يختتم العام 2016 على عويل ونحيب الزملاء على مصير الصحافة. في الحالة اللبنانية تختلط مشاعر الحزن على اقفال صحيفة ورقية، مع مشاعر القلق من صرف تعسفي لزملاء صحفيين دون تعويض، وصولاً الى الحالة المستمرة للعمل دون أجر لأشهر عدة في الكثير من المؤسسات الاعلامية المقروءة والمرئية والمسموعة والإلكترونية.
يقود هذا الى سؤال عفوي: هل انتهت الصحافة كمهنة؟ وهل علينا نحن معشر الصحافيين ان نبحث عن مستقبل خارج “مهنة المتاعب”؟
لنفترض أن مجموعة من الصحافيين قررت إنشاء تعاونية صحفية، واستطاعت إقناع ناشر جريدة عازمة على الاقفال، استخدام العلامة التجارية والامتياز الصحفي، وقررت الاستمرار بالصدور.
الاستحقاق الجدي سيكون في إقناع “القراء الاوفياء”، انهم يلامسون همومهم وتطلعاتهم، لكنهم بالتأكيد سيكونون معنيين بجذب جمهور جديد من القراء. هل يمكن لهؤلاء ان يثبتوا بأن المنتج الصحفي لا يمكن ان يواجه الموت؟ وهل يمكن لهم تقديم المضمون الجدير بالقراءة، والأهم امتلاك عنصر الجذب والابتكار، ليس للمادة الصحفية فقط، بل لمنصة النشر التي تراعي مبدأ الشاشات الاربع وتنوع بين ملتي ميديا وانفو غرافيك وصحافة البيانات والخرائط والجداول التفاعلية؟
يقود هذا السيناريو المتخيل الى الانتقال الجدي من البحث عن مستقبل الصحافة الى البحث المعمق عن مستقبل الصحافيين. لن يستقيم نقاش خارج هذه المعادلة.
نظرياً يمكن ان يكون هناك صحافة خارج الإطار التقليدي المملوك من الشركات التجارية سواء التي تعدد فيها الشركاء، او المملوكة من عائلات، لكن لن يكون هناك مستقبل للصحافة بدون ان يكون هناك صحافيون يؤدون هذه المهمة، وهنا يكمن الفرق، كل الفرق!
بناء عليه لماذا لا يكون صلب النقاش حول مستقبل هذه المهنة متمحورا حول سبل العيش الكريم للصحافيين وتمكنيهم اقتصادياً واجتماعياً وحتى نفسياً، وتحسين قدراتهم على التكيف والمرونة، بدل النقاش العقيم الذي يدور في حلقة مفرغة وعنوانه العريض “متسقبل الصحافة”.
العنوان الوحيد القابل للنقاش هو “مستقبل الصحافيين”، وعدا ذلك لا يستحق جلسات العصف الذهني ولا البكائيات المملة على حيطان وسائل التواصل الاجتماعي.
بمعزل عن ما يحمله المستقبل، فإن التراجع الهائل لصناعة الجرائد، الذي نشهد ابشع فصوله مع اختتام العام 2016، يؤثر بشكل كبير على الصحافيين، كون الصحافة التقليدية كانت حتى وقت قرب مصدر الرزق الاساس لهؤلاء. وبديهي القول انه اذا لم يفتح اليوم النقاش حول مستقبل الصحافيين، فإن ذلك سيحدث ضرراً غير قابل للجبر في المستقبل. ان مهمة أنسنة الأزمة الصحافية، هي مهمة نبيلة، وجديرة بالمحاولة، لا مكان للتراجع والضعف في هذه اللحظة، التركيز يجب ان يكون اولاً واخيراً حول البشر وليس حول المؤسسات الاعلامية، الرومانسية السردية الحزينة حول بيروت المكلومة “بقهوة الصباح وجريدة المساء”، يجب ان تتوقف، وان تتوقف الآن!
بالتزامن مع هذا الواقع المأساوي، خلقت حالة الركود وعدم الاستقرار الوظيفي، كسلاً غير مسبوق في الجسم الصحفي، وهذه سمة عالمية غير محصورة ببلد ما دون سواه. لم تعد اهتمامات الغالبية العظمى من الصحافيين كشف المستور من الفضائح وقضايا الفساد والرشوة والتهرب الضريبي، وصولاً الى العالم السفلي للجريمة التي تبدأ بتبييض الاموال ولا تنتهي بالمخدرات والاتجار بالبشر. وسرعان ما بات هم طبقة من الصحافيين بناء شبكة من العلاقات العامة مع النوادي السياسية والاقتصادية الضيقة التي تستغل السلطة، وصارت وظيفة هؤلاء اتقان الحفاظ على اسرار اعضاء هذا النادي بدل فضحهم.
معلوم أن أزمة الصحافة البيروتية، ليست الازمة الاولى، ولن تكون الاخيرة، هذا النقاش مفتوح منذ عقدين من الزمن واكثر، وعلى امتداد هذه الفترة خسر الصحافيون وظائفهم في الصحافة التقليدية، لكن الصحافة استمرت، وهم استمروا في المهنة، ولم تتوقف عجلة الزمن.
لم يستمر الصحافيون بعملهم في الغرب عموماً، إلا لانهم كانوا قادرين على الانخراط في البدائل المتاحة، وهذه البدائل كانت فرص عمل في فضاء الانترنت، لم يسقط إلا من لم يعد نفسه جيداً لهذه الحقبة الجديدة التي تتطور بسرعة قياسية، هي بمثابة تيار جارف وسريع، والصحافي الناجح، هو السباح الذي يتقن صعود الموجة في الوقت الملائم وبالطريقة الملائمة.
خلال السنوات العشر الماضية، شعر غالبية الزملاء العاملين في الصحافة التقليدية، ان جل طموحهم ان يحافظوا على استدامة تقاضي رواتبهم، لم يحصل أحد منهم على زيادة على الراتب، وكانت الحجة دائماً تراجع السوق الاعلاني، وغياب الدعم السياسي.
في المقابل كانت الاسعار ترتفع، من التأمين الصحي الى التعليم والنقل والسكن والسلع. واليوم يواجه جيش من الصحافيين مصيراً أسود. يجري ابتزازهم للقبول بالصرف التعسفي مقابل تسديد المؤسسات الاعلامية للديون المستحقة لصالحهم من رواتب متأخرة، سرعان ما سيتم انفاقها على ديون اخرى تراكمت، ليجد هؤلاء انفسهم في وقت قصير تحت عتبة الفقر.
لا يمكن الخروج من هذا النفق، إلا من خلال البحث عن سبل جديدة للنشر من خلال شركات ناشئة استثمارية مستعدة لتمويل الصحافيين لاطلاق منصاتهم الخاصة والمستقلة. والاهم ان تكون هذه المبادرات خارج التقليد المقيت للحلقة الحالية التي ندور جميعنا داخلها. هذا ليس بتنظير، بل فكرة قابلة للتطبيق، وفي متناول اليد.
يحتاج هذا النوع من المبادرات الى بنية تحتية تقنية قادرة على خدمة الصحافيين المستقلين وتمكنيهم من كسب العيش. من اتاحة نشر المضامين الصحفية في منصات متعددة وبأسعار عادلة، ومن القدرة على الولوج الى الاسواق بعيداً عن الصيغة الاحتكارية الحالية التي تحصر العلاقة بين المعلن والصحفي من خلال شركات العلاقات العامة.
يستتبع كل ذلك تعميم فكرة “صحافي السكين السويسري”، اي الصحفي القادر على الكتابة والتصوير والمونتاج والدوبلاج والتصميم الغرافيكي والتهكير والنشر، هذا يعني نسف كامل للصيغة الحالية لمناهج التدريس في كليات ومعاهد الاعلام، التي يتوجب ان تعد الصحفي ليس فقط لامتلاك تقنية الكتابة، بل لأن يمتلك ايضاً القدرة على صياغة شراكات مع المؤسسات الاعلامية والاعلانية، وان يكون قادرا على امتلاك وسائط ووسائل النشر، وان يخرج الى غير رجعة من قوقعة الوظيفة التقليدية التي ستدفن عاجلاً أم آجلاً.
التضامن مطلوب في هذه اللحظة البيروتية الحزينة، والاستعداد للحقبة الجديدة يستدعي وسائل جديدة ومعركة من نوع آخر، ابرز اسلحتها الأمل وعدم فقدان الرغبة بالابتكار.