حالة من الترقب والانتظار ستظل ماثلة لأسابيع عدة، قبل أن تتبلور معالم “الحقبة الترامبية”، وإن كانت بعض عناوينها واضحة، مع تبني الرئيس الأميركي المنتخب مسارات تخالف الوجهة السائر في ركابها العالم، أي في اتجاه تبني معايير واضحة في مجال الاستدامة، واقتصاد خالٍ من الكربون، والتخلي عن الوقود الأحفوري وتعميم ثقافة كونية على انقاض ممارساتنا السابقة، مع ترشيد استهلاكنا وعدم استنزاف موارد الأرض وغيرها من أهداف أجمع عليها العالم من خلال تبني مفاعيل اتفاقية باريس للمناخ.
وسط الحدث الأميركي لا نستغرب أن يجثم “شبح” ترامب على مؤتمر المناخ المنعقد حاليا في مدينة مراكش المغربية، حتى قبل فوزه في انتخابات الرئاسة، وأن يخيم بعدها على نحو أقلق المؤتمرين، وسيطر على كثيرين شعور بالاحباط، حتى أن ماي بويف، رئيسة مجموعة 350.org البيئية، وصفت النتيجة بأنها “كارثة”.
إشكالية ديموقراطية
ويطرح هذا الحدث قبل أي شيء آخر إشكالية ديموقراطية متمثلة بمفهوم حكم الأكثرية، خصوصا إذا كان يمثل خيارات تجافي الواقع وتنأى عن حاضر ومستقبل، وتقفز فوق المعطى الموضوعي والعلمي، إن لجهة المناخ، أو لجهة خيارات في السياسة والاقتصاد، فحكم الأكثرية لا يمثل بالضرورة الشكل الأرقى للديموقراطية، وفي المشهد الأميركي تترسخ أكثر مقولة أن حكم الأكثرية لا يفضي إلى شرعية ديموقراطية عادلة، حتى ولو اعتمدت على انتخابات حرة علنا، ومقنَّعة سرا، مع تحكم رأس المال في تحويل توجهات الناس نحو خيارات مدمرة.
وهذا ما حصل في حالة ترامب، وخطابه المستحضر لغرائز، خصوصا في موقفه من المهاجرين، وبهذا المعنى أصبحت الديموقراطية الأميركية “ديموقراطية انتقائية”، لا تحتمل وجهة نظر ثالثة بعيدا من الحزبين المسيطرين (الديموقراطيون والجمهوريون)، وهي أيضا، وفي حدود معينة “ديموقراطية الأقوياء”، التي غالباً ما تكون بمثابة ديكتاتورية مستترة، إذ يتحكم فيها المال واللعب على مشاعر الفقراء ومحدودي الدخل، وتحكُّم مراكز الأبحاث والدراسات التي تعرف كيف تقرأ وتوظف السوسيولوجيا الأميركية، وكيف تنظم الحملات الإعلانية لهذا المرشح أو ذاك، لصالح كلا الحزبين، وهي حملات تحمل الكثير من التورية، وقلب الحقائق رأسا على عقِب.
انفصال كاليفورنيا!
إن المسيرات الغاضبة التي تعم الولايات المتحدة رفضا لترامب، ونعته من قبل الرافضين لسياسته بـ “النازي الجديد” ليست تفصيلا عابرا في الانتخابات الرئاسية، خصوصا وأن موجة الغضب غير المعهودة، ترافقت مع إطلاق حملة سلمية تطالب بإقامة دولة كاليفورنيا المستقلة والانفصال السلمي عن الولايات المتحدة، عبر استفتاء يقام في خريف 2019 ودعت حركة “نعم كاليفورنيا”، في بيان على موقعها على شبكة الإنترنت، سكان كاليفورنيا إلى التطوع والتبرع للمساهمة في الاستعداد للاستفتاء والمشاركة في الحملة لتحرير “كاليفورنيا من الخاطفين” حسب البيان.
وتعارض الحركة بشكل تام قيام الحرب والقتال وترفض إرسال أبناء الولاية إلى حروب الجيش الأميركي أو دفع الثمن عبر استهداف أبنائها بالهجوم من قبل ضحاياه. وأكد البيان رفض أي تحرك عنيف أو تحريضي ضد الولايات المتحدة، لكنه دعا إلى التحلي بالجرأة والشجاعة والحماس للدعوة استعدادا للاستفتاء الذي أطلق عليه CALEXIT، وفي تبريرها للانفصال عن الولايات المتحدة، قالت الحركة إن اقتصاد الولاية هو سادس أقوى اقتصاد في العالم، ويأتي بعده في الترتيب دولة كبرى مثل فرنسا ويتجاوز عدد سكان كاليفورنيا (38 مليون نسمة) ما يعادل عدد سكان بولندا، والولايات المتحدة تمثل الكثير مما يتعارض مع قيم كاليفورنيا.
وأضاف البيان أن الالتزام مع الولايات المتحدة لا يعني سوى مواصلة دعم الولايات الأميركية الأخرى على حساب ثالث أكبر ولاية أميركية من حيث المساحة، بعد ألاسكا وتكساس. و”نعم كاليفورنيا” لا ترفض فكرة التصدق على الآخرين، لكنها تستدرك في بيانها قائلة: “عندما تفكر في أن البنية التحتية في ولاية كاليفورنيا تتهاوى، وأن مدارسنا العامة من بين الأسوأ في البلد بأكمله، وأن لدينا أكبر عدد من المشردين يعيشون بلا مأوى وأن معدلات الفقر لا تزال عالية، نجد أنه ليس الوقت المناسب للأعمال الخيرية”.
ولفت البيان إلى أن “خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في الاستفتاء الذي جرى مؤخرا هو واحد من الأمور التي ألهمت القائمين بالحركة”، فيما وتطرح الحملة تسع نقاط أساسية تجعل من الاستقلال مبررا وضروريا لكاليفورنيا وللمجتمع الدولي. وترى أن السلام والأمن سوف يتحققان بعد الانفصال عن الجيش الأميركي الذي يهاجم الدول الأخرى، فضلا عن اضطرار أبنائها لمحاربة الآخرين وتجبر كاليفورنيا على مواصلة الدعم المادي للجيش بأموال طائلة.
بنيان يتصدع
إن المطالبة بالانفصال لا تقتصر على كاليفورنيا فحسب، إذ بدأت تتعالى أصوات مطالبة بالانفصال في ولايات أخرى، وهذا مؤشر على ضعف الدولة المركزية، فأميركا اليوم غيرها بالأمس، وسط اقتصاد غير قادر على استيلاد حلول لإشكاليات مجتمعية، يضاف إليه حجم الديون ونسب البطالة، وهذا ما نفذ منه ترامب في الترويج لحملته الإنتخابية، مستغلا واقعا مأزوما.
وتصاعد أصوات مطالبة بانفصال كاليفورنيا، وغيرها من الولايات، يمثل تحديا حقيقيا لأميركا، وإن كنا نعلم أنه حتى لو أجري الاستفتاء في كاليفورنيا، وحتى لو لم تصوت على الانفصال، فإن ذلك يؤكد أن ثمة بنيانا بدأ يتزعزع، إن لم تستدرك القوى السياسية خطورة الانفصال حتى ولو كان مجرد شعار.
اتفاقية باريس للمناخ
إن مسار التحول العالمي نحو حماية الكوكب سيستمر مع ترامب أو بدونه، لكن مع ضجيج أكبر، في أزمة تعتبر أكبر من أزمة مناخ، لن تتضح معالمها وترسو على مشهد واضح في أمد قريب، وقد وفقت سيغولين رويال، وزيرة البيئة الفرنسية والرئيس الحالي لمنتدى المناخ الأممي، في قولها إن ترامب “لا يستطيع منع تطبيق” اتفاقية باريس للمناخ، لافتة إلى أن “103 دولة تمثل 70 بالمئة من الانبعاثات (الغازية) صدقت على الاتفاقية، ولا يمكنه (ترامب) – خلافا لتأكيداته، أن يلغي هذه الاتفاقية”.
لن يصمد ترامب في مواجهة الحقائق العلمية، ويستطيع العالم أن يحلقَ بعيدا من فلك الولايات المتحدة، ويبقى أن ننتظر… لنرَ!