لا نعرف بالتحديد ما خَلْفَ السخاء والكرم الذي يستهدف قرى وبلدات بعينها؟ ومن يغدق الأموال؟ وهل بات طمر النفايات في لبنان عملا يندرج ضمن المشاريع والأعمال الخيرية والإنسانية؟ وثمة الكثير من الأسئلة حيال “مبادرة” تتضمن عطايا تقدمها إحدى الشركات المتخصصة وشبه المستأثرة بقطاع النفايات.
مئة ألف دولار أميركي لقاء “كاراج” لطمر العوادم. ولئن كان فعل الطمر قائما، والاسم لا يطابق المسمى “كاراج” أو “باركينغ” فالنتيجة واحدة، توسيع مناطق الطمر في شتى أنحاء البلاد، ولأن قضاءي الشوف وعاليه لم يوفقا في إيجاد مكب ومطمر وفقا للخطة التي تبنتها الحكومة، فلا شيء يمنع من تمرير مطامر صغيرة، وإن اقتضى الأمر تضليل البلديات بأسماء ومصطلحات جديدة، من قبل المسؤولين عن ملف النفايات في لبنان، فضلا عن أن ثمة تورية واضحة حيال حصر مهمة المطامر باستقبال العوادم فحسب، وهذا فخ كبير قد تقع فيه البلديات، إذ أن “العوادم المغلفة” ليس ثمة من يعرف محتوياتها، فربما تكون بقايا نفايات عضوية وغير معالجة، علما أن نسبا كبيرة من العوادم يمكن إعادة تدويرها!
أيا تكن الأهداف من وراء اعتماد “كاراج” أو “باركينغ”، فمن الواضح أنها تسميات مخففة لمشاريع مفخخة، والأنظار الآن متجهة نحو بلدة كفرنبرخ في قضاء الشوف، بعد أن تسربت معلومات عن أن “شركة جهاد العرب” تبدي استعدادها تقديم 100 ألف دولار للبلدية لصالح إنجاز وتأهيل منطقة لرمي النفايات فيها.
greenarea.info حاول الإضاءة على هذه القضية من مختلف جوانبها، ومع سائر الجهات المعنية، ومن النواحي التقنية والبيئية والفنية.
د. زعاطيطي: خطر على المخازن الجوفية للمياه
وفي هذا السياق، أوضح الخبير الهيدروجيولوجي، الاستاذ والباحث في حقل المياة الجوفية الدكتور سمير زعاطيطي لـ greenarea.info بأنه “واضح من خلال الخريطة الجيولوجية “دوبرتريه” (نسبة إلى المهندس الجيولوجي الفرنسي لويس دوبرتريه)، والتي هي الاساس الجيولوجي للمناطق في لبنان، وبعد مراجعتي لخريطة جزين 1/50 الف، والاطلاع على منطقة كفرنبرخ وضواحيها، تبين لي ان الطبقة السطحية مؤلفة من صخر كربوناتي مشقق ومكسر يعود الى بقايا طبقة السينومنيان، وهذا الصخر تقلص نتيجة عوامل التآكل والتذويب من 600 متر الى 180 متر، وهو صخر كلسي عالي النفاذية، وفي اسفل هذه الصخور مباشرة في أودية كفرنبرخ يظهر لي مجموعة متنوعة من الصخور، المارلية، يعني الطينية، اي مزيج من الطبشور الكلس الابيض مع الصلصال، تليها طبقات صخرية كلسية ثم صخرية رملية ثم صخر رملي يحتوي اسمنت حديدي أو فحم حجري”.
وأضاف: “المجموعات الصخرية الثلاث اسفل السينومنيان نسميها الطبشوري الاسفل، وهي مجموعة سماكتها حوالي 300 متر، وهذه الصخور جميعها ذات نفاذية ضعيفة، والخطر في كفرنبرخ ومناطق الطمر او المكبات ان استحدثت ليس التربة فحسب، فالتربة بشكلها المبسط هي الارض التي يزرعها الانسان ويقوم بفلاحتها، ولا تتخطى عددا من الامتار القليلة، أما الجيولوجيا فهي علم الصخور التي تقع اسفل هذه التربة، ومن الواضح من طبيعة صور المنطقة انها ذات نفاذية عالية، متوسطة”.
ورأى زعاطيطي أن “الخطر الحقيقي في المنطقة هو التكسرات الارضية، التي تسحب اي مادة ترمى فوق الارض، خصوصا في الشتاء مع الامطار التي تتسرب الى داخل الارض، بمعنى أنها تسهل تسرب السوائل وبشكل خطير الى المخازن الجوفية للمياه”.
د. قديح: مصطلحات تضليلية
أما الخبير البيئي في مجال علوم الكيمياء والسموم ومستشار موقع greenarea.info الدكتور ناجي قديح فاستغرب “التجاهل الحاصل للحلول البيئية السليمة للنفايات، والالحاح والانكار لكل ما يتعلق بموضوع الفرز وإعادة التدوير ومعالجة النفايات بالطرق السليمة”، لافتا إلى أن “بعض البلديات بادرت وحققت نجاحا باهرا في تنفيذ هذه الخطة”.
وقال قديح: “نستهجن لماذا الرفض لهذا الخيار والاصرار على الطمر باستحداث تعابير ومصطلحات جديدة تُضمر عدم توخي الدقة في ما يتطلبه المطمر من تجهيزات هندسية ضرورية، من حيث العوازل الكافية واجراءات ادارة العصارة واجراءات الغازات المنطلقة، وكل هذه الانشاءات الهندسية التي هي شرط ضروري لأي مطمر صحي”.
وأضاف: “رغم ذلك، نحن ومن حيث المبدأ ضد المطمر الصحي أيضا، لانه ليس الخيار الافضل لمعالجة نفاياتنا التي تتكون بنسبة عالية من المواد العضوية التي تصل الى 60 بالمئة احيانا، هذا الالتفاف الحاصل على المصطلحات واستحداث مصطلحات تضليلية تحت عناوين عدة، مثل (كاراج) و(باركينغ) و(تخزين) وهذه الطرق اي التخزين كم من الوقت ستحتاج ؟ وهل موقع التخزين آمن؟ ومن يضمن حل المشكل بوضع طبقة بلاستيك عازلة؟ كل هذا الكلام غير كافٍ”.
إصرار على هدر المال العام
ورأى قديح أن “هكذا خيار لا يتناسب اطلاقا مع طبيعة لبنان ولا مع طبيعة نفاياته”، وأضاف: “هذا الاصرار على السير بمفهوم الكب العشوائي والتحسين ببعض الاجراءات التجميلية تحت عناوين جديدة استحدثها اصحاب نظرية الطمر والاصرار على الطمر، هو إصرار على هدر المال العام، وإصرار على عدم السير بالطرق البيئية السليمة لمعالجة النفايات، وهذا مستغرب بمعايير العقل، أما بمعايير استخدام ملف النفايات كوسيلة لوضع اليد على الأموال العامة هو ليس الا محاولة تذاكٍ والتفاف على المسارات العلمية الواضحة باستحداث مصطلحات ضبابية”.
ورأى قديح أن “كل ذلك يخفي الحقيقة التي تختصر واقعا مأساويا، لجهة إقامة مكب نفايات أو مزبلة مجمَّلة لا تستجيب إلا لمصالح فئات معينة من أصحاب هذه التوجهات”.
أبي راشد: الحل في الفرز والتسبيخ
وقال رئيس “جمعية الارض – لبنان” بول ابي راشد لـ greenarea.info: “نحن كجمعية واجهنا مشكلة النفايات بمشاريع حضارية بيئية نظيفة ومربحة، وعرضنا نموذجا، هو مركز الفرز والتسبيخ والتخلص الصحي من النفايات في بلدة بريح المجاورة لكفرنبرخ، وعرض خبراء جمعية الارض- لبنان لهذا النموذج على بعض البلديات في منطقة الجبل خلال محاضرة أقيمت قبل أيام في بريح”.
وأضاف: “في إطار (حملة من المصدر – حل بلدي ونظيف)، وبهدف توحيد وتعميم طرق الفرز من المصدر على كامل الأراضي اللبنانية فإننا نرى أن الحل في الفرز والتسبيخ، ولدينا النموذج الذي لم تتجاوز كلفته الـ 10 الاف دولار أميركي، أما الحلول الثانية فهي كارثية حتما ومؤذية، بالاضافة الى انها تكلف مئات الآلاف من الدولارات وتفشل في النهاية”.
وتساءل أبي راشد: “لماذا التوجه دائما نحو مشاريع مكلفة ومؤذية وفاشلة وأمامنا الحل المبسط؟”.
نصر: بيدي أن الغي الاتفاق
وكان لافتا للانتباه موقف رئيسة بلدية كفرنبرخ وسام الشامي نصر، فخلافا لما روجه البعض عن التزامها بمشروع المكب المزمع إنشاؤه في البلدة، فقد أكدت لـ greenarea.info رفضها لأي مشروع يلحق أدنى الضرر بكفرنبرخ.
وقالت نصر: “لدي 4000 متر مساحة المكان الذي سيقام فوقه المكب، وهناك اتفاق لجهة استقبال عوادم مغلفة ومعلبة، بينما النفايات في بلدتي ترمى على التراب، ولدي آلاف الاطنان مكدسة، وجاءني العرض ووعدوني أنه كل ستة اشهر يأخدون العوادم، وإن لم يأخذوها أُقفل هذا (الكاراج)، وأقول لهم ممنوع دخول نفايات جديدة قبل أن تأخذوا الموجود”.
وأضافت: “وفي الوقت لدي تخوف من خرق الاتفاق، ولكن بيدي أن الغي الاتفاق واقفل (الكاراج) او ما هو مكب للعوادم، وأطالب بحلول ثانية، وإن كانت لديكم حلول من خلال مشروع بيئي سليم فأنا أرحب، لأنني أبحث حقيقة عن حل سليم، واليوم جهاد العرب قدم لي 100 الف دولار لإنشاء هذا المكب، ان كان لديكم حل آخر ساعدوني، ولا نجمع نفايات غير نفايات كفرنبرخ”.
وعن مدى استعدادها لاعتماد الفرز، قالت: “انا مستعدة، ولكن وقعنا في فخ بعض الجمعيات الكاذبة التي تقول ولا تفعل”، وأكدت حرصها على سماع آراء الخبراء في هذا المجال”.
وطلبت ختاما عقد اجتماع لمعاينة الوقائع على الارض، وقالت: “لدينا قطعة أرض 10400 م2 نستطيع استخدامها في مشروع مهم اذا وجدنا من يعاوننا، واذا منحتمونا البديل سنرفض المشروع ولا أحد يمكن أن يرغمنا على شيء”.