تظهر عليهم الأعراض يعاني 80 بالمئة أعراضاً متوسطة الشدة أو غير شديدة، بينما تظهر على نحو 20 بالمئة أعراض الإسهال المائي الحاد وما يصاحبه من جفاف شديد. ويمكن أن يتسبب ذلك في الوفاة إذا تُرك دون علاج”.
الكوليرا في سوريا
في العام الماضي، تم اكتشاف حالات من الكوليرا في سوريا بعد توثيق حالة وفاة لأحد الأطفال، ما استرعى التحذير من انتقال الوباء إلى خارج حدود سوريا، ليصبح في حال عدم تدارك الوضع تهديدا عالميا. وقال رئيس الجمعية الطبية الأميركية – السورية أحمد طارقجي في مقابلة مع “الأندبندنت” إن “الوباء يمكن أن ينتشر بسرعةكبيرة”، وعزا ذلك إلى أن عوامل ظهور الوباء في سوريا ترجع إلى تهالك البنى التحتية الطبية، كذلك عدم قدرة منظمات الإغاثة على الدخول، ما يسمح بشكل مباشر انتشار الوباء سريعا داخل سوريا وخارجها.
ولم يستثن طارقجي الحديث عن حركة اللاجئين السوريين وتدفقهم بأعداد قياسية صوب القارة العجوز، ما يهدد بانتشار الوباء بشكل أوسع قد يمس أيضا شريحة هامة في أوروبا، على حد قوله، موضحا أن التاريخ الإنساني أثبت أن من عوامل انتشار الأوبئة هي حركات النزوح.
في أيلول (سبتمبر) 2015 أعلنت منظمة الصحة العالمية تفشي وباء الكوليرا في محافظات النجف والديوانية وبعض أجزاء في غرب بغداد، بسبب انخفاض منسوب المياه في نهر الفرات وتلوث النهر والآبار بمياه الصرف الصحي. وفي بداية شهر تشرين الثاني (أكتوبر)، صرح مدير صندوق الأمم المتحدة للطفولة “اليونيسيف” في العراق، بيتر هوكينز، أن تفشي الكوليرا امتد إلى سوريا والبحرين والكويت، محذراً من “خطر تحوّله إلى وباء إقليمي”.
… واليمن
في العام 2016، تحوّلت تلك التوقعات الى حقيقة، فقد حذرت منظمة الصحة العالمية مطلع شهر تشرين الاول (اكتوبر) من انتشار وباء الكوليرا في اليمن، وحضّت المجتمع الدولي على تقديم معونات بأكثر من 22 مليون دولار لمواجهته. وقالت المنظمة في بيان، إنه “تم الإبلاغ عن 340 حالة مشتبه بها في 17 من الشهر الجاري، منها 18 تم التأكد من إصابتها بالكوليرا في صنعاء، ومحافظات تعز، والحديدة، والبيضاء، وعدن ولحج، وأنه لم يتم الإبلاغ عن أي حالة وفاة”. وأوضحت أن أكثر من 7.6 مليون شخص يعيشون في المناطق المتضررة، وأكثر من ثلاثة ملايين شخص من النازحين نتيجة الصراع، معرضون في شكل خاص لتفشي المرض وسط نقص المواد الغذائية، وسوء التغذية ونقص الخدمات الصحية الملائمة. وتوقعت المنظمة أن يصل عدد المصابين إذا لم تتوافر استجابة عاجلة، إلى 76.000 حالة إضافية في 15 محافظة.
وأوضحت المنظمة أنها وشركاءها المحليين في حاجة إلى دعم من المجتمع الدولي، لاحتواء انتشار الإسهال المائي الحاد والكوليرا في اليمن بأكثر من 22 مليون دولار، منها مبلغ مطلوب 16.6 مليون دولار بصورة عاجلة.
نظراً للانتشار السريع لهذا الوباء ، حذرت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) من أن ظهور مرض الكوليرا في اليمن يضاعف المخاطر الصحية المحدقة بالسكان، ويفاقم بؤس ملايين الأطفال، في ظل تدهور النظام الصحي في البلاد. وقال ممثل يونيسف في اليمن جوليان هارنس “إن وباء الكوليرا في اليمن يضاعف بؤس الملايين من الأطفال، ويزيد المخاطر الصحية في البلا”، وأشار هارنس إلى أن اليونيسف تدعم المرافق الصحية لعلاج حالات مرض الكوليرا، لافتا أن المنظمة الدولية ستواصل العمل لرفع مستوى الاستجابة لوقف تفشي المرض.
وأضاف أن الأطفال عرضة لمخاطر عالية ما لم يتم الحد من تفشي وباء الكوليرا وعلى وجه السرعة، خاصة مع تدهور النظام الصحي في اليمن. وتسبب النقص الحاد لمياه الشرب النظيفة في تفاقم الوضع الصحي، الامر الذي أدى إلى ازدياد عدد حالات الإسهال الحاد، خصوصا وسط النازحين الذين تخطى عددهم ثلاثة ملايين شخص.
أكثر من 200 إصابة في السودان
وفي تموز (يوليو) 2016، سارعت الأمم المتحدة وشركاؤها لدعم جنوب السودان في جهوده لاحتواء تفشي وباء الكوليرا من خلال بعض التدابير، بما في ذلك حملة تحصين باللقاح الفموي لتصل إلى أكثر من 14 ألف شخص، وإنشاء مراكز للعلاج ومعالجة الجفاف. وقد تم الإبلاغ عن 271 حالة كوليرا، بما في ذلك 14 حالة وفاة منذ 12 تموز (يوليو) 2016 في جميع أنحاء البلاد.
وقال الدكتور عبد المومني عثمان، الممثل القطري لمنظمة الصحة العالمية لجنوب السودان، أن الظروف مؤاتية لانتقال وباء الكوليرا بسبب زيادة نزوح السكان، والاكتظاظ، وتدني خدمات النظافة والصرف الصحي. ويمكن أن يؤدي ذلك إلى تفاقم الحالة الضعيفة للنظام الصحي والذي يكافح أيضا سوء التغذية والحصبة والملاريا. وشدد على ان خطر تزايد انتشار الأمراض هو مصدر قلق كبير. ومع موسم الأمطار المقبل، فإنه من الواقعي أن نتوقع تزايد الإصابة بالملاريا والأمراض المنقولة عن طريق المياه.”
وقد تم تفعيل فريق عمل وطني لمكافحة الكوليرا، من أعضاء من وزارة الصحة، ومنظمة الصحة العالمية، وصندوق الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) ومنظمة أطباء بلا حدود وشركاء آخرين، يضطلع بالإشراف والتنسيق للاستجابة لتفشي وباء الكوليرا.
الكوليرا تهدد هاييتي
وبينما ينتقل وباء الكوليرا عبر المياه الملوّثة، ومع حصول اعاصير عدة في الشهرين الماضيين وآخرها في هاييتي، حذّرت فرق طبية من طفرة محتملة وتفشي لحالات الكوليرا في المنطقة، بعد الأضرار التي خلّفها إعصار “ماثيو” على إمدادات المياه في البلاد، وقال مسؤولون في القطاع الصحي في هايتي إنهم يتحضرون للزيادة في أعداد حالات الكوليرا بسبب الأضرار التي أحدثها الإعصار في إمدادات المياه وأنظمة الصرف الصحي.
في آب (أغسطس) 2015 اعلن وزير الصحة اللبناني وائل ابو فاعور من أن الكوليرا خطر قائم في البلاد، واليوم، مع انتشار هذا الوباء في مختلف الدول العربية، وبينما يمتلك لبنان الظروف التي تساعد على انتشاره في حال دخول البكتيريا إلى البلد، والتي تكمن في كثافة النازحين الوافدين على البلاد وسوء البنى التحتية وتراكم النفايات التي تساعد على مزيد من التلوث في البنى التحتية… ما الذي ينتظر اللبنانيين بعد؟ وهل ان لبنان بعتاده الرسمي والصحي قادر على معالجة الحالات قبل تفاقمها؟