رغم أن تلوث نهر الليطاني وبحيرة القرعون يستمر بالتراكم والتفاقم منذ عدة عقود من السنين، أثار التلوث المستحدث، منذ بضعة سنوات وحتى اليوم، في القسم الجنوبي من نهر الليطاني، ولا سيما تغيُّر لونه إلى برتقالي أحيانا، وإلى أخضر داكن ورمادي داكن أحيانا أخرى، أزمة وطنية شاملة، طارحا مشكلة التلوث المتجذر والخطير لنهر الليطاني “من منبعه وحتى مصبه” وبحيرة القرعون على جدول أعمال الحكومة والبلديات والمجتمع المدني والإعلام والنواب والوزراء، وكذلك القضاء ومؤسسات المجتمع اللبناني برمته.
وفجأة استفاقت كل الجهات المعنية بالنهر على واقع تلوثه، وأطلقت المبادرات، على كل المستويات لمعالجة التلوث ووضع حدٍّ له. ورصدت أموال طائلة لإنجاز هذه المهمة، التي قفزت لتصبح أولوية الأولويات في البلد على رغم تزاحم الأزمات وتسابقها.
الجزء الأعلى من نهر الليطاني وبحيرة القرعون معرَّضان منذ عقود لتلوث جائر من مصادر متعددة، أهمها:
المياه المبتذلة البلدية المرمية دون معالجة، مباشرة أو بشكل غير مباشر في النهر وروافده وحوضه والبحيرة وحوضها.
مياه الصرف الصناعية التي ترمى دون معالجة، مباشرة أو بشكل غير مباشر، في النهر وروافده وحوضه والبحيرة وحوضها.
المكبات العشوائية للنفايات الصلبة غير المفروزة وغير المعالجة من مختلف المصادر، البلدية والتجارية والصناعية والطبية، الموجودة على مقربة مباشرة من مجرى النهر وروافده، أو الموجودة في مناطق مختلفة البعد داخل حوض النهر والبحيرة وحوضها.
الإسراف باستعمال الأسمدة والأدوية الزراعية في منطقة البقاع، التي تشتمل على ثلث الأراضي الزراعية في لبنان، والتي تنتج ما يزيد عن 60 بالمئة من الإنتاج الزراعي اللبناني. حيث تتداخل في كثير من الأحيان قنوات الري مع روافد النهر وفروعه ومجراه، وبالتالي تتسرب الأسمدة والأدوية الزراعية إلى مياه النهر وروافده وحوضه والبحيرة وحوضها.
إن المسار الأعلى من النهر، أي من منبعه غرب بعلبك في البقاع الأوسط (على ارتفاع حوالي 1000 متر عن سطح البحر) وحتى سد القرعون (على ارتفاع 800 متر عن سطح البحر) وحوضهما، قد أشبعا درسا وتحليلا منذ أكثر من عقدين من الزمن. هناك العديد من الدراسات المعمقة والتقارير المفصلة والشاملة والمخططات التوجيهية البيئية، التي درست، على فترات متتالية، التلوث ومصادره وأنواعه ومستوياته، بحيث باتت منذ زمن بعيد معروفة كل مؤشرات التلوث في النهر الأعلى وبحيرة القرعون، حيث تتراكم على مدى عقود كل أنواع الملوثات الفيزيائية والكيميائية والعضوية والجرثومية والطحلبية في مجرى النهر وروافده وترسباته وفي مياه البحيرة وترسباتها. هناك ضرورة بالطبع أن تضاف إليها الظروف الجديدة التي رافقت النزوح السوري إلى لبنان، ولا سيما في المناطق المتاخمة للنهر وروافده وحوضه والبحيرة وحوضها.
إن الحالة الخطيرة من التلوث التي وصل إليها النهر بقسميه الأعلى والأسفل والبحيرة تدل على تقصير واضح، ومسؤولية أكيدة تقع على كاهل كل الوزارات المعنية، وكذلك على مصالح المياه في كل المناطق، ولا سيما في البقاع والجنوب، وكذلك أيضا وبشكل خاص على المصلحة الوطنية لنهر الليطاني.
العلاقة بين المسار الأعلى والمسار الأسفل للنهر
نلاحظ تدفق حوالي 2 م³/ثانية فقط عبر معمل مركبا، حيث تخرج من النفق وتتدفق في مجرى النهر. جزء من هذه الكمية يأتي من بحيرة القرعون، والجزء الآخر يأتي من نبع عين الزرقا الواقعة جنوب جدار السد في وادي مشغرة، والمحبوسة مياهها عن التدفق في مجرى النهر الطبيعي، ليتم جرها أو ضخها لاستعمالات متنوعة، ومن ضمنها تدفق جزء هام من مياهها عبر النفق باتجاه أنان وبسري والأولي.
نادرا ما تفتح مخارج جدار السد لتسمح بتدفق مياه البحيرة في المسار الجنوبي للنهر، حيث يقتصر ذلك على تنظيم مستوى المياه في البحيرة، أي خلال السنوات ذات المتساقطات الغنية فقط، حيث تفتح المخارج، لا لتزويد المسار الجنوبي بحصته من المياه، بل لمنع فيضان البحيرة. وهذا ما لا يحصل في سنوات الشح أو فقر المتساقطات.
كميات كبيرة من مياه البحيرة، تُحوَّل عبر الأنفاق إلى الأولي لتوليد بضعة ميغاوات من الكهرباء (في أنان وبسري والأولي)، حيث تقدر القدرة القصوى لتلك المنشآت بحوالي 156 ميغاوات، ولكن ما تنتجه فعلا لا يزيد عن عدد قليل من الميغاوات فقط.
بضع كميات من المياه تُضخ عبر مشروع قناة ري الـ 900 متر، حيث يشكو المزارعون من عدم انتظام وكفاية كميات المياه للري، وكذلك من النوعية السيئة جدا للمياه الملوثة وذات الرائحة الكريهة، مما يطرح تساؤلات جدية بشأن سلامة استخدام هذه المياه لري المحاصيل الزراعية.
على ضوء هذا العرض للوقائع المتعلقة بنهر الليطاني وبحيرة القرعون، المرتبطة ببعض معطيات استخدامات المياه من جهة، وبالتلوث الخطير الذي وصلنا إليه من جهة أخرى، يمكننا تسجيل الإستنتاج التالي:
“إن نهر الليطاني وبحيرة القرعون يتعرضان إلى تبديد فظيع للثروة المائية فيهما، حيث تهدر كمياتها دون الحد الأدنى من الجدوى أو الفعالية المقبولة، وتتعرض لتلويث خطير يودي بجودة المياه فيهما، بحيث لم تعد صالحة لأي من الإستعمالات الممكنة. وهي بذلك، خرجت من حسابات الثروة المائية اللبنانية، إلى حين اكتمال المعالجة الجذرية لأسباب التلوث الواقع على النهر في مساريه الأعلى والأسفل وحوضهما، وعلى البحيرة وحوضها، ووقف كل مصادره. وكذلك إلى حين القيام بإعادة نظر جذرية في الاستراتيجيات المتبعة لاستخدامات المياه غير المجدية وغير الفعالة، لكي تصبح أكثر جدوى وأكثر فعالية، وأكثر إسهاما في إحداث تنمية حقيقية مستدامة لمناطق البقاع والجنوب وكل لبنان.
مجرى النهر وشكله
يتخذ النهر مجرى متعرجا، ولكنه بالإجمال باتجاه الجنوب لمسافة حوالي 30 كلم عن جدار سد القرعون، ثم ينحرف متعرجا أيضا، ولكن بالإجمال باتجاه الغرب لمسافة مماثلة تقريبا (30 كلم) حتى مصبه الطبيعي في القاسمية.
يأخذ النهر شكل مجراه على مدى تاريخ طويل من التغيرات الطبيعية والمناخية، وتغيرات في الأنشطة التكتونية للصفائح الجيولوجية للمنطقة التي يجري فيها، والتغيرات في استعمالات الأراضي والتدخلات البشرية.
يتميز الجزء الأسفل لنهر الليطاني طبيعيا بمجرى يتكون من صخور وحصى بشكل عام. في قسمه الأعلى يكون الإنحدار قويا نسبيا مشكلا منطقة حدوث التآكل، ليصل إلى قسم يتميز بانحدار أقل نسبيا يشكل منطقة نقل الترسبات، وصولا إلى منطقة المصب التي تشكل عادة منطقة تراكم الترسبات.
حتى ماضٍ قريب، تميز بضعف التدخلات البشرية على مجراه، حيث يتمتع بغنى نباتي وبيولوجي عموما، وبقيمة إجتماعية – إقتصادية كبيرة، نظرا لتعدد المنتزهات السياحية والرياضية، ومنشآت الإستجمام للشباب والأطفال والعائلات.
التدخلات البشرية الكبرى على نظام النهر
التغيرات الكبيرة التي نشهدها على مورفولوجيا النهر ونظامه هي نتيجة للتدخلات البشرية عليه، من خلال سد القرعون وقيام بحيرة القرعون، وقناة ري الـ 900، في حوضه الأعلى، وقناة ري الـ 800، وقناة ري القاسمية ورأس العين في حوضه الأسفل، واستراتيجية إدارة مياه بحيرة القرعون، وخصوصا ما يتعلق بإبقاء أقسام من مجرى النهر جافة وخالية تماما من المياه، مما يشكل مخالفة جسيمة لقواعد المحافظة على منظومة النهر البيئية المائية. وكذلك لعبت المرامل ومغاسل الرمول الواقعة على ضفة النهر وفي الجبال الغربية لحوض النهر، والمرتبطة بمجراه مائيا عبر الينابيع الجارية ومجاري السيول الشتوية المتجهة نحو وادي مجرى النهر، دورا جسيما في تغيير مورفولوجية تخت النهر عبر تراكم الترسبات الرملية والطينية والطميية بكميات هائلة غيرت من خصائصه وأثرت على مميزات الحياة فيه.
واقع مجرى النهر
حوالي 2 كلم من جدار سد القرعون باتجاه الجنوب هي مجرى جاف خالٍ تماما من الماء. تفتح مخارج جدار السد لتنظيم مستوى المياه في بحيرة القرعون ولمنع فيضانها، خصوصا في السنوات الغنية بالمتساقطات. ولكن في سنوات الشح لا تفتح إلا نادرا جدا لتلبية حاجة مشروع ري القاسمية بقليل من الماء في حالات نادرة. لم يتم فتح هذه المخارج خلال السنوات الخمس الأخيرة، إلا ما حصل خلال شهر أيلول (سبتمبر) 2016، حيث فتح دون إعلان مسبق لمدة بضعة أيام وأعيد إقفاله.
تصب مجارير بلدة “سحمر” مباشرة في مجرى النهر الجاف من مياهه، وتجري فيه لمسافة حوالي 3 كلم محدثة “نهرا” من المياه المبتذلة، حيث يتم إشباع مجراه بالمياه الملوثة. بالإضافة إلى مخاطر تلويث مجرى النهر، ومياه النهر عند سريانها فيه في فصل الشتاء، أو عند فتح مخارج جدار سد القرعون، هذه المياه المبتذلة عالية التلوث تهدد بتلويث المياه الجوفية في حوض النهر وتحت مجراه مباشرة.
بعد “نهر” مجارير سحمر هناك مجرى جاف كليا لمسافة تقارب 1.5 – 2 كلم، قبل أن تتدفق مياه نفق معمل مركبا الكهرومائي في مجرى النهر.
أول مياه تتدفق في مجرى نهر الليطاني، في قسمه الأسفل (جنوب سد القرعون)، على بعد حوالي 7 كلم عن جدار سد القرعون، حيث يكون المجرى جافا من المياه، باستثناء المياه المبتذلة لبلدة سحمر التي تشغل حوالي 3 كلم من هذا المجرى، هي المياه الخارجة من نفق معمل مركبا الكهرومائي. وهذه المياه هي خليط من مياه بحيرة القرعون ومياه عين الزرقا الواقعة جنوب السد، والمحبوسة عن التدفق في مجرى النهر لاستخدامات أخرى، أهمها الضخ عبر أنفاق أنان وبسري والأولي مع مياه البحيرة لتوليد الطاقة الكهرومائية في معامل منطقة أنان – بسري – الأولي، بالإضافة إلى تغذية بعض القرى بالمياه العذبة. تقدر كمية المياه الخارجة من النفق بحوالي 2 – 2.5 متر مكعب بالثانية. على الرغم من اختلاطها بمياه النبع العذبة، تفوح من هذه المياه رائحة كريهة جدا، تشير إلى أن مياه البحيرة عالية التلوث، وإلى أن عمليات تفكك لاهوائي للمواد العضوية تتم في المستويات المتوسطة والسفلى من مياه البحيرة نتيجة غنى هذه المياه بالملوثات العضوية الآتية من مصبات المياه المبتذلة العديدة، وكذلك من مياه الصرف الصناعية لمختلف أنواع الصناعات، بما فيها الصناعات الغذائية والتعليب ومشتقات الحليب، من جهة، ومن جهة أخرى لفقرها بالأوكسجين نتيجة استهلاكه شبه الكامل من عمليات تفكك الملوثات العضوية والكيميائية بنتيجة النشاط البكتيري والتفاعلات البيوكيميائية والكيميائية.
يبدأ التغيُّر الجذري في طبيعة مياه النهر ومجراه والعديد من المؤشرات، التي تحدِّد وضعه المورفولوجي، في منطقة تمرا – جسر لحد، وكذلك وضعه كمنظومة بيئية مائية كانت متوازنة، وهي الآن تفقد توازنها تدريجيا. من هنا تبدأ بالظهور المتغيرات التالية: يزداد اللون الداكن ويأخذ مزيدا من الألوان (رمادي – بني – برتقالي – أصفر – مضافا للون الأخضر الداكن) المتأثرة بالترسبات الرملية والطينية والطميية التي ترمى فيه بكميات هائلة، من المرملة الكبرى التي تقع بمحاذاة الضفة الشرقية مباشرة، أي على مسافة أمتار قليلة (2-3 متر)، ومن مغسل الرمل الذي يقع على مسافة بضعة مئات الأمتار في الجهة الشرقية أيضا، ولكن على بعد حوالي 1 – 1.5 كلم عن ضفة النهر بانحدار قوي جدا باتجاهه، وهذا ما يسمح بتدفق المياه في سيول متجهة نحو النهر حاملة الرمول والطين والطمي والأتربة إلى مجراه، بالإضافة أيضا إلى ما يحمله عدد من الينابيع الجارية، القادمة من المرامل الموجودة في الهضاب والجبال ضمن حوض النهر من الجهة الغربية لمجراه، من ترسبات رملية تتميز باللون البرتقالي القوي. في هذه المنطقة، المياه عكرة وغير صافية نهائيا، بل وتصبح أكثر تعكرا مع أي تدخل يحرك الترسبات الطينية والرملية المتراكمة في قعر مجرى النهر.
يلاحظ هنا توسع مجرى النهر ليشمل ضفة من الترسبات الطينية تغطيها الطحالب بكثافة، وهذا ما يدل على وجود تلوث عضوي عالٍ مرتبط بتدفقات المياه المبتذلة وما شابهها من تدفقات لناحية غناها بالملوثات العضوية والمغذيات الفوسفاتية والنيتراتية Eutrophication، ويدل أيضا على وجود ترسبات رملية وطينية وطميية بلغت مستوى كبير من التراكم جعل من قعر النهر مستويا، وهذا ما يعني تبدل كبير في طبيعة تخت مجرى النهر، بدءا من هذه المنطقة باتجاه مساره جنوبا وبعد ذلك غربا نحو مصبه.
يعود تراكم كميات كبيرة جدا من الرمل والطين والطمي بدءا من هذه النقطة بالذات إلى وجود مرملة كبيرة تعود للسيدين “بدير وجهاد العرب” بمحاذاة الضفة الشرقية للنهر على بعد أمتار من مجراه. وأظهرت زياراتنا الميدانية لموقع تمرا – جسر لحد، ولموقع المرملة كله، علاقة أكيدة بين نشاط هذه المرملة، التي تقع في مكان غير مصنَّف حسب المخطَّط التوجيهي، وبين الكميات الهائلة للترسبات الرملية والطينية والطميية في قعر مجرى النهر.
يوجد أيضا في موقع تمرا – جسر لحد، مؤشرات إضافية هامة جدا على أسباب تلوث النهر بالترسبات الرملية الملوَّنة بالبرتقالي والأصفر، التي لوَّنت مياه النهر في فترات سابقة، وشاهدها اللبنانيون على شاشات التلفزة ووسائل الإعلام. تصب في مجرى النهر على مقربة من جسر لحد نبعة ماء تأتي من الهضاب والجبال في الجهة الغربية لحوض النهر تحمل معها ترسبات واضحة من الرمال البرتقالية.
الزرايرية – موقع تحويل مياه النهر إلى قناة ري القاسمية
في هذا الموقع هناك سد صغير لتحويل مياه النهر كلها إلى قناة ري القاسمية، التي تنقل كل مياه النهر لري بساتين منطقتي صور وصيدا.
في حين تذهب مياه النهر كلها في مجرى القناة، يبقى مجرى النهر جافا كليا من هذه النقطة وحتى المصب في القاسمية، أي على مسافة تقارب الـ 9 كلم.
على بعد بضع مئات من الأمتار غرب موقع سد الزرايرية وعلى امتداد مجرى النهر الجاف، تقوم بعض المقاهي والمنتزهات بحفر آبار إرتوازية على ضفة النهر الجنوبية، وتسحب عمليا من المياه الجوفية في حوض النهر تحت مجراه، وتستعمل لملء أحواض السباحة للمتنزهين واستعمالاتهم. يعاد تفريغ هذه المياه عند تبديل مياه الأحواض، وكذلك صرف مياه الإستعمال إلى مجرى النهر الجاف من مياهه الأصلية، مكونة مستنقعات من المياه الراكدة، والتي تتحول إلى مياه آسنة يوما بعد يوم.
مناقشة التغيرات على مورفولوجيا النهر – أسبابها وأثرها على توازن منظومته البيئية المائية
هناك متغيرات في مورفولوجيا النهر، ماءً ومجرى ومنظومةً بيئية مائية. أصابت مجراه تغيرات سبَّبها تراكم كميات كبيرة من الترسبات الرملية والطينية والطميية، محدثة تغيرات كبيرة وهامة، طاولت الطبيعة التكوينية لتخت مجراه، الذي كان صخريا وحصَويا فإذا به يستحيل رمليا وطينيا، وعلى ارتفاعات هامة غيَّرت من شكل وسرعة انسيابه، محدثة مساحات من الرمول والطين احتلت أجزاء من عرض مجراه، مساعدة على تكوين بنية نباتية طحلبية، هي نتيجة لتلوث عضوي تنامت حتى أصبحت سببا لتلوث مياه النهر إضافة إلى كونها نتيجة لهذا التلوث المترافق بتراكم الترسبات في تخت مجراه.
إبقاء مجرى النهر جافا من أي قدر من مياهه على طول 7 كلم من جدار سد القرعون حتى مخرج نفق معمل مركبا الكهرومائي، وكذلك إبقاء الجزء الأخير من مجراه جافا من أي قدر من مياهه على طول حوالي 9 كلم من سد الزرايرية، من نقطة تحويل مياه النهر إلى قناة الري وحتى مصبه في القاسمية.
سببان أساسيان للتغيرات الكبيرة في مورفولوجيا النهر:
الأول، سوء إدارة الموارد المائية لسد القرعون ومياه نهر الليطاني، والثاني، تراكم الترسبات الرملية والطينية والطميية على طول مجراه من نقطة “تمرا – سد لحد”، بسبب نشاط المرامل ومغاسل الرمل على ضفته الشرقية، وكذلك أيضا تلك الموجودة في الأعالي الغربية من حوض النهر والمرتبطة به مائيا عبر الينابيع الجارية ومجاري السيول الشتوية التي تصب فيه.
سوء إدارة الموارد المائية
نحن نعتبر أن إبقاء مجرى النهر جافا على طول عدة كيلومترات يشكل تدخلا فظاً وقاسياً ضد سلامة وصحة منظومة النهر البيئية المائية. ويحصل هذا نتيجة سوء إدارة للموارد المائية لمياه سد القرعون ومياه نهر الليطاني عموما، إذ يتم التعامل معه من قبل كل السلطات المائية المعنية باعتباره كمية مياه متحركة في “الفضاء”، لا باعتباره منظومة بيئية مائية حيوية، يرتبط بها عالم متكامل من الحياة المائية والبرية والمصالح للعديد من السكان والمجتمعات المحلية. وبتجاهل كلِّي لدينامية هيدروجيولوجية النهر، باعتباره حركة حيوية دينامية بين مياه النهر السطحية المتحركة في مجراه بعد إشباعه وريِّه الكامل، وبين المياه الجوفية في حوضه وتحت مجراه وبموازاة مساره. تتجلى هذه الدينامية بتبادل عالي الأهمية في حياة الأنهر وسلامة اتزانها، بين المياه السطحية الجارية وبين الأحواض الجوفية، حيث تغذي المياه السطحية للنهر أحواضه الجوفية في أماكن معينة، وفي أماكن أخرى، تتفجر المياه الجوفية ينابيعا تغذي مياه النهر السطحية، ويستمر هذا التبادل المائي (الهيدروجيولوجي) على مدار الزمن وعلى امتداد مجرى النهر وحوضه.
إن سوء إدارة الموارد المائية لسد القرعون ولمياه نهر الليطاني شكل واحدا من أسوأ التدخلات التي شوَّهت مورفولوجية النهر وخرَّبت اتزانه البيئي وساهمت في إعدام الحياة فيه.
نسجل على سلطات المياه المعنية إنتماءها إلى نظريات بائدة في إدارة الموارد المائية والأنهر والمنظومات البيئية النهرية، فهي لا ترى في النهر إلا كمية من المياه، تحركها كيفما اتفق، دون مراعاة لأي معايير أو مفاهيم بيئية علمية أو تنموية مستدامة.
هي تحمل نظرة مبتورة حيال المياه، نظرة قوامها “الكمِّية”، لا تكترث لما يصيب مواردنا المائية، السطحية والجوفية، بما فيها تلك المتفجرة على كل الارتفاعات وفي كل المناطق، من تلوث فظيع من كل المصادر، وهي تنظر إلى المياه كمعطى كمِّي، منفصل عن الطبيعة التي تنظِّم دورته، وعن ما تكوِّنه في أشكال وجودها من منظومات متكاملة، تتكامل وتتداخل مع منظومات أخرى، هي في حالة تفاعل لا يهدأ ولا ينتهي.
هل تمَّت المحافظة على وحدة النهر المورفولوجية كمنظومة واحدة متكاملة ومتتابعة ومستمرة؟ بالتأكيد ليس كذلك، حيث قُطِّعت أوصاله إربا، وخُرِّبت مجاريه، ودُمِّرت منظوماته، وتدهورت حالته، ليس فقط عبر تلويث مياهه، بل بتغيير كبير في طبيعة مجراه ومحيطه.
إن تزايد الوعي البشري عن الجوانب البيئية والإيكولوجية أدَّى إلى حدوث تغيُّرات جذرية بشأن الإستثمار الإستنزافي للموارد المائية الطبيعية. وجعل من مفاهيم “جودة” الموارد المائية تساوي بأهمِّيتها، بل تفوق المفاهيم “الكمِّية”، حيث أن استعمالات المياه المختلفة تتطلب مستويات مختلفة من معايير الجودة. إن لم نحافظ على الموارد المائية الطبيعية بمواصفات تلائم تلك الإستعمالات، فسيؤدي ذلك إلى ارتفاع كبير في كلفتها، مما يحمِّل عمليات الإنتاج، وكذلك مجمل الإقتصاد الوطني، أثقالا إضافية من شأنها أن تعيق عملية التنمية والتطور.
هناك تدخلات ثقيلة من حيث استمرارها وشدَّتها على منظومات النهر البيئية، مما أثر بشكل سلبي كبير على جريانه مع تغير الفصول، مثيرا تغيرات هامة في حجم تدفقات المياه فيه.
نحن ندعو إلى الإهتمام بالمنظومات البيئية النهرية، والإقرار بأن المنظومات البيئية المرتبطة بالمياه يجب ألا تتعرَّض للخطر، ولا أن تتحوَّل إلى ضحية رخيصة تحت شعارات “التنمية”.
هل جرى احترام مفهوم “التدفقات البيئية” للنهر؟ هذا بالطبع ما جرى تجاهله الكامل في سياسات وممارسات كل إدارات سلطة المياه في لبنان حيال نهر الليطاني، بعد سدِّ القرعون مباشرة، وكذلك في نهاياته قبل المصب.
تُعرَّف “التدفقات البيئية” للنهر Environmental Flows باعتبارها “نوعية وكمية وتوقيت التدفقات المائية المطلوبة للمحافظة على مكوِّنات ووظيفة وعمليات ومرونة المنظومات البيئية المائية، التي تقدم السلع والخدمات للناس”.
يقول إعلان “بريسبان” Brisbane Declaration، الصادر في أستراليا في شهر أيلول (سبتمبر) من العام 2007 “إن التدفقات البيئية هي أساسية من أجل صحة المنظومات البيئية للمياه العذبة ولرفاه الإنسان”. ويعرِّفها بأنها “تصف نوعية وكمية وتوقيت التدفقات المائية المطلوبة للمحافظة على المنظومات البيئية للمياه العذبة ولمصبَّات الأنهر ولحياة الناس ورزقهم ورفاههم المرتبطة بهذه المنظومات البيئية”.
واحدة من أهم مقولات إعلان “بريسبان” تقول بأن “تدفق مياه النهر إلى البحر ليس هدرا للمياه”. فهل يحترم هذا المفهوم في استراتيجيات وسياسات المياه عندنا، في كل إدارات سلطة المياه ومؤسَّساتها؟
تشتمل المنظومات البيئية للنهر، ليس فقط على الأحياء الحيوانية والنباتية التي تعيش فيه، بل أيضا تلك التي تعيش في مجاله المائي، والأراضي الرطبة التي تتغذى بمياهه عند جريانه العادي وفي أوقات فيضانه، وتشمل أيضا المنظومات البيئية المرتبطة بالمياه الجوفية المدعومة من تسرُّبات النهر ومصبِّه، كما وتشمل مجمل المصالح الإقتصادية والإجتماعية للسكان في حوضه.
يتضمن تعريف “التدفقات البيئية” Environmental Flows (EF) ثلاث مكوِّنات رئيسة، النوعيَّة والتبدُّل والكمِّية، وهي بتكاملها وبارتباطها تكوِّن مفهوم التدفقات البيئية.
مكوِّن التبدُّل هنا يشير إلى أن كمية المياه ليست ثابتة في كل الأوقات، ولكنها دائما ليست صِفرا، كما هي الحال في بعض مقاطع نهر الليطاني جنوب جدار سد القرعون، وقبل مصبِّه، من حدود الزرايرية وحتى القاسمية.
نشأ مفهوم “التدفق البيئي الأدنى” Minimum Environmental Flow وهو كمية المياه الدنيا الضرورية لأن تستمر بالتدفق في مجرى النهر بعد السدِّ، أو بعد أي تدخل آخر، من نوع تحويل مياه النهر في قناة للري أو ما شابه ذلك، لكي تحافظ على التوازن الإيكولوجي في مجرى النهر بعد السد. تثبَّت هذا المفهوم وأصبح سائدا في العام 1970، حيث يجب أن يستمر تدفق حد أدنى من مياه النهر في مجراه لأسباب بيئية وجمالية وحياتية.
جرى إدخال مفهوم “التدفق البيئي” في التسعينيات من القرن الماضي في التشريعات الدولية والتوجيهات الأوروبية في بريطانيا والإتحاد الأوروبي.
من هنا، علينا أن نبدأ من اعتبار النهر منظومة بيئية مائية، في مياهه ومجراه ومحيطه، ونضع السياسات والإستراتيجيات والخطط والممارسات التي تحترم هذا الإعتبار وتنطلق منه. فالنهر ليس كمِّية من المياه، لا اعتبار لجودتها، فنمعن بتلويثها، ونسكت عن رمي كل الأوساخ والملوِّثات فيها، ونمارس كل الموبِقات بحقِّها دون حسيب أو رقيب. والنهر منظومة بيئية متكاملة لا يجوز تقطيعها أو تدميرها، أو قتل الحياة في أقسامها بتجفيفها، أو بمنع “التدفقات البيئية” عنها، كي نُبقي الحياة فيها على اتزان وانتظام.
سوء مواقع وإدارة المرامل ومغاسل الرمول على ضفته وفي الجبال الغربية من حوضه والتقصير بالمراقبة والرصد
شكَّل تراكم الترسبات الرملية والطينية والطميية في مجرى النهر، من نقطة “تمرا – سد لحد” وحتى مصبه، تدخلا فظيعا على سلامة تخت مجرى النهر، وعلى مورفولوجيا النهر، وعلى المنظومة البيئية المائية للنهر، وعلى ديمومة الخدمات والمصالح الإقتصادية والإجتماعية لسكان حوضه على امتداد هذا المسار من مجراه. وجاء هذا من سوء مواقع وعمل وإدارة المرامل ومغاسل الرمول على ضفته، وكذلك تلك الموجودة في الجبال الغربية من حوضه، والموجودة على حرم ينابيع للمياه أو مجاري سيول شتوية، أي تلك المرتبطة بمجرى النهر مائيا عبر الينابيع الجارية على مدار الساعة ومجاري السيول الشتوية، أثناء فصلي الشتاء والربيع، خلال فترة ذوبان الثلوج وتفجر الينابيع وزيادة تدفقها.
أدى ذلك بالفعل، إلى تغيير في لون الماء الجارية فيه، وإلى زيادة كبيرة في تراكيز الجزيئات الصلبة العالقة فيه، ونسبة الترسبات، مما غير كليا في طبيعة مجرى النهر، التي كانت صخرية – حصَوية، فأحالها رملية – طينية – طميية. وهذا ما أدى إلى إعاقة سلامة حياة الأحياء المائية فيه، حيث دُمِّرت موائل الأسماك وغيرها من الأحياء النهرية، وأدى ارتفاع نسبة الجزيئات الصلبة العالقة في المياه (أي عكرتها) إلى نفوق الكثير من الأسماك خنقا، حيث تعلق الجزيئات الصلبة في خياشيمها فتؤدي إلى اختناقها، إضافة إلى النقص في كمية الأوكسجين الذائب في المياه.
أدى تراكم هذه الكميات الهائلة من الترسبات الرملية والطينية والطميية في مجرى النهر إلى إفقاد النهر لكل ميزاته الجمالية والجاذبة للمتنزهين، فأعدم قيمته السياحية مما أدى إلى الإضرار بمصالح ألوف الناس من المستفيدين من الخدمات السياحية – الإقتصادية – الإجتماعية للنهر ومجراه، من أصحاب المقاهي والمنتزهات والإستراحات ونوادي الرياضة النهرية، وكذلك لروادها من العائلات الجنوبية واللبنانية عموما، التي تقصده للترفيه ولقضاء العطل والأعياد، وهؤلاء من محدودي الدخل ومتوسطي الحال بشكل عام.
إن وجود المرامل على مقربة مباشرة من مجرى النهر، ولا سيما أن مواقعها غير مصنفة، وحتى طريقة الترخيص لها تشوبها الشوائب، إذ أن معظمها يعمل بـ”رخص إدارية” تجدد كل ثلاثة أشهر من وزارة الداخلية، مقابل مبالغ طائلة، حسب ما يقوله الكثيرون من العارفين في هذا القطاع. فالسؤال الذي يطرح نفسه، هل هذه المبالغ الطائلة هي رسوم وضرائب تعود لخزينة الدولة، أم هي تحمل عناوين أخرى؟ هذا الأمر ربما يتطلب تحقيقا مفصلا وعميقا للإجابة عليه. ولماذا يتم اللجوء إلى الإلتفاف على آليات الترخيص القانونية الصحيحة وفق القوانين والأنظمة التي تنظم عمل هذا القطاع؟ ولماذ يتم اللجوء أيضا إلى ما يسمى رخص “استصلاح أراضٍ” لتغطية استخراج الرمول ونهش الجبال وتشويهها؟ لماذا هذه الأشكال من التراخيص لا تتضمن شروطا بيئية على المرامل ومغاسل الرمول احترامها وتنفيذها خلال استثمارها؟ وشروطا لإعادة تأهيلها بعد الإستثمار؟ ولماذ لا تقوم الوزارات المعنية بالمراقبة البيئية على هذه المرامل ومغاسل الرمول، لتطلب منها وضع حواجز صخرية أو إسمنتية تحول بشكل فعال وكامل دون إنجراف الرمول والطين والطمي ومياه غسل الرمول إلى مجرى النهر مباشرة، أو بواسطة الينابيع الجارية ومجاري السيول الشتوية؟
إن ما وصل إليه النهر، في هذا الجزء الحيوي من مساره جنوبي جدار سد القرعون، وبالتحديد من منطقة “تمرا – جسر لحد” وحتى مصبه، من حالة مذرية لناحية تراكم الترسبات الرملية والطينية والطميية فيه، وما ترافق مع ذلك من تدمير للنهر والحياة فيه ولكل ميزاته البيئية والمائية، ولتخريب مجموعة الخدمات الإقتصادية والإجتماعية والسياحية المرتبطة به لسكان حوضه، إنما يتحمل مسؤوليته الكاملة أصحاب ومشغِّلي المرامل ومغاسل الرمول، وكذلك التقصير المريب لكل الوزارات والإدارات المعنية بالترخيص ووضع الشروط البيئية وبالمراقبة والرصد والمتابعة.
ملاحظات على خطة الدولة لمعالجة تلوث نهر الليطاني
أقر مجلس النواب اللبناني يوم الأربعاء في 19 تشرين الأول (أكتوبر) 2016، في جلسة “تشريع الضرورة”، التي انعقدت مع بداية الدورة العادية للمجلس النيابي، إعتمادات بقيمة 1100 مليار ليرة لبنانية (أي حوالي 733 مليون دولار أميركي) لتنفيذ مشاريع معالجة التلوث في نهر الليطاني من منبعه حتى مصبه، إضافة إلى الموافقة على إتفاقية قرض البنك الدولي بقيمة 55 مليون دولار أميركي، ضمن خطة يمتد تنفيذها لمدى سبع سنوات.
نرحب بإقرار هذا القانون، ولكن ذلك لا يمنعنا من تسجيل بعض الملاحظات التي كنا نأمل أن تتضمنها الخطة، التي أقر المجلس النيابي اعتمادات مالية ضخمة لتنفيذها.
كان من الأصوب أن يتم أولا تحديد تفصيلي للمشاريع المنوي تنفيذها في إطار وقف كل أسباب التلوث التي ترمى في النهر أو في حوضه. ولا سيما مشاريع معالجة مياه الصرف الصحي التي تصب منذ سنوات طويلة ولا تزال بشكل مباشر في النهر أو غير مباشر في حوضه، من كل القرى والبلدات والمدن الواقعة في حوض الليطاني في قسميه البقاعي والجنوبي، ومعالجة النفايات الصلبة المنزلية وإزالة المكبات العشوائية المنتشرة في حوض النهر، وإقامة معامل الفرز والمعالجة الكافية لإدارة سليمة بيئيا لمجمل كميات النفايات المتولدة في هذا الحوض. وبعد ذلك يتم تقدير كلفة هذه المشاريع التفصيلية، وعلى ضوئها تقر الموازنات المطلوبة على هذا الأساس. وليس كما يحصل الآن، وكما أقر في مشروع القانون، أن تتحدد الموازنات على ضوء عناوين عامة للمشاريع.
نحن لا نرى من الواجب أن تتولى الدولة من المال العام، أي من جيوب اللبنانيين، معالجة التلوث الصناعي، الذي يتدفق من تلك المصانع إلى النهر وروافده وحوضه. فهذا أمر من واجب الصناعيين أنفسهم، وأصحاب المصانع الملوِّثة تنفيذه على نفقتهم، وفق ما تنص عليه التشريعات والقوانين البيئية اللبنانية، ولا سيما القانون 444 للعام 2002. يُطلب هذا من المصانع الملوثة، أن تقوم بوضع خطة لمعالجة نفاياتها السائلة الصناعية، إما بمحطات مشتركة في المناطق الصناعية المصنفة، وإما بمحطات خاصة لكل مصنع حسب طبيعة صناعته وفئة تصنيفها وطبيعة النفايات السائلة الصادرة عن عملياته. تُنفذ هذه الخطة وفق برنامج زمني واضح ومحدد المهل، على أن تواكب الوزارات المعنية، وزارة الصناعة ووزارة البيئة، وضع وتطبيق ومراقبة تنفيذ هذه الخطة بسياسة مواكبة تتضمن مجموعة من المحفزات المادية والمعنوية. وربما أهم هذه الإجراءات مشروع دعم الصناعة اللبنانية للإمتثال البيئي، الذي تشارك فيه، إضافة لوزارتي الصناعة والبيئة، وزارة المالية ومصرف لبنان ووكالات أجنبية.
ليس على الدولة مهمة معالجة التلوث الصناعي، التي هي مهمة الصناعيين أنفسهم، بل على الدولة مواكبة هذه العملية بحزمة من المحفزات لتسهيل تطبيق الخطة ومراقبة حسن تنفيذها واستمراريتها.
نحن نرى ضرورة أن تشمل خطة معالجة تلوث الليطاني وبحيرة القرعون كل قرى وبلدات ومدن حوض الليطاني على امتداد الـ 170 كلم لمسار النهر، دون استثناء أي قرية، لا في البقاع ولا في الجنوب. هذا أمر على غاية من الأهمية، إن لجهة سلامة تطبيق الخطة أو لجهة العدالة المطلوبة في تطبيقها. يمكن أن تتحول خطة الليطاني، إذا ما توافرت فيها كل هذه المقومات، إلى نموذج ممتاز لاعتماده في كل أحواض الأنهر في لبنان.
لاحظنا إستثناء بعض القرى والبلدات في الجنوب، ربما لاعتبار أن مسألة الصرف الصحي عندها قد عولجت، ونحن لا نوافق على هذا التقدير بالمطلق، فوجود بعض المشاريع في عدد من هذه القرى والبلدات، مثل يحمر الشقيف وزوطر الشرقية وكفر صير، لا يلغي الحاجة إلى تقييم موضوعي لفعالية هذه المشاريع وحسن عملها، وتقييم ما إذا كانت كافية وفعالة لدرء مخاطر التلوث عن نهر الليطاني وحوضه، أو أنها قابلة لأن تتحول إلى مصدر متجدد لتلويثه.
في ما يتعلق بالمدة الزمنية لتطبيق الخطة، كانت المسودات الأولى لمشروع الخطة تتحدث عن مدة سبع سنوات. وكانت قد أقرت لجنة المال والموازنة النيابية في جلستها يوم 4/9/2013 تخفيض هذه المدة إلى خمس سنوات لتنفيذ كامل الخطة. المدة التي أقرها المجلس النيابي هي سبع سنوات، حيث جرى تجاهل تعديل لجنة المال والموازنة النيابية.
نحن نرى أن المهلة المعقولة لتنفيذ خطة معالجة أسباب تلوث الليطاني يجب أن لا تتجاوز الثلاث سنوات. حيث أن إطالة مدة تنفيذ الخطة تعتبر مؤشرا سلبيا على الجدية المطلوبة، والفعالية المطلوبة لمعالجة الأزمة العميقة والخطيرة لتلوث الليطاني وبحيرة القرعون.
نحن نعتبر أن هذا التلوث الواقع على النهر والبحيرة، من حيث حجمه وعمقه وأنواعه ومخاطره، يجعل من الثروة المائية، التي يمثلها النهر والبحيرة، خارج احتساب كامل الثروة المائية اللبنانية، نظرا لتلوثها الخطير وعدم ملاءمتها لأي من الإستعمالات المفترضة، حتى أن استعمالها للري يترافق بمخاطر محتملة. وبالتالي، فإن الإسراع في إزالة أسباب التلوث عن النهر هي ضرورة وطنية على درجة عالية من الإلحاح، لا تعرف التأجيل ولا المماطلة.
في ما يتعلق بالمرامل ومغاسل الرمول الواقعة على ضفة النهر مباشرة في مجراه جنوبي سد القرعون، يجب أن يتم إقفالها نهائيا، وأن يتم إلزامها بإقامة حاجز صخري أو إسمنتي يحمي مجرى النهر من جرف الرمول والطين والطمي.
وكذلك الأمر بالنسبة للمرامل الواقعة في الجبال الغربية في حوض النهر، والتي تقع على ينابيع أو مجاري سيول شتوية، يجب أن تقفل نهائيا، وأن يتم إلزامها بإقامة حواجز صخرية أو إسمنتية لمنع جرف الرمول والطين والطمي من الأعالي إلى مجرى النهر.
إن أخذ هذه الملاحظات السريعة بعين الإعتبار من شأنه أن يجعل من الخطة التي أقرها مجلس النواب أكثر فعالية وعقلانية في تحقيق الأهداف التي وضعت من أجلها بالأساس.
على الإستراحات والمقاهي والمطاعم والمنتزهات والنوادي الواقعة على ضفتي النهر من سد القرعون حتى المصب في القاسمية أن تعالج مياه الصرف الصحي التي تتولد عن نشاطها، وذلك بتنفيذ “حفرة صحية نظامية” Regular Septic Tank وفق معايير نقابة المهندسين، وهي عبارة عن حفر تجميعية صماء، على بعد كافٍ عن مجرى النهر (مسافة تساوي على الأقل عرض مجرى النهر في موقع المؤسسة).
أما المؤسسات الكبيرة، فعليها بناء وتشغيل محطة لمعالجة المياه المبتذلة بقدرة كافية لمعالجة كميات مياه الصرف الصحي المتولدة عن نشاطها.
إن أزمة الليطاني وبحيرة القرعون ليست فقط أزمة تلوُّث، بل هي أيضا أزمة حقيقية لإدارة الثروة والموارد المائية، إن لناحية الحفاظ على جودتها ووقف كل أشكال وأسباب تدهور هذه الجودة، أو لناحية الإستخدام الفعال للثروة المائية، والحد من هدرها وتبديدها وفوضى استهلاكها، كما هو سائد اليوم.
هذه الأهداف، على مستوى حماية الثروة المائية من التلوث والمحافظة على جودتها، وعلى مستوى حسن إدارتها وعقلنة استخدامها وفق استراتيجيات ورؤى حديثة لإستثمار الثروة المائية، يتطلب تحقيقها العمل على إحداث تطور نوعي على المستويات التالية:
على مستوى السياسات والإستراتيجيات الوطنية المتعلقة بالثروة المائية، وفي القلب منها نهر الليطاني.
على المستوى التشريعي، حيث هناك حاجة عميقة لتحديث الكثير من التشريعات والقوانين والأنظمة والمراسيم ولوائح المواصفات، ولوضع تشريعات جديدة ضرورية لتتلاءم مع السياسات والإستراتيجيات الجديدة المطلوبة.
على المستوى المؤسسي، إن المؤسسات التي تعنى بتنفيذ السياسات المائية في لبنان، وفي القلب منها المؤسسات المعنية بالليطاني وبحيرة القرعون، قد فشلت فشلا ذريعا في تحقيق الأهداف والإسترايتجيات التي وضعت من أجلها. وهناك الحاجة إلى تطوير مؤسَّسي، لا بد أن يطاول استحداث مؤسسات وهيكليات وبنيات وظيفية جديدة، تتلاءم مع ضرورة تنفيذ السياسات والاستراتيجيات الجديدة، والخطط والبرامج والمشاريع المنبثقة عنها. وهنا لا بد من التأكيد على أن هناك ضرورة حقيقة لاستحداث مواقع وظيفية لأصحاب إختصاص بيئي إيكولوجي في هيئات إدارة الثروة المائية. فهذه الثروة ليست كميات من المياه تسبح في “الفضاء”، بل هي منظومات بيئية مائية حيوية، علينا التعامل معها على أساس هذه الحقيقة العلمية، التي يتجاهلها واضعو الإستراتيجيات المائية في لبنان حتى اليوم. وهم يحصرون تعاملهم مع الثروة المائية ببعدها الكمِّي، وبتجاهل كامل للبعد النوعي، الذي يحتل أهمية كبرى في السياسات والاستراتيجيات العقلانية الحديثة لإدارة الثروة المائية، السطحية منها والجوفية.
على المستوى التنظيمي، وما يتطلبه من شفافية في تنفيذ الخطط والبرامج والمشاريع، والمشاركة الشعبية الجادة والفعالة فيها. فالعالم اليوم يعيش عصر المشاركة الفعالة للجمهور (للهيئات الشعبية) في صنع واتخاذ القرار. تجاوز العالم مرحلة “الإستماع” لرأي الجمهور Public hearing، وتجاوز أيضا مرحلة “التشاور” مع الجمهور Public consultation، ونحن نعيش اليوم مرحلة “مشاركة” الجمهور في عملية صنع واتخاذ القرار Public participation.