لن نهلل لـ “الهندسة الوراثية” Genetic engineering تحت أي إغراء، ومهما كانت المقاصد نبيلة، فالحياة بأشكالها المختلفة ليست حقل تجارب، ولا يمكن أن تكون كذلك، أي خاضعة لتعديل في مختبر، فيما هي نتاج اتخذ سماته الراهنة عبر ملايين السنين، وسط عمليات “صاغتها” الطبيعة وفق منظومة من القوانين المعقدة، واتخذت أشكالا أملتها جملة من العوامل في مسارات طويلة عبر الزمن.

ومن ثم من يعطي تفويضا للعلماء للتلاعب بالمادة الوراثية لأي كائن حي؟ وكيف يمكن للأطراف الموقعة على اتفاقية التنوع البيولوجي التي تم اعتمادها من قبل الأمم المتحدة، أن تعلن رفضها التام لمشروع قرار يحظر التعديل الوراثي؟

عملية معقدة

أشار علماء يوم الاثنين 2 كانون الثاني (يناير) إلى أنهم يعملون الآن على مشروع بيولوجي جديد أطلقوا عليه اسم “جين درايف” Gene drive، وسيقومون من خلاله بتعديل “جين” معين من أجل حقنه في بعض أنواع من الحشرات، وأن هذا الجين سيساعد إيجاد سلالات “محدودة الخصوبة” من بعوض الملاريا، ما سيؤدي مع مرور الزمن إلى انقراض هذا النوع من البعوض الناقل لمرض الملاريا!

لكن علماء آخرين أعربوا عن قلقهم من استخدام هذه التقنية في مجالات أخرى، الأمر الذي قد يتسبب، وفق ما ذكر موقع “روسيا اليوم” بـ “كوارث بيئية”.

ما يثير المخاوف أن التعديل الوراثي عملية معقدة، لا تحدث في الظروف الطبيعية ويستخدم فيها “الدنا المؤشب” Recombinant DNA، أي الحمض النووي معاد التركيب أو الحمض النووي المؤتلف، وهو شكل من أشكال الحمض النووي الصناعي الذي تم إيجاده عن طريق دمج سلسلتين أو أكثر لا يمكن تواجدهما في العادة معا خلال عملية وصل الجينات.

2

مجازفة

لا يزال العلم بعيدا جدا عن معرفة الآثار طويلة المدى للهندسة الوراثية، فالنتائج الأولية في المختبر، ليست مقياس النجاح، وهنا لا نتحدث عن سلعة، وإنما عن أشكال جديدة من الكائنات المتلاعب بجيناتها بعيدا من محيطها الطبيعي، وفي ما لو تم إطلاقها ستتفاعل ضمن البيئة التي يعيش الإنسان بين ظهرانيها، وقد تكون لها نتائج أخطر من الملاريا، وفي العلم لا يمكن استخدام المهارات والإبداع الإنساني على طريقة “الروليت الروسية”، والمجازفة محفوفة بالمخاطر.

لقد أكدت دراسات علمية حديثة على الخطر الذي بدأ يحيط بنا من الأغذية المعدلة وراثيا، وباتت تعرف في الغرب بـ “أغذية الرعب”، وبدأنا نشهد حملات واسعة لإتلاف المحاصيل المعدلة وراثيا، ففي أستراليا على سبيل المثال، قام ناشطو “غرين بيس” Green Peace بإتلاف وحرق محصول الذرة المعدل وراثيا، فكيف لو اعتمدت الشركات المتخصصة في صناعة الغذاء تسويق لحوم ومنتجات حيوانية معدلة وراثيا؟

القضاء على الأمراض!

لا بد من الإشارة هنا، إلى أن البكتيريا كانت أول الكائنات التي تمت هندستها وراثيا في العام 1973، ومن ثم تلتها الفئران في العام 1974، وقد تم بيع الإنسولين الذي تنتجه البكتيريا في العام 1982، بينما بدأ بيع الغذاء المعدل وراثيا منذ العام 1994.

وبالعودة إلى مشروع Gene drive، قال العلماء “إن احتمال انتقال الجين المعدل عبر الأجيال المتعاقبة من البعوض قد يصل إلى 50 بالمئة”، وأن التقنية التي يعملون عليها “تساعد على استنساخ هذا الجين عبر الأجيال المختلفة من الحشرات أو الكائنات الأخرى”، وأشاروا إلى أن فكرة المشروع الجديد قابلة للتحقيق ولاقت موافقة من قبل جميع الأطراف الموقعة على اتفاقية التنوع البيولوجي خلال اجتماعها في المكسيك.

ويزعم علماء البيولوجيا أن هذا الأمر سيساعدهم في القضاء على العديد من الأمراض والأوبئة، بما فيها الملاريا.

مجهولات

لا يخفى على أحد أن كبريات شركات الأدوية والأغذية تمول معظم هذه الأبحاث والدراسات، وثمة أهداف متوارية عنوانها تحقيق أرباح مضاعفة في المستقبل، وهذا ما يثير جملة من الهواجس، فـ “الهندسة الوراثية” يجب ألا تتخطى محيط المختبرات العلمية، فنحن نتعاطى مع مجهولات لا عهد لنا بها من قبل.

ربما يكون النجاح باهرا اليوم وكارثيا في المستقبل، ما يستوجب التريث إلى أن نتمكن من تأمين محاكاة طبيعية لما تتحفنا به مخيلة العلماء، قبل الشروع في اعتماد ما يعتبر إبداعا للعقل البشري، ولكن الإبداع هنا يبقى مجللا بأسئلة وتوجسات مخيفة.

الناشر: الشركة اللبنانية للاعلام والدراسات.
رئيس التحرير: حسن مقلد


استشاريون:
لبنان : د.زينب مقلد نور الدين، د. ناجي قديح
سوريا :جوزف الحلو | اسعد الخير | مازن القدسي
مصر : أحمد الدروبي
مدير التحرير: بسام القنطار

مدير اداري: ريان مقلد
العنوان : بيروت - بدارو - سامي الصلح - بناية الصنوبرة - ص.ب.: 6517/113 | تلفاكس: 01392444 - 01392555 – 01381664 | email: [email protected]

Pin It on Pinterest

Share This