يعد ثاني أوكسيد الكربون من غازات الاحتباس الرئيسية وتتوقف تركيزاته في الهواء على الكميات المنبعثة من النشاطات الانسانية، خصوصا من احتراق الوقود الأحفوري ومن إزالة الغابات، ولا سيما الاستوائية التي تعد مخزناً للكربون، كما تتوقف تركيزات CO2 بالهواء على معدلات إزالته وامتصاصه في البحار وفي الغطاء النباتي على سطح الأرض، وهذا ما يعرف بالدورة الجيوكيميائية للكربون والتي تحدث توازناً في تركيزه في الهواء، وقد أوضحت الدراسات السابقة أن هذا التوازن قد اختل نتيجة نشاط الانسان المتزايد.

أجواء ما قبل العصر الصناعي تضمنت جسيمات TSP (الجزيئات الكلية المعلقة وهي أهم عنصر في ملوثات الجو) أكثر، لكنها أعطت سحباً أكثر إشراقاً مما كنا نعتقد سابقاً. هذه أحدث نتائج تجربة مركز CLOUD))، وهي تمثل تعاونا بين ما يقارب 80 عالما من المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية في مختبر فيزياء الجسيمات، بالقرب من جنيف  (CERN). تغير هذه التجربة مفهومنا لما كان موجوداً في الغلاف الجوي قبل أن يبدأ البشر بإضافة التلوث – وما قد يكون عليه الحال مرة أخرى في المستقبل.

معظم قطرات الغيوم تحتاج لهذه الجسيمات الصغيرة المحمولة جوا لتكون بمثابة “البذور” لتشكيلها ونموها. إذا كان لغيمة ما بذور أكثر، وبالتالي قطرات أكثر، فسوف تظهر أكثر إشراقاً وتعكس مزيداً من ضوء الشمس بعيداً عن سطح الأرض في حال كانت من جسيمات نظيفة (طبيعية). هذا بدوره يمكن أن يبرد المناخ. لذلك إن فهم عدد وحجم الجسيمات المتواجدة في الغلاف الجوي هو أمر أساسي لا للتنبوء فقط بدرجة الإشراق أو قدرة غيوم الأرض على عكس الأشعّة، ولكنه مهم أيضاً لمعرفة ما ستكون عليه درجات الحرارة العالمية.

اليوم، ما يقارب نصف هذه الجسيمات يأتي من مصادر طبيعية. منها غبار التراب والبراكين والدخان الناجم عن حرائق الغابات، أو رذاذ البحر عندما يتبخر ليترك حبات غبار صغيرة من الملح في الغلاف الجوي. بينما العديد من الجسيمات المحمولة جوا تنجم أيضا عن حرقنا للوقود الأحفوري. هذا ما يطلق عليه (السخام)، وأيضا غاز ثاني أوكسيد الكبريت الذي يتحول إلى حامض الكبريتيك في الغلاف الجوي. إضافة إلى تسببها بالأمطار الحمضية، يمكن لجزيئات حمض الكبريتيك أن تلتصق ببعضها البعض وتنمو لتصبح جسيمات. أما الجزيئات الأخرى مثل الأمونيا فهي غالبا ما تساعد على إلصاق جزيئات حمض الكبريتيك مع بعضها البعض. عموماً وفي يومنا هذا، إن هذه العملية تشكل ما يقارب النصف من الجزيئات المبذرة للغيوم في الغلاف الجوي، وهذا ما يجعل لون الغيوم رماديا وليس أرقاً كما كان سابقاً قبل الثورة الصناعية.

 

تجربة CLOUD تحاكي “مناخ مصغر

 

اكتشفت مؤخرا تجربة CLOUD في CERN أن الغازات المنبعثة عن الأشجار يمكن أن تلتصق ببعضها البعض لتصنع “بذورا” جديدة للغيوم في الجو، دون الحاجة إلى أي مساعدة من ملوثات أخرى كما كان يعتقد سابقا. اعتقد العلماء أن بذور غيمة ما تحتاج لجزيئات حمض الكبريتيك (غالبا مختلطة مع غيرها من المركبات) أو اليود لتلتصق ببعضها البعض لبدء هذه العملية.

في الدراسة الجديدة المتابعة والتي نشرت حديثاً في مجلة وقائع الأكاديمية الوطنية للعلوم (PNAS)، يقول مدير المركز “عملنا مع علماء آخرين من تجربة CLOUD لخلق محاكاة لهذه العملية في الغلاف الجوي”، ويشير عملنا إلى أنه “حتى في يومنا هذا الأشجار تنتج جزءا كبيرا من بذور الغيوم فوق أنظف الأجزاء المكسوة بالغابات في العالم”.

تنبأت محاولات محاكاة الحاسوب للغلاف الجوي كما كان قبل حرق الوقود الأحفوري بشكل جدي وبدء الثورة الصناعية (يعرف ذلك في علم المناخ بأنه عام 1750) بوجود جسيمات أقل من تلك الموجودة اليوم. مع جزيئات أقل كان بإمكانية الغيوم الأنظف أن تعكس قدراً أقل من طاقة الشمس، ولربما وبعكس البديهي، فمن الممكن أنها قد بدت أكثر رمادية.

تجربة CLOUD تعتمد على  قدرة الغازات المنبعثة عن الأشجار، وخصوصا العائلة التربنتينية التي تطلق (التربين) على تكوين جسيمات، اقترحت لأول مرة في عام 1960 لشرح ظاهرة الضباب الأزرق المرئي فوق الغابات في المناطق النائية. أكدت العديد من التجارب المخبرية منذ ذلك الوقت أن بإمكانية التربينات أن تساعد على تشكيل جسيمات جديدة، ولكن حتى وقت قريب كان يعتقد أن وجود ملوثات أخرى كحامض الكبريتيك كان لازماً (تمت تسمية الجبال الزرقاء غربي سيدني في أستراليا نسبة للضباب الذي يميزها).

الكثير من التقدم الأكثر حداثة في هذا المجال كان بفضل تجربةCLOUD ، وهي عبارة عن اسطوانة من الفولاذ المقاوم للصدأ ذات قطر وارتفاع يقارب كل منهما الثلاثة أمتار. يتم حقن الغازات في الاسطوانة، حيث تتفاعل معاً بشكل يماثل ما يحصل في الغلاف الجوي، ثم تلتصق معا لتشكيل الجسيمات. وتقوم أجهزة متطورة بعّد جزيئات الغاز والجسيمات المتواجدة في الاسطوانة، ثم تبدأ دراسة كيفية تغير عدد الجسيمات المتشكلة حديثاً عند كل ثانية عند زيادة كمية الغازات اللزجة في الاسطوانة.

ماذا يعني هذا بالنسبة للغلاف الجوي؟ في المناخ الحالي، حيث هناك الكثير من حامض الكبريتيك من الصعب قياس مدى مساهمة أي عامل آخر في تشكيل جسيمات جديدة وبالتالي تشكل الغيوم. وبالمقابل، فإن المحاكاة الحاسوبية التي استخدمت نتائج تجربةCLOUD  بينت بأن التربينات مهمة جداً في الحفاظ على غلاف جوي أكثر نظافة مما كان عليه منذ مئات السنين. وتفترض النماذج الحاسوبية أن تقديرات تركيز الجسيمات في الغلاف الجوي – الأنظف – ما قبل النهضة الصناعية ينبغي أن يزداد، في حين أن تقديراتنا لتركيز هذه الجسيمات اليوم هي في معظمها دون تغيير.

من جهة أخرى، فإن النتائج الجديدة ممكن أن تكون مهمة لأن ازدياد الجسيمات في الغلاف الجوي يؤدي إلى غيوم أكثر عكساً للأشعة، وبالتالي مناخ أبرد.

إن انخفاض الحرارة العائد إلى ازدياد الجسيمات في الغلاف الجوي أدى إلى حجب الارتفاع الحراري العائد إلى ارتفاع نسبة غاز ثاني أوكسيد الكربون، وإن تجارب المحاكاة الحاسوبية تفترض بأن هذا الانخفاض الحراري الزائد هو ليس بالقوة كما كان يُظن سابقا.

في ظل التحركات العالمية الهادفة لزيادة نقاوة الهواء حول العالم من خلال تخفيض انبعاث الجسيمات في الغلاف الجوي،  تظهر من جهة أخرى بعض التساؤلات عن امكانية تخفيض قدرة الجسيمات على المثول كبذور غيوم مما يحول دون مناخ أكثر برودة.

كما أن برامج المحاكة الحاسوبية ما زالت غير دقيقة بشكل كامل، إن الأهمية الكامنة  المحتملة لهذه العمليات الجديدة تفترض أن المركبات الطبيعية ممكن أن تصبح ذات أهمية  كبيرة مع انخفاض نسبة التلوث الناجم عن الاحتراقات ومصادر أخرى. عندما نساعد في ازالة بذور الغيوم الناجمة عن الملوثات، يمكن أن تكون للأشجار إمكانية مساعدتنا في الحد من الارتفاع في دراجات الحرارة العالمية.

الناشر: الشركة اللبنانية للاعلام والدراسات.
رئيس التحرير: حسن مقلد


استشاريون:
لبنان : د.زينب مقلد نور الدين، د. ناجي قديح
سوريا :جوزف الحلو | اسعد الخير | مازن القدسي
مصر : أحمد الدروبي
مدير التحرير: بسام القنطار

مدير اداري: ريان مقلد
العنوان : بيروت - بدارو - سامي الصلح - بناية الصنوبرة - ص.ب.: 6517/113 | تلفاكس: 01392444 - 01392555 – 01381664 | email: [email protected]

Pin It on Pinterest

Share This