نجيب صعب – الحياة

كان الانطباع السائد قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية أن فوز دونالد ترامب سيعني سقوط اتفاق باريس المناخي. النتيجة كانت عكس ذلك تماماً. ففوز ترامب في الانتخابات، التي حصلت في الأيام الأولى لقمة المناخ في مراكش، دفعت القادة المشاركين إلى إصرار إجماعي غير مسبوق على الالتزام بتطبيق الاتفاق.

لقد وجه العالم رسالة صريحة إلى ترامب أنه سيبقى وحيداً إذا أصرّ على مواقفه السابقة. وإذا كان ما زال يأمل بتأييد من الدول المصدرة للنفط، فقد جاءت مواقف الدول النفطية واضحة بتأييدها الاتفاق، وبينها جميع الدول العربية الأعضاء في منظمة «أوبك». والذين كانوا يراهنون على موقف سعودي معارض، أصيبوا بخيبة أمل، إذ صادقت السعودية على الاتفاق قبل أيام من دخوله حيّز التنفيذ، وأعلن وزير الطاقة خالد الفالح في قمة مراكش «التزام السعودية الراسخ بدورها في مواجهة قضية تغير المناخ… والتحول التدريجي إلى مستقبل أكثر استدامة».

حتى لو أراد ترامب الانسحاب من اتفاقية باريس، فهذا لا يمكن أن يحصل قبل أربع سنوات، وفق بنود الاتفاقية الدولية. ولكن ترامب نفسه بدأ يمهّد للتراجع عن تعهده بالانسحاب، بعدما لمس المعارضة الكبيرة، ليس من بقية العالم فقط، بل داخل الولايات المتحدة نفسها. فالذي ينكر تغيّر المناخ اليوم هو تماماً كمن ينكر مضار التدخين. فهناك إجماع علمي على أن المناخ يتغير بفعل النشاط البشري، بخاصة انبعاثات الكربون من حرق الوقود. ولا تبرر أية دوافع اقتصادية ما وعد به ترامب، من رفع القيود عن استخدام الفحم الحجري أو تدمير الطبيعة، أو منح إذن غير مشروط بحفر الآبار ومد الأنابيب في منطقة القطب الشمالي.

خمسون دولة بين الأكثر تعرضاً لتأثيرات تغير المناخ، معظمها جزر صغرى مهددة بالغرق مع ارتفاع مستويات البحار، اتفقت في قمة مراكش على التحول إلى الطاقة المتجددة بنسبة مئة في المئة مع حلول سنة 2050. وكان إجماع في مراكش على ضرورة العمل لحصر ارتفاع معدل الحرارة ضمن درجة ونصف درجة بدلاً من درجتين مئويتين، كحد أقصى مقبول علمياً لمواجهة الكوارث.

لم يكن التوصل إلى اتفاق باريس المناخي ممكناً قبل التوافق بين الولايات المتحدة والصين. فالصين، التي كانت تختبئ وراء الدول النامية في مجموعة الـ77 لتبرير رفضها التقيد بأرقام ملزمة لخفض الانبعاثات، وجدت في الالتزام فرصة تجارية. فهي استخدمت الفترة التي عرقلت خلالها الاتفاق على مدى سنوات لتطوير تكنولوجيات الطاقة المتجددة. وعندما أصبحت أكبر منتج في العالم لألواح الكهرباء الشمسية المتطورة، وقعت على اتفاق الحد من الانبعاثات، الذي يفتح أسواقاً غير محدودة لمنتجاتها. كما دخلت الشركات الأميركية في عهد أوباما سباق الطاقة النظيفة والمتجددة، وأصبحت لاعباً كبيراً على مستوى العالم. إذاً، ما يراه ترامب خسارة للقدرة التنافسية الأميركية، وجد فيه الآخرون، في الولايات المتحدة والصين، فرصة تجارية تتناغم مع الحقائق العلمية.

اللافت أن ترامب يعتبر القيود على الانبعاثات التي تفرضها اتفاقية المناخ «مؤامرة» صينية ضد التنافسية الأميركية. وهذا مشابه لنظريات المؤامرة التي كانت رائجة بين بعض العرب، الذين اعتبروا «تغيّر المناخ» مؤامرة عالمية ضد الدول النفطية. لكن يبدو أن ترامب سيبقى وحده هذه المرة.

في حين لن تؤثر سياسات ترامب في الإجماع العالمي حول اتفاقية تغير المناخ، إلا أن خطرها الأكبر قد يقع على الولايات المتحدة نفسها. فإذا وفى ترامب ببعض وعوده في تخفيف الدعم الموجه إلى البحث والتطوير والصناعات في مجال الطاقة المتجددة، سيؤدي هذا إلى ضرب القدرة التنافسية الأميركية في هذا المجال. والنتيجة الحتمية ستكون تفوّق الصين أربع سنوات إضافية في الطاقة المتجددة، بحثاً وتطويراً وصناعة. لكن أية قرارات يتخذها ترامب على المستوى الفيديرالي لن تؤثر في السياسات المحلية للولايات، مثل كاليفورنيا، التي تطبق بعض أكثر سياسات تخفيض الانبعاثات تشدداً في العالم. وحجم اقتصاد كاليفورنيا وحدها هو السادس في العالم، ويتجاوز فرنسا والبرازيل. لكن الأثر الأكبر لسياسات ترامب قد يكون على المستوى الدولي، في محاولته خفض مساهمة الولايات المتحدة في صندوق المناخ، المخصص لمساعدة الدول النامية في تخفيض انبعاثاتها والتكيف مع آثار تغير المناخ.

على جميع الدول أن تكون جاهزة للتعايش مع تدابير الحد من تغيّر المناخ ومواجهة آثاره. فإمكان التخفيف من القيود على انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون يتساوى مع إمكان تخفيف القيود عن تدخين التبغ، والتطور الوحيد الممكن هو أن تزداد لا أن تنقص.

حسناً فعلت الدول المنتجة للنفط في التوجه نحو تنويع اقتصاداتها، ليس فقط لمواجهة تقلبات أسعار النفط، بل أيضاً استعداداً لمستقبل يخف فيه الاعتماد على النفط. وهذا يتضمن تدابير لوقف الهدر في الموارد الطبيعية، بخاصة المياه والوقود والكهرباء، ما يتطلب الخفض التدريجي لدعم الأسعار، الذي يشجع على التبذير. غالبية دول المنطقة بدأت خطوات جدية في هذا المجال، كما في «رؤية 2030» السعودية. لكن بعضها أدى إلى معارضة شعبية وصلت إلى إسقاط الحكومة، كما حصل في الكويت. وكان من شأن اعتماد هذه التدابير تدريجياً منذ سنوات تأمين تحوّل سلس.

المهمة الضرورية العاجلة هي التحول من اقتصاد يقوم على بيع المواد الخام والمضاربات المالية والعقارية، إلى اقتصاد متنوع يعتمد على الإنتاج. لكنها مهمة شاقة، وعلى الجميع المساهمة في إنجاحها، حفاظاً على حق الأجيال المقبلة في حياة مستقرة.

 

 

* الامين العام للمنتدى العربي للبيئة والتنمية

الناشر: الشركة اللبنانية للاعلام والدراسات.
رئيس التحرير: حسن مقلد


استشاريون:
لبنان : د.زينب مقلد نور الدين، د. ناجي قديح
سوريا :جوزف الحلو | اسعد الخير | مازن القدسي
مصر : أحمد الدروبي
مدير التحرير: بسام القنطار

مدير اداري: ريان مقلد
العنوان : بيروت - بدارو - سامي الصلح - بناية الصنوبرة - ص.ب.: 6517/113 | تلفاكس: 01392444 - 01392555 – 01381664 | email: [email protected]

Pin It on Pinterest

Share This