تكمن قيمة وأهمية الأشجار ليس في مردودها المادي فحسب، ثمارا وعوائد مباشرة، وهذا ما بدأ يدركه العالم دولا وحكومات ومؤسسات، أكثر من أي وقت مضى، فيما يواجه نتائج ما ارتكبه الإنسان من تدمير وتجريف واستغلال مفرط للغابات.
لذلك نجد اليوم أن هناك توجها عاما ومسارا ثابتا للتصدي للانتهاكات التي تطاول غابات العالم من جهة – رغم الارتكابات الحاضرة في بلدان خاضعة لرأس المال الجشع – ومن جهة ثانية نجد أن هناك إعادة اعتبار للأشجار خصوصا مع تفاقم أزمة المناخ، وإعادة تسليط الضوء على دورها وأهميتها من الناحيتين الإيكولوجية والاقتصادية.
إذا ما توقفنا عند العائد غير المباشر للأشجار نجد أنه يفوق بمرات كثيرة عوائدها من الثمار والأخشاب، فهي تساهم في التوازن البيئي، وتؤمن بيئة مناسبة للحيوانات كمحميات طبيعية، وتعمل على منع انجراف التربة، فيما أهميتها القصوى تبقى متمثلة في ما تمتص من ثنائي أوكسيد الكربون من الجو وفي ما تطرح نهارا من أوكسيجين، كما أن الأشجار تمتص المياه الزائدة عن سطح الأرض ما يحول دون وقوع انجرافات.
كل ذلك يفوق بكثير ما تقدمه لنا الأشجار من مردود مباشر، فضلا عن أن هناك أنواعا منها قادرة على القضاء على الجراثيم والفيروسات بما تفرزه من مواد، مثل أشجار الصنوبر والزنزلخت، والحور والصفصاف والكينا وغيرها.

الضغوط البشرية

تنبهت “منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة Food and Agriculture Organization of the United Nations الـ “فاو” FAO، في دراسة حديثة إلى أنه “لأول مرة في التاريخ، يعيش أكثر من 50 بالمئة من سكان العالم في البلدات والمدن”، وأنه بحلول عام 2050، من المتوقع أن ترتفع هذه النسبة إلى 66 بالمئة، وعزت سبب الانتقال من المناطق الريفية إلى المناطق الحضرية، وبشكل رئيسي في أفريقيا وآسيا “إلى الفقر والعوامل الاجتماعية والاقتصادية ذات الصلة”.
وتشهد المدن حول العالم توسعا دون تخطيط مسبق في غالب الأحيان، ودون استراتيجيات واضحة لاستخدام الأراضي، فالضغوط البشرية الناجمة عن هذا الأمر تترتب عليها نتائج كارثية على الغابات والأحراج، فضلا عن المساحات الخضراء في المدن وحولها. وغالبا ما تتفاقم الآثار البيئية لعملية التحضّر بسبب تغير المناخ، وتشمل زيادة التلوث، وانخفاضا في توفر الأغذية والموارد، فضلا عن زيادة الفقر وتواتر الأحوال المناخية المتطرفة.

التكيف مع التغيرات المناخية

تساعد الأشجار في المدن على التخفيف من بعض الآثار السلبية والتبعات الاجتماعية المترتبة على عملية التحضّر، وبالتالي تجعل المدن أكثر قدرة على التكيف مع هذه التغيرات، وقدمت الـ “فاو” FAO تسع طرق تساهم بها الأشجار والغابات في جعل المدن أكثر استدامة اجتماعيا واقتصاديا وبيئيا:
1-يمكن للأشجار أن تسهم في زيادة الأمن الغذائي المحلي، وأن توفر الأغذية مثل الفاكهة، وأصناف الجوز، والأوراق للاستهلاك البشري والأعلاف. ويمكن استخدام خشبها بدوره لأغراض الطهي والتدفئة.
2-تلعب الأشجار دورا هاما في زيادة التنوع البيولوجي في المناطق الحضرية، وتوفر الموائل المؤاتية والأغذية والحماية للنباتات والحيوانات.
3-يمكن للشجرة الناضجة أن تمتص ما يصل إلى 150 كيلوغراما من ثاني أوكسيد الكربون سنويا. ونتيجة لذلك، تلعب الأشجار دورا هاما في التخفيف من آثار تغير المناخ. ويمكن للأشجار تحسين نوعية الهواء، وخصوصا في المدن التي ترتفع فيها مستويات التلوث، لتجعلها أماكن أفضل صحيا للعيش فيها.
4-التخطيط الاستراتيجي لمواقع الأشجار في المدن يمكن أن يساعد على تبريد الهواء بما بين 2 و8 درجات مئوية، وبالتالي الحد من تأثير “جيوب الحرارة” الحضرية، ومساعدة المجتمعات المحلية الحضرية على التكيف مع آثار تغير المناخ.
5-الأشجار الكبيرة هي مرشحات ممتازة للملوثات الحضرية والجسيمات الدقيقة. فهي تمتص الغازات الملوثة (مثل أول أوكسيد الكربون، وأكاسيد النيتروجين، والأوزون، وأكاسيد الكبريت) وتصفية الجسيمات الدقيقة، مثل الغبار، والأوساخ، أو الدخان، من الهواء عن طريق احتجازها في أوراق ولحاء الأشجار.
6-تظهر الأبحاث أن العيش على مقربة من المساحات الخضراء الحضرية والوصول إليها يمكن أن يحسن الصحة البدنية والعقلية، على سبيل المثال عن طريق تخفيض ارتفاع ضغط الدم، والتوتر. وهذا، بدوره، يساهم في رفاه المجتمعات الحضرية.
7-الأشجار البالغة تنظم تدفق المياه وتلعب دورا رئيسيا في الحد من مخاطر الكوارث الطبيعية وتجنب الفيضانات. فشجرة السنديان، على سبيل المثال، يمكن أن تمتص أكثر من 000 40 غالون من المياه سنويا.
8-تساعد الأشجار أيضا على الحد من انبعاثات الكربون من خلال المساعدة على الحفاظ على الطاقة. فعلى سبيل المثال، زرع الأشجار في الأماكن المناسبة حول المباني يمكن أن يقلل من الحاجة لتكييف الهواء بنسبة 30 بالمئة، وخفض فواتير التدفئة في الشتاء بنسبة 20-50 بالمئة.
9-يمكن لزراعة الأشجار ضمن تخطيط المدن أن يزيد قيمة العقارات بنسبة تصل إلى 20 بالمئة، وأن يجذب السياحة والأعمال.

المدن والبلدات اللبنانية

وبحسب الدراسة، فإن المدينة ذات البنية الأساسية الخضراء التي تخطط وتدار بشكل جيد تصبح أكثر صمودا واستدامة وإنصافا من حيث الأمن الغذائي، والتخفيف من وطأة الفقر، وتحسين سبل العيش، والتخفيف من آثار تغير المناخ والتكيف معها، والحد من مخاطر الكوارث، وحفظ النظم الإيكولوجية. وبذلك، يمكن للأشجار خلال حياتها أن توفر حزمة من الفوائد تعادل قيمتها أكثر من ضعفين إلى ثلاثة أضعاف الاستثمار المستهلك في زراعتها ورعايتها.
وبعيدا من دراسة الـ “فاو” FAO، هل نحن في لبنان نخطط كفاية لاستعادة بعض أحراجنا المدمرة؟ وما هي الإجراءات في سبيل زيادة المساحات الخضراء في المدن؟ إذا ما نظرنا إلى العاصمة بيروت نجد أنها “مكبلة” بالاسمنت، ولا فسحات خضراء – في ما عدا حرج بيروت – من شأنها أن تساهم في تلطيف جو المدينة، وفي الحد من نسب التلوث الكبيرة الناجمة عن عوادم السيارات والنفايات والمصانع، والأمر عينه يطاول سائر المدن والبلدات اللبنانية.
ومع بداية موسم الأمطار، نجد أن الطرقات والساحات تغرق بالسيول، فالاسمنت حال ويحول دون امتصاص التربة للمياه، ونبقى إلى أجل غير مسمى أسرى التنمية العشوائية التي لا تلحظ إلا الاستثمار في الحجر: فمتى نستثمر في التنيمة الحقيقية، التنمية التي تراعي حياة الإنسان وكرامته وحقه في بيئة نظيفة… وسليمة!

الناشر: الشركة اللبنانية للاعلام والدراسات.
رئيس التحرير: حسن مقلد


استشاريون:
لبنان : د.زينب مقلد نور الدين، د. ناجي قديح
سوريا :جوزف الحلو | اسعد الخير | مازن القدسي
مصر : أحمد الدروبي
مدير التحرير: بسام القنطار

مدير اداري: ريان مقلد
العنوان : بيروت - بدارو - سامي الصلح - بناية الصنوبرة - ص.ب.: 6517/113 | تلفاكس: 01392444 - 01392555 – 01381664 | email: [email protected]

Pin It on Pinterest

Share This